26‏/12‏/2014

إستراتيجية الاستعمار والتحرير 39

إستراتيجية الاستعمار والتحرير 39


 الصين :

       لا شك أن أكبر مفاجات لعبة التوازن , مثلما هى أول افتتاح لها بعد الوفاق , كان دخول الصين فيها بعد خروجها من عزلتها , أو بالأحرى إدخال الصين فيها بعد إخراجها من عزلها .

فلقد كانت زيارة الصين حين طرق نيكسون بابها يستأذن فى الدخول هى الحجر الذى ألقى فى بركة السياسة الدولية الرتيبة فرجها وملأها بالموجات والدوامات العنيفة , كما كانت إشارة البدء بتدافع حقيقى و لا نقول بتكالب على الصين بين كل من أمريكا و أوروبا و اليابان , كل لدوافعه و أسبابه وحساباته الخاصة .

 وبالمقابل , لم تكن الصين من جانبها أقل رغبة إن لم نقل تلفها , رغم الحذر والتمنع , فى الخروج إلى العالم .

        ونستطيع أن نحدد أهداف أمريكا فى تقاربها مع الصين فى أربعة أساسية , اثنين منها أهداف سياسية استراتيجية واثنين اقتصادية تجارية . فهناك أولا ضمان فصل الصين عن السوفيت إلى الأبد حتى تبقى نقطة اللاعودة نهائية وحتى يستحكم الصراع بينهما أكثر و أكثر .

 ويتم هذا بإشعار الصين أنها لا تقف وحدها وأن أمريكا تسند ظهرها فى وجه العملاق الأعظم الذى يفوقها قوة بلا شك ويهددها تهديدا حقيقيا ومباشرا , خاصة نوويا . وبطبيعة الحال فإن الخطر السوفيتى كان أول دوافع الصين الى الاستجابة الى التقارب الامريكى والغربى .

ونحن نعلم من قبل كيف تغيرت اولوية الاعداء والعداوات فى حساب الصين حيث اصبح السوفيت على راس القائمة بينما تاتى امريكا بعد ذلك فقط . ولقد عبرت الصين نفسها عن ذلك مرارا بقولها إن العدوان المنتظر من الشمال اخطر من العدوان المتوقع من الجنوب .

         أما كيف لأمريكا أن تقف استراتيجيا بجانب الصين ضد السوفيت , فذلك أساسا عن طريق مساعدتها تكنولوجيا بالتصنيع والتحديث والتسليح الذى فتح بابه أيضا فى دول أوروبا الغربية الكبرى كفرنسا وبريطانيا خاصة . وبالتصنيع الحديث بالذات يمكن للغرب مضاربة كل من الصين والاتحاد السوفيتى ببعضهما البعض مضاربة فعالة ومؤثرة فى مجال الصناعة ذاته كما فى مجال السياسة عموما .


       وقد ساعدت العروض والقروض الغربية هذه الصين على حسم جدلها الداخلى القديم حول الاعتماد على الذات والوسائل والطاقة البشرية أو على الغير و الوسائل والتكنولوجيا الحديثة , وذلك لصالح الاتجاه الأخير بالطبع أى الانفتاح . ولئن كانت الصين حريصة على ألا يصل هذا الاعتماد إلى حد أن تقع تحت رحمة الغرب , فإن هذا من جانبه لم يكن أقل حرصا على ألا يسمح للصين أن تتجاوز قوتها حدود الأمان والتوازن , سواء اقتصاديا وسياسيا أو استراتيجيا وعسكريا .


      وفى هذا المجال الأخير فإن الجانب النووى بالذات يعد الهدف الثانى من السياسة الأمريكية و الغربية ومن أشد أهدافها حساسية وخطورة . ليس فقط كرادع وكدرع صينى ضد القوة النووية السوفيتية الهائلة , ولكن أيضا كمانع لانفجار الصين ذاتها نوويا على العالم أو على أمريكا فى المستقبل وذلك إذا ماظلت فى عزلتها أو ظلت هى تعمل على عزلها . ليس فقط كتحجيم مضاد للخطر النووى السوفيتى يعنى , ولكن أيضا كتلجيم مباشر للقدرة النووية الصينية ذاتها .


        ذلك أن أمريكا كانت تستشعر بشدة خطر نمو القدرة النووية الصينية , بما فى ذلك إمكانيات نقلها بالصواريخ إلى القارة الأمريكية , إلى حد أنها أقامت شبكة دفاعات مضادة للصواريخ الصينية خصيصا .

وقد أعلن نيكسون بصراحة أن إخراج الصين من عزلتها هو إخراج للمارد من قمقمة سلميا قبل أن يخرج هو منه نوويا على شكل حرب نووية عالمية فى غضون 15 -20 سنة . و من هنا جميعا فإن الموقف الغربى من الصين فى مجال التوازن النووى بالذات يخضع لأدق الحسابات والاعتبارات القريبة والبعيدة المدى .


      غير أن الهدفين السياسيين والاستراتيجيين السابقين , على اهميتهما الفائقة , لا يزيدان إن لم يقلا اهمية فى نظر البعض عن الهدفين الخاصين بالمجال الاقتصادى المادى .

 فالمقول والمرجح بشدة أن الحافز المباشر و الأساسى فى ان واحد لطرق الولايات المتحدة باب الصين إنما كان العامل الاقتصادى والتجارة الخارجية .

فبالنسبة للولايات كرأسمالية عظمى , كانت السوق الصينية الهائلة التى حرمت منها طويلا أكثر من مغرية , كانت مسألة حياة أو موت تقريبا لتوسيع الاقتصاد الأمريكى المتأزم و إنقاذ الدولار , وكذلك لانتزاعها من اليابان المنفردة بها تقريبا ووضع حد للمنافسة اليابانية الاقتصادية المخيفة للاقتصاد الأمريكى و الغربى .


       ومن المسلم به أن الرأسمالية الأمريكية كانت من أقوى قوى الضغط على الادارة والسياسة الأمريكية من أجل الانفتاح على الصين . ولم تكن هذه بدورها أقل رغبة فى الانفتاح على التكنولوجيا الحديثة من جهة وموازنة النفوذ اليابانى الفائق على سوقها واقتصادها من الجهة الأخرى . وهذا ما ينقلنا إلى الهدف الأمريكى الرابع و الأخير وهو تحجيم اليابان .



       فمنذ تحولت اليابان , تحت مظلة الوصاية السياسية و الحماية الاستراتيجية الأمريكية , إلى عملاق اقتصادى و إلى القوة الثالثة بعد العملاقين فى هذا المجال , فإنها أصبحت تهدد بمنافسة ضارية ومنافستها تهدد بالتفوق الساحق على أمريكا ذاتها , بينما وصلت المنافسة التجارية فى عقر دار أمريكا نفسها إلى حد الغزو الحقيقى حيث بلغت نسبة ما يذهب إلى امريكا من مجموع الصادرات اليابانية نحو 30 % حاليا .

وعلى الجملة أصبحت العلاقات الأمريكية اليابانية أقرب إلى الحرب الاقتصادية غير المعلنة . ومن هنا كانت السوق الصينية هى المخرج والمنفذ الوحيد أمام أمريكا كعنصر توازن وبديل و أداة لتحجيم اليابان والخطر اليابانى , وهو ما ينقلنا أخيرا إلى موقف اليابان فى اللعبة الخماسية الجديدة   برمتها .

0 التعليقات: