09‏/10‏/2016

عن الحرب 19

عن الحرب 19

تحليلات نقدية

    التحليل النقدى هو تطبيق الحقائق الفكرية على أحداث واقعية ، يعود العقل على تلك الحقائق من خلال تكرار تطبيقها . لقد أنشأنا معيارا أساسيا لنظرية ، وعلينا الآن انشاء معيار آخر للتحليل النقدى كذلك .

   نحن نميز بين المسلك النقدى والسرد الروائى للحدث التاريخى ، الذى يقتصر على ترتيب الحقائق واحدة بعد أخرى وتكتفى بمجرد لمسات قليلة للروابط السببية الآنية فيما بينها .
   
المسلك النقدى ثلاثة أنشطة فكرية مختلفة :
-         الأول :  اكتشاف وتفسير الحقائق المثيرة للشكوك والتى تحتمل أكثر من معنى وهذا هو البحث التاريخى الدقيق ، وما من شئ مشترك له مع النظرية

-         الثانى :  تعقيب التأثيرات وإعادتها إلى أسبابها . وهذا هو التحليل النقدى الدقيق ، وهو ضرورى للنظرية .

-         الثالث :  وهو وتقويم الوسائل المستخدمة .
   ولا تثور المعضلات الخطيرة إلا عند التوسع فى تفسير الحقائق وتحريفها من أجل تفسير النتائج .
   
يثير التحرى النقدى – أى تفحص الوسائل – سؤالا عاما عن ماهية التأثيرات الخاصة للوسائل المستخدمة ، وما إذا كانت تلك التأثيرات تطابق النوايا والتوجيهات التى استخدمت معها .

   كلا من البحث فى الأسباب ، وتفحص الوسائل ، يقودان إلى مجال النظرية – أى إلى ميدان الحقيقة العامة التى لا يمكن استنتاجها بمفردها من مثال منفرد قيد البحث.

   فعندما يحرم هجوم مباغت ، جيشا من استخدام قوته بطريقة منظمة وعقلانية فتأثير المباغتة إذن أمر لاشك فيه .

  لكن فى الحرب وكما فى الحياة عموما ، فأجزاء الكل مترابطة فيما بينها لذلك نتتج تأثيراتها ، ومهما كان السبب صغيرا ، فيجب أن تؤثر على كل العمليات العسكرية اللاحقة ، وتعدل نتائجها النهائية إلى حد ما ، ومهما كان ضئيلا ، ويجب أن تؤثر كافة الوسائل بنفس الطريقة حتى على الغرض النهائى .

   يمكن للمرء المضى فى متابعة الآثار التى ينتجها سبب ما ، طالما بدأت تلك الآثار ذات قيمة ما . وبنفس الطريقة يمكن تقويم وسيلة ما ، ليس بخصوص نهايتها الآنية وحسب ، بل ينبغى تقويم تلك النهاية التالية والأعلى ، وهكذا بوسعنا متابعة سلسلة من الأهداف المتعاقبة حتى الوصول إلى الهدف الذى لا يحتاج إلى تبرير ، لأن ضرورته واضحة للعيان .

   فالحرب لا تشن ضد عدو مجرد ، بل ضد عدو حقيقى لا بد أن يظل ماثلا فى الأذهان على الدوام . وما من شك فى أن رجلا بشجاعة نابليون قد أدرك ذلك ، وبالثقة التى كان عليها من الرعب الذى تسببه تحركاته .

   ليس بوسع المرء بعد كل شئ رفض طريقة ما ، قبل أن يكون قادرا على اقتراح بديل أفضل .
   ويظن الناقد أن دوره يقتصر على مجرد الإشارة إلى الطريقة الأفضل برأيه ، دون تعزيزها بأية براهين . سوف لن يقتنع الجميع ، وسيتبع آخرون نفس السياق ، وسيبدأ الخلاف دون أية أسس أو ضوابط للمناقشة ، وتزخر الكتابات العسكرية بأشياء كهذه .

   تدعو الحاجة إلى البرهان الذى نطالب به حيثما لا تكون ميزة الوسائل المقترحة واضحة للعيان .
   أما عن المثال الذى أشرنا إليه فى ( تموز / 1796 ) فى أعلاه فبوسعنا القول أن بونابرت اعتبر الخطة التى طبقها كأفضل ما يمكنه لتدمير النمساويين . و حتى لو صح  ذلك فلن تعدو النتيجة نصرا خاويا يصعب حتى تصور تأثيره على سقوط (مانتوا) .

   والمسلك الذى اقترحناه كان أكثر قدرة على منع تحرير المدينة ، لكن حتى لو وضعنا أنفسنا مكان بونابرت ، واتخذنا رأيا مخالفا – مع أنه يقدم فرصة ضئيلة فى النجاح – فسيعتمد الاختيار على الموازنة بين نصر أكثر احتمالا إلا أنه أكبر كثيرا. فإن نظرنا إلى الأمر على ضوء ذلك فالجرأة كانت ستختار المسلك الثانى ، أما عن النظرة العشوائية العجلى فسيحدث العكس . لقد كان نابليون جديرا باختيار الفكرة الأكثر جرأة ، لذا فما من شك فى أنه لم يفكر فى الأمر إلى الحد الذى يقيم فيه بوضوح النتائج اللاحقة بالشمولية التى فعلناها نحن على ضوء ما حدث .

   ففى فن الحرب تعد التجربة أفضل بكثير من أى عدد أو حجم من الحقائق النظرية المجردة . الدليل التاريخى محوم بشروطه وظروفه الخاصة .

   ما مدى حرية الناقد ، أو حتى مدى التزامه بمهمته ، فى تقييم حالة منفردة على ضوء معرفته الواسعة ، بما فيها كذلك معرفته النتائج ؟ أو متى وأين وينبغى عليه تجاهل تلك الأشياء كى يضع نفسه مكان الرجل الذى تولى القيادة فى ذلك المقف تماما ؟

   إذا أراد الناقد توجيه الثناء أو للوم ، عليه بكل تأكيد أن يضع نفسه تماما محل القائد ، وبكلمة أخرى ، عليه تصور وجمع كل ما كان القائد يعرفه ، والدوافع التى أثرت فى قراره ، وتجاهل كل ما لا يعرفه ، أولا يستطيع معرفته ، وعلى الأخص النتائج .

   الخلاصة هى ـن الناقد محروم وعلى الدوام من معرفة الكثير مما يدور فى ذهن القائد .

   المأزق النقدى ذو ثلاثة أبعاد أساسية ، دون الإشارة إلى أبعاد وجوانب أخرى ليست عامة ، الأول فى نظرة اللاعب والمتفرج فى كرة القدم مثلا ، فما يراه النتفرج ( الناقد ) قد لا يراه اللاعب وبالمقابل فما يحس به ويحياه اللاعب قد لا يحسه المتفرج إنه صراع الفكر والعمل النظرية و التطبيق ، المادة والحياة ، فالمفكر غير الذى يتعامل مع الحقيقة الإنسانية ، ويتخذ وينفذ القرارات التى يتعلق معظمها بالموت .    

 البعد الثانى فى حالة الناقد فى كتابة أو إصدار أحكامه فى جو يحوطه الترف وأسباب الراحة على أفعال فى ساحة حرب يمتزج فيها العرق والدم والتراب ووسط نيران المدافع وضجيج الآلات وتساؤلات أركان الحرب واجتياج القطعات .

 أما البعد الثالث فهو أن الناقد غالبا ما يصدر أحكامه على العمل بعد وقت قد يمتد إلى عشرات السنين ، أحكام جازمة وبلهجة أستاذية وتقريع وبعد أن تتضح آثار وأبعاد الأحداث حتى على مناطق ومستويات وأحداث بعيدة جدا ، يتحول الناقد هنا إلى حاكم يصدر قراراته ببرودة أعصاب قاتلة مهما حاول أن يكون موضوعيا .

   من هنا يكررالقادة عبارة " ضع نفسك فى مكانى ) لذا فإن أفضل النقاد هم اللاعبون أنفسهم تقاعدوا أم لازالوا بعد فى ساحات الصراع ، أو انصرفوا إلى التأليف والبحث ، " وأهل مكة أدرى بشعابها " فإنهم ومهما قسوا فى أحكامهم فإنما يصدرون عن معرفة واسعة وعميقة بالموقف الذى ربما مر على مثله الكثير، من هنا نلمس فى كتابات كلاوزفيتز أثر وعمق تجربته الشخصية فى الحرب ، ولا ننسى فى النهاية أن النجاح يخفى الكثير من العيوب فهو كثير الآباء والأقارب أما الفشل فيخفى الكثير من الحسنات ، وهو وحيد لقيط  ينكر الجميع – أية علاقة به –
   تتولى العبقرية الحركة الأساسية أو الرابط الذى يحرك وينظم عمل الأقسام الأخرى ، أما النقد فعليه الاقتصار على المعرفة الواقعية .

   للحكم وحتى على أصغر لمحات وأعمال العبقرية ، من الضرورى أن يتبنى الناقد موقفا أو وجهة نظر أكثر شمولية .

   كان نابليون يبقى قواته مجزأة حتى آخر لحظة ممكنة ثم يأمر بحشدها بسرعة فائقة لتأمين تفوق حاسم فى النقاط المهمة .

   فى الحرب وكما أوضحنا سابقا تستهدف كل الأعمال نجاحا محتملا أكثر منه نجاحا مؤكدا . هناك أوقات تعد فيها الجرأة القصوى ، قمة الحكمة .

   للحظ فى الحرب قيمة تقوق ماله فى القمار .

   كان نابليون يجعل الحظ الحسن فى المعارك آخر شروطه لترقية ضباطه لا سيما الآمرون والقادة ، كما أن الإنجليز يضعون الحظ كآخر عوامل نجاح القائد بعد اكتمال جميع الاستعدادات الأخرى عن كتاب ( العراق بين ولائين ) .

   الخطأ الشائع الأول هو الاستخدام السئ وغير المقبول لمفاهيم وصيغ محدودة وكأنها منظومات قانونية ثابتة . وليس من الصعب على الدوام استعراض النظرة الأحادية فى مناهج كهذه ، ولا نحتاج لأكثر من ذلك لإثبات بطلانها ولا جدواها بشكل جازم نهائى .  

   نحن نتعامل هنا مع مع معضلة محدودة ، ونظرا لأن عدد المناهج التى يمكن استخدامها غير محدود ، يظل هذا الخطأ أهون شرين نهتم بهما .

   الخطر الأبعد والأكثر جدية هو هذه الحواشى الطنانة أو هذا الكم الهائل من التقنيات الفنية والاستعارات اللفظية التى تسود تلك المناهج ، وتنتشر فى كل مكان – كحشد من الطفيلين المتمردين الذين يلاحقون المعسكرات .

   للنقد عيب ثالث بعد : هو تباهى النقاد بمعارفهم التى اتقطوها من كتابات الآخرين ، وبالاستخدام الناقص والمشوه للأمثلة والشواهد التاريخية .

   إن التأثير المادى وحده ليس هو المهم فقط ، فالتأثير النفسى ( المعنوى ) هو الذى يعنينا . ونظرة وثيقة لاستخدام الأمثلة التاريخية قد تساعدنا فى تمييز أربع وجهات نظر :
-         الأولى : وقد يستخدم المثال التاريخى وببساطة كتفسير لفكرة ، فالمناقشة المجردة بعد كل ئ يسهل فهمها بشكل مغوط أو لا تفهم حتى . وعندما يخشى الكاتب شيئا كهذا ، قد يستخدم مثلا تاريخيا لإلقاء الضوء الضرورى على الفكرة التى بين يديه ، وليحافظ على اتصاله مع قراءه .

-         الثانية : قد يخدم فى آرائه تطبيق فكرة ما ، والمثل يقدم للمرء الفرصة لإظهار حركة جميع العوامل والظروف الصغيرة التى يصعب إدخالها فى الصياغة العامة للفكرة .

-         الثالث : بوسع المرء اللجوء إلى الواقعة التاريخية لتأييد ما لديه .

-         الرابعة والأخيرة : وهى أن العرض المفصل للحادث التاريخى ، وجمع عدة أحداث يجعلان من الممكن استنتاج منهج ( عقيدة ) وبرهانها فى الشاهد نفسه .

     فالحادث الذى يكتفى بمجرد إشارة عابرة له ، بدلا من استعراضه بتفصيل دقيق ، يشبه شيئا ما ينظر إليه من مسافة بعيدة جدا ، من الصعب جدا تمييز أية تفاصيل ، كما سيبدو بنفس الشكل من أية زاوية نظرنا إليه .

    هذا التناول اللامسئول للتاريخ تسبب بمئات الأفكار الخاطئة والتنظير الزائف .

   بعد تقبل صعوبات استخدام الأمثلة التاريخية ، سيصل المرء إلى أكثر الاستنتاجات وضوحا ، وهو ضرورة اختيار الأمثلة التاريخية من التاريخ العسكرى الحديث ، طالما أن هذه عرفت وقيمت بصورة دقيقة .

    ليس فقط لأن الظروف ستختلف كثيرا كلما تباعدت العصور ، مع اختلاف طرق وسبل شن الحرب ، بحيث لم يعد للحروب فى العصور المبكرة سوى القليل من الدروس لتعلمها ، بل لأن التاريخ العسكرى ، وكأى شئ آخر ، سيفقد مع تتابع العصور الكثير من الأحداث الصغيرة والتفاصيل التى كانت واضحة يوما ما . كما سيفقد بعض عناصر وأجواء التشويق والحيوية ، كالصورة التى تخبو وتفقد حيويتها تدريجيا .

   أما عن تعليم فن الحرب بواسطة الأمثلة التاريخية ، وهذا ما حاوله الجنرال ( فيو كواريز ) فسيكون إنجازا عالى القيمة ، لكنه قد يستغرق عمر الإنسان كله ، وعلى كل من يحاول القيام بذلك التزود بشخصية غنية وكافية عن الحرب .


   على كل من يشعر بضرورة إنجاز مهمة كهذه أن يكرس نفسه لعمله كما لو كان يعد نفسه ليحج إلى أرض نائية . وعليه أن لا يوفر وقتا أو جهدا ، وأن لا يهاب أية سلطة دنيوية أو أى شخصية متنفذة ، وأن يسمو فوق غروره أو تواضعه الكاذب ، كى يقول وكما جاء فى قانون نابليون حرفيا ، الحقيقة كل الحقيقة ، ولاشئ إلا الحقيقة . 

0 التعليقات: