24‏/10‏/2016

عن الحرب 57

عن الحرب 57


التراجع داخل البلاد

   نجن نعتبر التراجع المنظم والاختيارى إلى داخل البلاد شكلا خاصا من أشكال المقاومة المباشرة – شكل يستهدف تدمير العدو لا بالسيف بشكل أساسى ، بل بجهده هو ، ويتم التراجع إما لعدم التهيؤ والتخطيط لمعركة رئيسية ، أو يفترض وقوع المعركة بعد وقت طويل يكون العدو قد تكبد قدرا من الخسائر ، أو فقد الكثير من قوته . ويتعرض كل المهاجمين إلى نقص فى قواتهم أثناء التقدم .

   يزداد الوهن الذى يتعرض له المهاجم إن لم يتم دحر المدافع ، وتمكن هذا من التراجع بانتظام محتفظا بقوته القتالية سالمة وبحالة نشطة ، بينما ومن خلال مقاومة مستديمة وحسنة الإعداد والتنفيذ سيجعل المهاجم يتكبد المزيد ويدفع ثمنا لذلك من دماء رجاله نظير كل قدم يكسبه من الأرض ، ويتحول التقدم بذلك إلى ضغط ودفع أماميين للمهاجم وليس مجرد مطاردة .


   إلا أن الموقف سيختلف تماما إن كان الجيش المندحر مطاردا ، فستكون المقاومة صعبة جدا ، وإن كانت ممكنة أحيانا ، وذلك نتيجة لما تكبده المدافع من خسائر فى المعركة ، وفقدان النظام وروح الإقدام ، وما يثيره التراجع من هموم ومعضلات . 

والمطارد الذى كان عليه التحرك فى الحالة السابقة بمنتهى الحذر ، ملتمسا طريقه كالأعمى تقريبا ، بوسعه الآن التقدم وهو واثق من انتصاره ، مستفيدا وبكل عنفوان من فرصته ، حتى لكانه  (نصف – إله ) ، وكلما زاد من ضغطه وتقدمه ، كلما زاد تسارع الأحداث وفقا لما قرر عليه المهاجم مسبقا ، وفى مجال وأجواء كهذه يتضاعف كثيرا تأثير العوامل المعنوية ، دونما حاجة للتماشى مع تأثيرات المعايير والإجراءات المادية .

   أخيرا هناك اختلاف ولا تناسب فى التموين ، وغالبا ما يمتلك المدافع أكثر مما يحتاج إليه ، بينما يعانى المهاجم من نقص فادح وخطير .

   فللمتراجع وسائل ومعدات جمع المواد التموينية ، التى سبق له ترتيب أماكنها ، أما المهاجم ففى حاجة لأن ترسل مدخراته إلى الأمام – وهى مهمة صعبة طالما واصل تقدمه ، بغض النظر عن قصر خطوط مواصلاته ، فسيعانى من نقص التموين منذ البداية .

   سيكون الجيش المتراجع الأسبق وله اليد الطولى فى جمع ما يحتاجه ، وهوسيتنفذ الموارد المحلية تماما ، ولن يترك وراءه سوى مدنا وقرى مدمرة ، وحقولا جرداء بعد حصاد ما فيها من غلال ومحاصيل ، وأبارا جافة ووديان طينية زلقة .

   هناك اختلاف كبير بين أن يخسر أحد معركة فى جبهته وعلى حدوده وبين أن يخسرها فى قلب أرض العدو ، فى الحقيقة قد تصل حالة المهاجم عند نهاية شوطه ، وغالبا جدا ما يجبره حتى الانتصار على التراجع ، إذ قد لا يتيسر له احتياط كاف لمتابعة واستمثارانتصاره وتحقيق الكثير من خلاله ، كما يعجزعن تعويض خسائره


   إلا أن الفوائد الكبيرة للمدافع من هذه الطريقة يقابلها من جهة أخرى اخفاقين ، الأول ويتألف من الخسائر التى ستتكبدها البلاد كنتيجة لغزو العدو ، والثانى هو التأثير المعنوى . 

   لا يمكن أن يستهدف الدفاع حماية المنطقة من الضياع ، بل لابد أن يكون الهدف هو سلاما مرضيا ، وتلك غاية تستحق أن نتحمل من أجلها الكثير وحتى الجوع ، غاية لا يجوز معها اعتبار أية تضحيات مؤقتة من أجلها شيئا لا يطاق ، ومع ذلك ورغم أن خسارة الأرض قد لا تكون حاسمة ، لكنها يجب أن تندرج فى سجل الموازنة ، لأنها دائمة التأثير على مصالحنا .

   سيقوى التراجع ، القوات المقاتلة مباشرة ، والخسائر التى يتسبب بها لن تدمر الجيش مباشرة ، ولكن بطريقة ملتوية وبعيدة ، ومن الصعب المقارنة بين الفوائد والأضرار للاختلاف النوعى بينهما من جهة ولعدم وجود أرضية مشتركة بينهما من ناحية أخرى ، وكل ما يمكن قوله هو أن الخسائر ستزداد عند التخلى عن المناطق الخصبة ، الكثيفة السكان ، والمليئة بالمدن التجارية الكبيرة ، إلا أنها ستزداد أكثر إذا شملت المعدات الحربية أيضا ، سواء كانت تلك المعدات جاهزة أو ما زالت فى دور الإنتاج .

   الإخفاق الثانى ، نفسى ، إذ تمر أوقات لابد للقائد أن يرتفع فوقها ، متمسكا بكل هدوء بخطته الأصلية ، مواجها كل الاعتراضات التى يثيرها خائروا القوى من حوله ، رغم أن أثر انطباعات واعتراضات كهذه ، ليس مجرد وهم شبحى مما يسهل استبعاده أو تجاهله ، فهى ليست كالقوة التى يقتصر تأثيرها على نقطة واحدة ، بل وعلى العكس قوى وواسع الانتشار ، فى كل عصب ، وسرعان ما يصيب كل الأنشطة العسكرية والمدنية بالشلل ، هناك أوقات وحالات يمكن أن تتفهم الأمة أسباب الانسحاب إلى الداخل تماما ، بل وقد يؤدى ذلك إلى زيادة ثقة الأمة وتصاعد آمالها ، رغم أن حالة كهذه نادرة .  

 وكقاعدة من الصعب أن يتوقع الجيش والشعب أن يخبرا عن الفرق ما بين انسحاب مدبر ( منظم ) وانسحاب قسرى وقت فوضى وارتباك عظيمين ، رغم أنهما قد لا يرون فى خطة ما للانسحاب أىة حكمة أو جدوى ، وفقا لما قد تؤدى إليه من فوائد ايجابية ، أو لأنها اتخذت بسبب الخوف من العدو .  

سيكون هناك الكثير من القلق والاستياء الشعبين حول مصير ما تم اخلاءه من الأراضى ، كما قد يفقد الجيش الثقة لا بقائده فقط ، بل وبنفسه أيضا ، ولن تؤدى المقاومة وأعمال الساقات إلا لتأكيد مخاوف المتراجع ، ينبغى عدم الاستهانة بمثل هذه العواقب المصاحبة للتراجع ، وأكثر من ذلك ، ومن الناحية التجريدية ( النظرية المجردة ) فإن من الطبيعى والأكثر انسجاما ، والأبسط ، والأكثر نبلا ، والأكثر تطابقا مع القيم المعنوية للأمة أن تواجه هذه التحديات بشجاعة ، و لتؤكد الأمة بأن العدو الذى يتعدى حدود البلاد سيدفع ثمن ذلك بالدم .

   كذلك هى الحجج والبراهين المؤيدة والمعارضة لطريقة الدفاع هذه ، والشروط والظروف التى تحبذ اختيارها .

   الحاجة الرئيسية والأساسية إلى مسافة كبيرة جدا ، أو على الأقل خط تراجع طويل ، التقدم لبضعة أيام لن يضعف الجيش المعادى بدرحة ملحوظة ، ففى حملة 1812 بلغ مجموع قوات نابليون (250) الف رجل عند  (فيتسبك) ، فانخفض العدد إلى (182) ألفا فى (سمولنسك) ، كى يصل العدد إلى (120) ألف رجل عند (بوردينو) – اى أصبح معادلا للقوات الروسية ، كانت بوردينو تعد (50) ميلا عن الحدود ، ولم يحقق الروس تفوقا حاسما إلا عند موسكو ، وحال تحقق هذا التفوق ، فلا مجال بعد لأى تحول معاكس ، وحتى الانتصار الفرنسى فى (مالوياروسلافيتز) لم يحدث أى تأثير يذكر .

   ما من دولة أوربية أخرى لها مثل هذا الحجم والاتساع اللذان لروسيا ، لذا فلن تجد خطا للتراجع يصل طوله إى (500) ميلا إلا فى القليل من الدول الأخرى . 

   من بين الظروف الملائمة ما يلى :
1-   أرض قليلة المزروعات .
2-   شعب مخلص ومحب للقتال .
3-   ظروف جوية قاسية .

   تجعل الظروف أعلاه من الصعب إبقاء جيش ما والمحافظة عليه فى الميدان ، إذ ستفرض تنقل الكثير من الأرتال ، والعديد من المفارز ، والكثير من الجهود الشاقة ، كما أنها تزيد من الأمراض ، وتسهل على المدافع تنفيذ العمليات على الأجنحة .


   العامل الأخير الذى يؤثر على طريقة الدفاع هذه هو الأعداد الحقيقية للقوات المقاتلة المعنية ، وفى الحقيقة هناك تناسب (علاقة ) ثابت بين حجم القوات والمنطقة التى يمكن أن يحتلها ، وما من شك فى أن تأثير تراجعنا فى إضعاف العدو سيزداد وفقا لعدد القوات المعنية . 


0 التعليقات: