ثروة الأمم 9
أصل النقد واستعماله
عندما استقر تقسيم العمل ورسخ
رسوخا تاما ، صار نتاج عمل الإنسان الخاص لا يلبى قسما ضئيلا من احتياجاته .
ويقال إن الماشية ، فى العصور
القديمة للمجتمع ، كانت وسيلة التجارة الشائعة ، فنحن نجد أن الأشياء كانت فى
الأزمنة القديمة تثمن بعدد من رءوس الماشية التى بذلت بدلا عنها ، ويقول هوميروس
إن ثمن درع ديوميد كان تسعة ثيران ، ينما كان ثمن درع غلوكس مئة ثور ،
ويروى أن
الملح هو وسيلة التجارة الشائعة فى الحبشة ، ومثله نوع من لأصداف فى بعض أنحاء
ساحل الهند ، وسمك القد المجفف فى نيوفاوند لاند ، والتبغ فى فرجينيا ، والسكر فى
مستعمراتنا الهندية الغربية ، وجلود الحيوانات المدبوغة أو غير المدبوغة فى بعض
البلدان الأخرى .
وثمة حتى اليوم قرية فى اسكتلندا
، حيث مازال بعض أصحاب الصنائع يحملون فيما روى لى ، حفنة من المسامير بدلا من
النقود إلى المخبز أو إلى بائع الجعة .
ولكن يبدو أن الناس فى جميع
البلدان قد عقدوا العزم جراء أسباب قاهرة ، على إيلاء الأفضلية فى هذا الاستعمال
للمعادن دون سائر السلع ، فالمعادن ، فضلا عن كونها قابلة للحفظ بخسارة قليلة كأية
سلعة أخرى ، إذ نادرا ما يوجد لها نظير غير قابل للتلف مثلها ،
يمكنها أيضا أن
تقسم من دون خسارة إلى أى عدد من الأجزاء ، كما يمكن لهذه الأجزاء أن تتحد عبر
الصهر ثانية ، وهذه صفة لا تضارعها فيها أية من السلع الباقية الأخرى ، كما أنها
الصفقة التى تجعلها ، أكثر من غيرها من الصفات ، أليق استعمالا فى التدوال
والتجارة .
وقد استعملت مختلف الأمم معادن
مختلفة لهذه الغاية ، فالحديد كان أداة التعامل التجارى الشائع بين الإسبرطيين
القدماء ، والنحاس كان متدولا بين الرومان ، والذهب والفضة عند الأمم الثرية
والتجارية .
ويبدو أن هذه المعادن قد استعملت
أولا لهذا الغرض على هيئة سبائك غفل من دون ختم أو سلك .
وكان استعمال المعادن فى هذا الوضع
البدائى يقترن بعيبين كبيرين :
أولا ، الإزعاج الناشئ عن تمحيصها ، تستلزم عملية
الروز والوزن بدقة ، أوزانا وموازين دقيقة .
ولابد أن الناس كانوا ، قبل
اعتماد النقد المسكوك ، يتعرضون دائما لأكبر الاختلاسات والغرامات ، ما لم يلجأوا
إلى هذه العملية العسيرة والمتعبة ، وبدلا من أن يحصلوا على زنة باوند من الفضة
الصافية ، أو النحاس الصافى ، ربما حصلوا مقابل سلعهم على تركيبة مزيفة من أرخص
المعادن وأخشنها ، مما عولج فى مظهره الخارجى يشبه تلك المعادن .
وللحؤول دون تجاوزات كهذه ،
وتسهيل المبادلات ، وتشجيع كافة أصناف الصنائع والتجارة من خلال ذلك ، توصل الناس
فى جميع البلدان التى خطت خطوات هامة على طريق التطور ، إلى ضرورة وضع ختم رسمى
على بعض الكميات المحددة من المعادن المعينة التى يشيع فى هذه البلدان استعمالها
لشراء السلع .
إن الإزعاج والصعوبة الناجمين عن
زنة هذه المعادن بدقة أفضيا إلى اعتماد النقود المعدنية التى كان يفترض فى الختم
الذى يغطى وجهيها وأطرافها أحيانا ، أن يثبت وزن المعدن فيها فضلا عن نقاوته .
لذلك كانت هذه النقود المعدنية تتداول عدا كما هى الحال اليوم ، ومن دون تجشم عناء
وزنها .
ويبدو أن هذه تسميات هذه النقود
المعدنية كانت تعبر أصلا عن كمية المعدن التى تحتوى عليها ، كان الأس الرومانى أو
البوندو يحتوى على باوند رومانى من النحاس الجيد ، وكان الباوند الإنجليزى
الإسترلينى ، فى عهد إدوارد الأول ، يحتوى على باوند من الفضة ذات النقاوة
المعروفة .
وكانت البنيز الإنجليزية ، والفرنسية ، والإسكتلندية تحتوى فى الأصل ، كلها
على زنة بنى من الفضة ، أى جزء من عشرين الأونصة ، وجزء من مئتين وأربعين من
الباوند ، كما يبدو أن الشيلنغ أيضا كان اسما لأحد الأوزان .
أفضى بخل الملوك والدول صاحبة
السيادة وجورهم واستهتارهم بثقة رعاياهم إلى تخفيض تدريجى لكمية المعدن الحقيقية
التى كانت قائمة أصلا فى نقودهم المعدنية ، فالأس الرومانى اختزل فى أواخر أيام
الجمهورية إلى جزء من أربعة وعشرين من قيمته الأصلية ،
وبدلا من أن يزن باوند بات
يزن نصف أونصة ، أما الباوند والبنى الإنجليزيان فيحتويان على ثلث قيمتهما الأصلية
فحسب ، والاوند الإسكتلندنى على حوالى جزء من ستة وثلاثين جزءا ، والباوند والبنى
الفرنسيان على جزء من ستو وستين جزءا من قيمتهما الأصلية .
وقد تمكن
الملوك والدول ذات السيادة الذين قاموا بهذه العمليات ظاهريا من تسديد ديونهم
والوفاء بالتزاماتهم ببذل كمية من الفضة أقل مما كان مطلوبا منهم ، كان ذلك ظاهريا
فعلا ، ذلك لأن الدائنين قد قد احتلس جزء مما هو مستحق لهم ، وقد منح كافة
الدائنين فى الدولة الامتياز ذاته وبات فى وسعهم أن يسددوا بالقيمة الاسمية للنقد
المخفض الجديد كل ما كانوا قد اقترضوه بالنقد القديم .
وقد كانت عمليات كهذه دائما
ملائمة للمديونين ، وهادمة لمصالح الدائنين ، وقد تسببت أحيانا بانقلابات فى مصائر
الأفراد العاديين أشد وأعنف مما قد تتسبب به كارثة عامة هائلة .
لابد من الإشارة أولا إلى أن
لكلمة قيمة دلالتين ، فهى تعرب أحيانا عن منفعة شئ معين ، وأحيانا تدل على القدرة
على شراء سلع أخرى تمكننا منها حيازة هذا الشئ ، فالأولى قد تسمى " قيمة
استعمالية " ، والأخرى " قيمة تبادلية " .
فالأشياء ذات القيمة
الاستعمالية الكبرى غالبا ما تكون لها قيمة تبادلية قليلة أو معدومة ، وبالعكس ،
فالاشياء ذات قيمة التبادلية الكبرى غالبا ما تكون قيمتها الاستعمالية قليلة أو معدومة
لا شئ أنفع من الماء : ولكنه لا يكاد يشترى به شئ ، ولا يكاد يبادل به شئ ،
وعلى العكس ، فالجوهرة لا تكاد تكون لها أية قيمة فى الاستعمال ، ولكنيمكن فى كثير
من الأحيان لكمية كبيرة من السلع الأخرى أن تبادل بها .