إستراتيجية الاستعمار والتحرير 39
الصين :
لا شك أن أكبر مفاجات لعبة التوازن ,
مثلما هى أول افتتاح لها بعد الوفاق , كان دخول الصين فيها بعد خروجها من عزلتها ,
أو بالأحرى إدخال الصين فيها بعد إخراجها من عزلها .
فلقد كانت زيارة الصين حين
طرق نيكسون بابها يستأذن فى الدخول هى الحجر الذى ألقى فى بركة السياسة الدولية
الرتيبة فرجها وملأها بالموجات والدوامات العنيفة , كما كانت إشارة البدء بتدافع
حقيقى و لا نقول بتكالب على الصين بين كل من أمريكا و أوروبا و اليابان , كل
لدوافعه و أسبابه وحساباته الخاصة .
وبالمقابل , لم تكن الصين من جانبها أقل رغبة
إن لم نقل تلفها , رغم الحذر والتمنع , فى الخروج إلى العالم .
ونستطيع أن نحدد أهداف أمريكا فى تقاربها
مع الصين فى أربعة أساسية , اثنين منها أهداف سياسية استراتيجية واثنين اقتصادية
تجارية . فهناك أولا ضمان فصل الصين عن السوفيت إلى الأبد حتى تبقى نقطة اللاعودة
نهائية وحتى يستحكم الصراع بينهما أكثر و أكثر .
ويتم هذا بإشعار الصين أنها لا
تقف وحدها وأن أمريكا تسند ظهرها فى وجه العملاق الأعظم الذى يفوقها قوة بلا شك
ويهددها تهديدا حقيقيا ومباشرا , خاصة نوويا . وبطبيعة الحال فإن الخطر السوفيتى
كان أول دوافع الصين الى الاستجابة الى التقارب الامريكى والغربى .
ونحن نعلم من
قبل كيف تغيرت اولوية الاعداء والعداوات فى حساب الصين حيث اصبح السوفيت على راس
القائمة بينما تاتى امريكا بعد ذلك فقط . ولقد عبرت الصين نفسها عن ذلك مرارا
بقولها إن العدوان المنتظر من الشمال اخطر من العدوان المتوقع من الجنوب .
أما كيف لأمريكا أن تقف استراتيجيا
بجانب الصين ضد السوفيت , فذلك أساسا عن طريق مساعدتها تكنولوجيا بالتصنيع
والتحديث والتسليح الذى فتح بابه أيضا فى دول أوروبا الغربية الكبرى كفرنسا
وبريطانيا خاصة . وبالتصنيع الحديث بالذات يمكن للغرب مضاربة كل من الصين والاتحاد
السوفيتى ببعضهما البعض مضاربة فعالة ومؤثرة فى مجال الصناعة ذاته كما فى مجال
السياسة عموما .
وقد ساعدت العروض والقروض الغربية هذه
الصين على حسم جدلها الداخلى القديم حول الاعتماد على الذات والوسائل والطاقة
البشرية أو على الغير و الوسائل والتكنولوجيا الحديثة , وذلك لصالح الاتجاه الأخير
بالطبع أى الانفتاح . ولئن كانت الصين حريصة على ألا يصل هذا الاعتماد إلى حد أن
تقع تحت رحمة الغرب , فإن هذا من جانبه لم يكن أقل حرصا على ألا يسمح للصين أن
تتجاوز قوتها حدود الأمان والتوازن , سواء اقتصاديا وسياسيا أو استراتيجيا وعسكريا
.
وفى هذا المجال الأخير فإن الجانب النووى
بالذات يعد الهدف الثانى من السياسة الأمريكية و الغربية ومن أشد أهدافها حساسية
وخطورة . ليس فقط كرادع وكدرع صينى ضد القوة النووية السوفيتية الهائلة , ولكن
أيضا كمانع لانفجار الصين ذاتها نوويا على العالم أو على أمريكا فى المستقبل وذلك
إذا ماظلت فى عزلتها أو ظلت هى تعمل على عزلها . ليس فقط كتحجيم مضاد للخطر النووى
السوفيتى يعنى , ولكن أيضا كتلجيم مباشر للقدرة النووية الصينية ذاتها .
ذلك أن أمريكا كانت تستشعر بشدة خطر نمو
القدرة النووية الصينية , بما فى ذلك إمكانيات نقلها بالصواريخ إلى القارة
الأمريكية , إلى حد أنها أقامت شبكة دفاعات مضادة للصواريخ الصينية خصيصا .
وقد
أعلن نيكسون بصراحة أن إخراج الصين من عزلتها هو إخراج للمارد من قمقمة سلميا قبل
أن يخرج هو منه نوويا على شكل حرب نووية عالمية فى غضون 15 -20 سنة . و من هنا
جميعا فإن الموقف الغربى من الصين فى مجال التوازن النووى بالذات يخضع لأدق
الحسابات والاعتبارات القريبة والبعيدة المدى .
غير أن الهدفين السياسيين والاستراتيجيين
السابقين , على اهميتهما الفائقة , لا يزيدان إن لم يقلا اهمية فى نظر البعض عن
الهدفين الخاصين بالمجال الاقتصادى المادى .
فالمقول والمرجح بشدة أن الحافز
المباشر و الأساسى فى ان واحد لطرق الولايات المتحدة باب الصين إنما كان العامل
الاقتصادى والتجارة الخارجية .
فبالنسبة للولايات كرأسمالية عظمى , كانت السوق
الصينية الهائلة التى حرمت منها طويلا أكثر من مغرية , كانت مسألة حياة أو موت
تقريبا لتوسيع الاقتصاد الأمريكى المتأزم و إنقاذ الدولار , وكذلك لانتزاعها من
اليابان المنفردة بها تقريبا ووضع حد للمنافسة اليابانية الاقتصادية المخيفة
للاقتصاد الأمريكى و الغربى .
ومن المسلم به أن الرأسمالية الأمريكية
كانت من أقوى قوى الضغط على الادارة والسياسة الأمريكية من أجل الانفتاح على الصين
. ولم تكن هذه بدورها أقل رغبة فى الانفتاح على التكنولوجيا الحديثة من جهة
وموازنة النفوذ اليابانى الفائق على سوقها واقتصادها من الجهة الأخرى . وهذا ما
ينقلنا إلى الهدف الأمريكى الرابع و الأخير وهو تحجيم اليابان .
فمنذ تحولت اليابان , تحت مظلة الوصاية
السياسية و الحماية الاستراتيجية الأمريكية , إلى عملاق اقتصادى و إلى القوة
الثالثة بعد العملاقين فى هذا المجال , فإنها أصبحت تهدد بمنافسة ضارية ومنافستها
تهدد بالتفوق الساحق على أمريكا ذاتها , بينما وصلت المنافسة التجارية فى عقر دار
أمريكا نفسها إلى حد الغزو الحقيقى حيث بلغت نسبة ما يذهب إلى امريكا من مجموع
الصادرات اليابانية نحو 30 % حاليا .
وعلى الجملة أصبحت العلاقات الأمريكية
اليابانية أقرب إلى الحرب الاقتصادية غير المعلنة . ومن هنا كانت السوق الصينية هى
المخرج والمنفذ الوحيد أمام أمريكا كعنصر توازن وبديل و أداة لتحجيم اليابان
والخطر اليابانى , وهو ما ينقلنا أخيرا إلى موقف اليابان فى اللعبة الخماسية
الجديدة برمتها .
0 التعليقات:
إرسال تعليق