23‏/10‏/2016

عن الحرب 43

عن الحرب 43


الإدامة والتموين

   والقاعدة أن تستمر الفعاليات العسكرية طالما سمجت الظروف الجوية . لم يصبح تنسيق وتنظيم العمليات العسكرية ممكنا فعلا حتى استبدلت الدول أسلوب التجنيد الإقطاعى بنظام المرتزقة (Mercenary) . فقد تحول الغلتزام الإقطاعى إلى مرتبات ، أما الخدمة (العسكرية) التى كانت تعبيرا عن الولاء (للسيد الإقطاعى) فإما أنها زالت نهائيا أو حل محلها نظام التجنيد ، أو أنها اقتصرت على الطبقات الدنيا المسحوقة .  

 وعلى أية حال فى أكثر من مكان فقد أصبحت الجيوش أدوات وأجهزة تخضع للحكومة ، وتتحمل خزينة الدولة الموارد العامة نفقاته وتكاليفه .

   لقد أدت نفس الظروف التى غيرت التجنيد والتبديل المنتظم للقوات المقاتلة ، أدن إلى تغيير طرق وسائل الإدامة والتموين . لذا وبعد أن أعفيت الولايات(الإقطاعية) من تجنيد فلاحيها وفق الأسلوب الأول ، وحولت مسئؤوليتها إلى إلى مساهمة مالية (نقدية) لم يعد بالإمكان تحميل الولايات تفقات الإدامة والتموين ولو بطريقة سرية وغير مباشرة وأصبحت الحكومة وخزينة الدولة تتحملان أعباء وتكالف القوات المقاتلة . كما أنه ومن الناحية الأخرى لم يعد ممكنا ولا مقبولا استمرار الجيش بالعيش على مصادرة غلال الأراضى طالما أنه يقيم على أراضى البلاد نفسها وفى معسكرات دائمية . وأصبحت الحكومة تعتبر الجيش من مسئؤوليتها وحده . 

وبهذه الطريقة أصبحت الإدامة تشكل مصاعب متزايدة لسببين ، الأول أن الحكومة أخذت على عاتقها مسئولية ذلك والثانى هو الحاجة لبقاء القوات المقاتلة فى الميدان على الدوام .

   لم يؤد ذلك إلى خلق طبقة أو فئة عسكرية مستقلة وحسب بل كذلك وخلق منظومة تموين مستقلة ، وتوسيعها وتطويرها لإى أقصى حد ممكن .

   وبات من الضرورى تكديس وخزن مواد الإعاشة ، إما بشرائها أو من مخازن الغلال فى الولايات البعيدة نوعا ، وتخزن بعدها فى مستودعات خاصة ، وكان يتوجب سحب الاحتياج من هذه المستودعات وايصالها إلى القطعات بوسائل النقل العسكرية ، ثم يجرى طحنها وإعدادها بمطابخ وأفران الوحدات . وتؤخذ ثانية من ثم لتوزع وبنقلية الوحدات هذه المرة .

   وهكذا تنحوا المؤسسات العسكرية على هذه الصورة لتغدو أكثر وأكثر استقلالاعن البلد والشعب .
   غدت الحروب وتبعا لذلك أكثر انتظاما ، وأفضل تنظيما ، وأكثر انسجاما مع هذف أو غاية الحرب – أى هدفها السياسى . ومن الناحية الأخرى أصبحت التحركات محدودة أكثر ،

 وأشد كبحا وانضباطا ، وأصبحت الحرب تشن بقوة أقل كثيرا من السابق . لأنها باتت الآن مقيدة بالمستودعات ، ومحدودة بمدى فاعلية وسائل النقل ، وما يرافق ذلك من تقليص لابد من لحصة الأرزاق للحد الأدنى . وغالبا ما اقتصر على كمية ضئيلة من الخبز ، بحيث بات الجنود يترنحون كالأشباح ، دون أى أمل بأحوال أفضل أو حصول أية تحسينات مريحة لإنقاذهم من حالة الحرمان .
   إن القدرة على تحمل المزيد من الحرمان هى أحد أروع ميزات الجنود ، والتى بدونها لا يمكن للجيش امتلاك أو التشبع بالروح القتالية . إلا أن الحرمان يجب أن يكون وقتيا ولفترات محدودة وبسبب أو بما تفرضه الظروف القاهرة وليس بسبب المنظومة أو الإدارة المسئولة أو بسبب حسابات عشوائية أعدت على أساس الحد الأدنى من الغذاء الكافى لإبقاء الانسان حيا .

   عندما أنشأت الثورة الفرنسية جيشا وطنيا وزجت به فجأة فى مسرح الحرب ، لم تعد الوسائل الحكومية عندها كافية . كما أن المنظومة العسكرية ككل والتى انشأت مستندة إلى تلك الوسائل المحدودة ، ووجدت بالمقابل أمنها فيها ، قد تحطمت هى الأخرى (أى المنظومة) بما فيها القاطع الذى الذى يهمنا هنا ، هى منظومة التموين. لم يهتم قائد الثورة الفرنسية إلا قليلا بالمستودعات ، 

وأقل من ذلك الاهتمام جديا فى استباط آلية معقدة تكفل سير وعمل كافى أقسام منظومة النقل بصورة منتظمة كالساعة . بل اكتفوا بارسال جنودهم وسط الميدان كما دفعوا جنرالاتهم إلى المعركة – أما التغذية والتقويات والمحفزات لجيوش الثورة فتركتها لهم لتأمينها أو لسرقتها أو نهب كل ما يحتاجونه .


   فى تقع الطريقة الحديثة إعاشة القطعات باستخدام كل ما يتيسر محليا ، كائنا من كان صاحبه – فى واحدة من الأنواع الأربعة التالية : 
1-   قيام العوائل المحلية بتوفير مواد التموين .
2-   تولى القطعات توفير الضروريات بمصادرتها .
3-   مصادرة عامة للموارد .
4-   التموين من المستودعات .
    وكانت العادة هى باستخدام الأنواع الأربعة أعلاه فى وقت واحد ، مع التعويل على احداها بشكل أساسى ، كما أمكن أحيانا استخدام واحدا منها فقط .

 1 – العيش على حساب العوائل أو المجتمع المحلى

   وهكذا يمكن أن نفهم وننقبل أن يوسع أكثر المدن إزدحاما توفير ما يكفى من الغذاء والإقامة ليوم واحد لعدد من الجنود مساو لعدد السكان دون الحاجة إلى أية اجراءات أو استعدادات خاصة ، ويمكن فعل ذلك لأيام أكثر لو كان عدد الجنود أقل من ذلك بكثير .

   المواد المطلوبة لإعاشة القطعات فى الحرب هى مما يكثر فى الريف ، بل وحتى فى المدن الصغيرة ، فخزين الفلاح من الخبز يكفى لإعاشة أسرته لأسبوع أو اثنين ، أما اللحم فيمكن الحصول عليه يوميا ، كما يتوفر الكثير من الخضروات بما يكفى حتى موعد جنى المحصول الجديد . 

  على مخطط ومنظم التنقل أن يضع نصب عينيه اعتبارات معينة تتعلق بحالة المنطقة ، كتجنب إيواء الخيالة فى المناطق الصناعية ، أو أية مناطق تقل فيها الأعلاف .

   خلاصة هذا الاستعراض الموجز هى أن بوسع قوة تعداد مقاتليها بحدود (150) ألفا ، العيش ليوم أو اثنين فى منطقة تتراوح كثافتها السكانية بمعدلات متوسطة ( ما بين (2-3) آلاف نسمة لكل (25) ميلا مربعا ) سوية مع سكانها مع المحافظة عليها كوحدة مقاتلة دون تشتت ، وبكلمة أخرى ، نقول من السهل إعاشة قوة كهذه دون مستودعات أو أية ترتيبات أخرى خلال تنقل متواصل ودون توقف .

   استندت العمليات الفرنسية خلال الحروب الثورية تحت قيادة نابليون على هذه الاستنتاجات . فقد تنقل الفرنسيون من نهر (أديج) إلى (الدانوب الأسفل) ، ومن (الراين) وحتى نهر (الفستولا)دون أية منظومات أو وسائط تموين رئيسية عدى الاعتماد على غلال وأرزاق الأرض ، كما لم يعانوا من أى عوز ، ونظرا لاعتماد عملياتهم على تفوق مادى ومعنوى ، ونجاحاتهم المتواصلة التى لاشك حولها ، فإنها لم تتعرضأو تعانى من أية تأخيرات بسبب التردد أو الحذر المبالغ فيه ، حتى غدا مساراهم المكلل بالانتصارات ولمعظم مراحل الطريق وكأنه تنقل متواصل ودون وقفات .
   وهناك نوعان من التدابير التى يتعذر على أى جيش كبير مواصلة العمل دونهما حتى فى أيامنا هذه .     
                                                         
   الأول هو تزويد القطعات برتل إدارى لحمل مايكفى من الخبز والطحين – أو العنصر الضرورى للإعاشة – لثلاثة أو أربعة أيام ، بالإضافة إلى التعيين (الحصة) الذى يحمله الجندى على ظهره وبما يكفيه (3-4) أيام أخرى ، وبهذا يحظى الجندى بما يكفيه لسبعة أيام على الأقل .
   الثانى ويتضمن هذا التدبير ايجاد هيئة أو إدارة لشئون الميرة على درجة من الكفاءة وقادرة على توفير مواد التموين من مناطق بعيدة كلما توقف الجيشويمكن فى تلك الحالة التحول من الاعتماد على التموين المحلى إلى أى منظومة أخرى .

   للتموين المحلى ميزة عظمى فى أنه الأسرع ولا يحتاج إلى الكثير من وسائط النقل ، إلا أن ذلك يعنى الافتراض مسبقا أن القطعات ستقيم مع السكان المحليين فى الظروف والحالات الاعتيادية .

2 – التموين بمصادرة القطعات نفسها لمواد الإعاشة 

   فقطعات أكبر بكثير ، ولابديل فى هذه الحالة أمام وحدة كبيرة كهذه – لواء أو فرقة – عن مصادرة كل ما تحتاجه من المناطق المجاورة وتوزيعه عاى منتسبيها . بوسع المرء التأكد وبلمحة واحدة من عدم كفاية طريقة كهذه من توفير الطعام لجيش كبير .

   فى الحقيقة ستكون طريقة مصادرة مواد التموين ناجحة فقط عندما لا تكون القطعات كثيرة جدا – ولنقل بحدود فرقة من (8-10) آلاف رجل ، وحتى فى هذه الحالة فينبغى اعتبارها كشر لابد منه فقط .

   كلما كانت القطعات بوضع أفضل من حيث تمكينها تأمين احتياجاتها بالمصادرة المنتظمة ، وكلما ساعد الوقت والظروف الأخرى على التحول إلى هذه الطريقة بطريقة أسهل كلما كانت نتائج ذلك أفضل .

3 – المصادرة المنتظمة   

   لاشك فى أن هذه الطريقة هى الأبسط والأكفأ فى إطعام القطعات . كما كانت الطريقة الأساسية والمعول عليها فى كل الحروب الحديثة .

   يكمن الاختلاف بين هذه الطريقة والطرق السابقة أساسا فى تنسيق السلطات المحلية . ولم يعد يجرى الاستيلاء على الغذاء حيثما وجد ، بل بات يسلم بطرقة منظمة ، ثم توزع الأحمال بترتيب معقول ، والسلطات المحلية وحدها القادرة على ذلك .                                                                                    
   يمكن حتى شراء التموين مقابل ثمن ، وستقترب الإعاشة بهذا م الطريقة التالية . لضمان تسليم المواد المصادرة أو معظمها على الأقل يزود الأشخاص المكلفين بهذه المهمة بسلطة كافية ويوزعون على شكل مفارز تعمل بأمرة المسئولين ، والخوف من المسئولية ، أو حتى التعرض للعقاب وسوء المعاملة ذو فعالية كبيرة – له فى ظروف كهذه دور أو فعل العبء الجماعى الذى سيشمل جميع السكان .

   ليس من تحديد على هذه الطريقة سوى الإعياء والاستنزاف التأمين ، وما يعنيه ذلك من إفقار ودمار للريف .   

 لا يستطيع أى جيش وحتى هذه الأيام بطبيعة الحال ، المضى دون عدد من عربات التموين لاستخداماته هو .

   كانت منظومة المصادرة فى الحقيقة الطريقة الأساسية لكل لجيوش الفرنسية منذ الحملة الأولى لحروب الثورة ، كما أجبر أعدائهم على تطبيق نفس الطريقة كذلك ، ومن الصعب على المرء تصور التخلى عنها .

4 – التموين من المستودعات  

   التساؤل عما إذا كانت الحرب هى التى تتحكم بمنظومة التأمين أم إنها محكومة منها ، وسنجيب على ذلك بأن منظومة التموين ستتحكم بالحرب وبالقدر الذى ستسمح به العوامل الحاكمة الأخرى ، وعندما تبدأ تلك العوامل بإظهار مقاومة شديدة ، فرد فعل إدارة الحرب سينصب على منظومة التموين وبالتالى يتحكم بها . فستبدأ حروب المستقبل على الأرجح بمنظومة مصادرة ، فالحرب نفسها يمكن أن توصف بأى شئ إلا بكونها انسانية .

   مهما كانت الطريقة التى سيقع ليها الاختيار للتموين ، فإنها ستعمل بنجاح ويسر فى المناطق الغنية والكثيفة السكان لا فى المناطق الفقيرة وغير الآهلة بالسكان . 

  تؤثر الكثافة السكانية على حجم الأطعمة فى المنطقة بطريقتين : الأولى ، وهى حيثما زاد الاستهلاك فسيتطلب المزيد من الاحتياط ، والثانية هى أن كثرة السكان تعنى المزيد من الإنتاج ، ولابد هنا من استثناء المناطق المكتظة أساسا بالعمال الصناعيين ، وخصوصا فى الوديان الجبلية المحاطة بمناطق مجدية ، وليس هذا بالأمر المستغرب .       

 كما أن الحلقات التجارية المنتظمة بسيطة ويمكن الاعتماد عليها ، ثم لا ننسى استراتيجية الأرض المحروقة .
 
    هناك فترتان تكون فيهما هذه المشكلة على أسوأ ما يمكن ، الأولى وتقع أثناء التقدم ، وقبل التوصل إلى الحسم ، وسيكون بحوزة المدافع وقتها خزينة بكاملة ، فى الوقت الى ترك المهاجم كل ما لديه خلفه ، كما عليه إبقاء قواته متحشدة لذلك يتعذر عليه توزيعها فوق رقعة شاسعة من الأرض ، وحتى وسائط نقله لن تواصل سيرها وراءه حال إبتداء التحرك نحو المعركة ، وما لم تكن الاستعدادات الضرورية والدقيقة قد أكملت حتى آنذاك فستبدأ معاناة القطعات من النقص ، ومن جوع حقيقى قبل خوضها المعركة الحاسمة بأيام عدة ، ولن تكون القطعات بطبيعة الحال بالوضع الصحى المناسب لها وهى تقاد إلى المعركة .

   أما الأزمة الثانية والأكثر شيوعا فتقع فى أواخر حملة ناجحة عندما تبدأ خطوط المواصلات بالطول ، ويتحقق ذلك عندما تدور الحرب فى بلد قد أنهك فقرا ، وقليل السكان وربما معاد أيضا .
   غالبا ما يفرغ النصر من مجده وعظمته نتيجة لهذه المعضلة ، إذ تذوى القوة وتنتهى ويغدو الانسحاب محتوما وتبدأ علامات الاندحار المدمر بالظهور .

   بينما يسهل توفير علوفة الحيوانات فى البداية لأنها الأقل ندرة ، إلا أنها وكما أشرنا سابقا تبدأ فى النضوب عند بدء استنزاف موارد المنطقة ، ولضخامة حجم علف الدواب يبدو من الصعب جلبه من مسافات بعيدة ، والحصان ينتهى (ينفق) بسبب الحاجة قبل الرجل بكثير ،

 وذلك أحد الأسباب التى تبين أن كثرة الخيالة والمدفعية يشكلان عبئا حقيقيا ، ومصدر ضعف وانهاك فعليان للجيش .    

0 التعليقات: