عن الحرب 57
ما من
دولة أوربية أخرى لها مثل هذا الحجم والاتساع اللذان لروسيا ، لذا فلن تجد خطا
للتراجع يصل طوله إى (500) ميلا إلا فى القليل من الدول الأخرى .
التراجع داخل البلاد
نجن
نعتبر التراجع المنظم والاختيارى إلى داخل البلاد شكلا خاصا من أشكال المقاومة
المباشرة – شكل يستهدف تدمير العدو لا بالسيف بشكل أساسى ، بل بجهده هو ، ويتم
التراجع إما لعدم التهيؤ والتخطيط لمعركة رئيسية ، أو يفترض وقوع المعركة بعد وقت
طويل يكون العدو قد تكبد قدرا من الخسائر ، أو فقد الكثير من قوته . ويتعرض كل
المهاجمين إلى نقص فى قواتهم أثناء التقدم .
يزداد
الوهن الذى يتعرض له المهاجم إن لم يتم دحر المدافع ، وتمكن هذا من التراجع
بانتظام محتفظا بقوته القتالية سالمة وبحالة نشطة ، بينما ومن خلال مقاومة مستديمة
وحسنة الإعداد والتنفيذ سيجعل المهاجم يتكبد المزيد ويدفع ثمنا لذلك من دماء رجاله
نظير كل قدم يكسبه من الأرض ، ويتحول التقدم بذلك إلى ضغط ودفع أماميين للمهاجم
وليس مجرد مطاردة .
إلا
أن الموقف سيختلف تماما إن كان الجيش المندحر مطاردا ، فستكون المقاومة صعبة جدا ،
وإن كانت ممكنة أحيانا ، وذلك نتيجة لما تكبده المدافع من خسائر فى المعركة ،
وفقدان النظام وروح الإقدام ، وما يثيره التراجع من هموم ومعضلات .
والمطارد الذى كان
عليه التحرك فى الحالة السابقة بمنتهى الحذر ، ملتمسا طريقه كالأعمى تقريبا ،
بوسعه الآن التقدم وهو واثق من انتصاره ، مستفيدا وبكل عنفوان من فرصته ، حتى
لكانه (نصف – إله ) ، وكلما زاد من ضغطه
وتقدمه ، كلما زاد تسارع الأحداث وفقا لما قرر عليه المهاجم مسبقا ، وفى مجال
وأجواء كهذه يتضاعف كثيرا تأثير العوامل المعنوية ، دونما حاجة للتماشى مع تأثيرات
المعايير والإجراءات المادية .
أخيرا
هناك اختلاف ولا تناسب فى التموين ، وغالبا ما يمتلك المدافع أكثر مما يحتاج إليه ،
بينما يعانى المهاجم من نقص فادح وخطير .
فللمتراجع وسائل ومعدات جمع المواد التموينية ،
التى سبق له ترتيب أماكنها ، أما المهاجم ففى حاجة لأن ترسل مدخراته إلى الأمام –
وهى مهمة صعبة طالما واصل تقدمه ، بغض النظر عن قصر خطوط مواصلاته ، فسيعانى من
نقص التموين منذ البداية .
سيكون
الجيش المتراجع الأسبق وله اليد الطولى فى جمع ما يحتاجه ، وهوسيتنفذ الموارد
المحلية تماما ، ولن يترك وراءه سوى مدنا وقرى مدمرة ، وحقولا جرداء بعد حصاد ما
فيها من غلال ومحاصيل ، وأبارا جافة ووديان طينية زلقة .
هناك
اختلاف كبير بين أن يخسر أحد معركة فى جبهته وعلى حدوده وبين أن يخسرها فى قلب أرض
العدو ، فى الحقيقة قد تصل حالة المهاجم عند نهاية شوطه ، وغالبا جدا ما يجبره حتى
الانتصار على التراجع ، إذ قد لا يتيسر له احتياط كاف لمتابعة واستمثارانتصاره
وتحقيق الكثير من خلاله ، كما يعجزعن تعويض خسائره
إلا
أن الفوائد الكبيرة للمدافع من هذه الطريقة يقابلها من جهة أخرى اخفاقين ، الأول
ويتألف من الخسائر التى ستتكبدها البلاد كنتيجة لغزو العدو ، والثانى هو التأثير
المعنوى .
لا
يمكن أن يستهدف الدفاع حماية المنطقة من الضياع ، بل لابد أن يكون الهدف هو سلاما
مرضيا ، وتلك غاية تستحق أن نتحمل من أجلها الكثير وحتى الجوع ، غاية لا يجوز معها
اعتبار أية تضحيات مؤقتة من أجلها شيئا لا يطاق ، ومع ذلك ورغم أن خسارة الأرض قد
لا تكون حاسمة ، لكنها يجب أن تندرج فى سجل الموازنة ، لأنها دائمة التأثير على
مصالحنا .
سيقوى
التراجع ، القوات المقاتلة مباشرة ، والخسائر التى يتسبب بها لن تدمر الجيش مباشرة
، ولكن بطريقة ملتوية وبعيدة ، ومن الصعب المقارنة بين الفوائد والأضرار للاختلاف
النوعى بينهما من جهة ولعدم وجود أرضية مشتركة بينهما من ناحية أخرى ، وكل ما يمكن
قوله هو أن الخسائر ستزداد عند التخلى عن المناطق الخصبة ، الكثيفة السكان ،
والمليئة بالمدن التجارية الكبيرة ، إلا أنها ستزداد أكثر إذا شملت المعدات
الحربية أيضا ، سواء كانت تلك المعدات جاهزة أو ما زالت فى دور الإنتاج .
الإخفاق الثانى ، نفسى ، إذ تمر أوقات لابد للقائد أن يرتفع فوقها ، متمسكا
بكل هدوء بخطته الأصلية ، مواجها كل الاعتراضات التى يثيرها خائروا القوى من حوله ،
رغم أن أثر انطباعات واعتراضات كهذه ، ليس مجرد وهم شبحى مما يسهل استبعاده أو
تجاهله ، فهى ليست كالقوة التى يقتصر تأثيرها على نقطة واحدة ، بل وعلى العكس قوى
وواسع الانتشار ، فى كل عصب ، وسرعان ما يصيب كل الأنشطة العسكرية والمدنية بالشلل
، هناك أوقات وحالات يمكن أن تتفهم الأمة أسباب الانسحاب إلى الداخل تماما ، بل
وقد يؤدى ذلك إلى زيادة ثقة الأمة وتصاعد آمالها ، رغم أن حالة كهذه نادرة .
وكقاعدة من الصعب أن يتوقع الجيش
والشعب أن يخبرا عن الفرق ما بين انسحاب مدبر ( منظم ) وانسحاب قسرى وقت فوضى
وارتباك عظيمين ، رغم أنهما قد لا يرون فى خطة ما للانسحاب أىة حكمة أو جدوى ،
وفقا لما قد تؤدى إليه من فوائد ايجابية ، أو لأنها اتخذت بسبب الخوف من العدو
.
سيكون هناك الكثير من القلق والاستياء الشعبين حول مصير ما تم اخلاءه من
الأراضى ، كما قد يفقد الجيش الثقة لا بقائده فقط ، بل وبنفسه أيضا ، ولن تؤدى
المقاومة وأعمال الساقات إلا لتأكيد مخاوف المتراجع ، ينبغى عدم الاستهانة بمثل
هذه العواقب المصاحبة للتراجع ، وأكثر من ذلك ، ومن الناحية التجريدية ( النظرية
المجردة ) فإن من الطبيعى والأكثر انسجاما ، والأبسط ، والأكثر نبلا ، والأكثر
تطابقا مع القيم المعنوية للأمة أن تواجه هذه التحديات بشجاعة ، و لتؤكد الأمة بأن
العدو الذى يتعدى حدود البلاد سيدفع ثمن ذلك بالدم .
كذلك
هى الحجج والبراهين المؤيدة والمعارضة لطريقة الدفاع هذه ، والشروط والظروف التى
تحبذ اختيارها .
الحاجة الرئيسية والأساسية إلى مسافة كبيرة جدا ، أو على الأقل خط تراجع
طويل ، التقدم لبضعة أيام لن يضعف الجيش المعادى بدرحة ملحوظة ، ففى حملة 1812 بلغ
مجموع قوات نابليون (250) الف رجل عند
(فيتسبك) ، فانخفض العدد إلى (182) ألفا فى (سمولنسك) ، كى يصل العدد إلى
(120) ألف رجل عند (بوردينو) – اى أصبح معادلا للقوات الروسية ، كانت بوردينو تعد
(50) ميلا عن الحدود ، ولم يحقق الروس تفوقا حاسما إلا عند موسكو ، وحال تحقق هذا
التفوق ، فلا مجال بعد لأى تحول معاكس ، وحتى الانتصار الفرنسى فى
(مالوياروسلافيتز) لم يحدث أى تأثير يذكر .
من بين الظروف الملائمة ما يلى :
1- أرض قليلة المزروعات .
2- شعب مخلص ومحب للقتال .
3- ظروف جوية قاسية .
تجعل الظروف أعلاه من الصعب إبقاء جيش ما
والمحافظة عليه فى الميدان ، إذ ستفرض تنقل الكثير من الأرتال ، والعديد من
المفارز ، والكثير من الجهود الشاقة ، كما أنها تزيد من الأمراض ، وتسهل على
المدافع تنفيذ العمليات على الأجنحة .
العامل الأخير الذى يؤثر على طريقة الدفاع هذه هو الأعداد الحقيقية للقوات
المقاتلة المعنية ، وفى الحقيقة هناك تناسب (علاقة ) ثابت بين حجم القوات والمنطقة
التى يمكن أن يحتلها ، وما من شك فى أن تأثير تراجعنا فى إضعاف العدو سيزداد وفقا
لعدد القوات المعنية .
0 التعليقات:
إرسال تعليق