15‏/12‏/2014

إستراتيجية الاستعمار والتحرير 10

إستراتيجية الاستعمار والتحرير  10

نحو الشرق :

      مهما يكن من أمر , فإذا مانحن عدنا إلى موجات التوسع الروسى فسنجد أن الموجة الأولى قد أتجهت شرقا إلى سيبريا , وبدأت أقرب فى الواقع الى نوع روسى من الكشوف الجغرافية .

 وانتهت فى النهاية كزحف قيصرى نحو الشرق ولم يبدأ التيار إلا فى أواخر القرن السادس عشر و اوائل القرن السابع عشر , حين عبر المغامر القوزاقى يرمك جبال الأورال فى سنة 1580 واستولى على مدينة سيبير على الارتش .
 ولم يكن هذا جزءا من خطة غزو منظم موضوعة . لا و لا يدل على أطماع استعمارية قيصرية ما . و إنما كان الدافع والهدف – كما حدث فى كندا – هو التجارة أساسا , والفراء بوجه خاص , ومن تنظيم وعمل كبار التجار فى الأورال .

 أما الجانب العسكرى فيها فلم يزد على نشاط فرسان القوزاق الذين صاحبوا القوافل التجارية , أصلا كحرس و أحيانا كعصابات نهب .

       ولقد كانت سيبريا هى جبهة الريادة للروسيا مثلما كان العالم الجديد بالنسبة للأنجلو سكسون – بل كانت بجدارة العالم الجديد بالنسبة للسلاف .

       إذا كانت الأنهار هى حملة استعمار هنا . فقد جاءت بعدها السكك الحديدية لتصبح شريان الحركة فيها , وذلك دون أن تمر المنطقة مطلقا بمرحلة الطرق البرية .

      التعمير الروسى فى سيبريا طوال تلك المرحلة لم يكن جديا حقا , ولا كان الاستعمار القيصرى مهتما بأملاكه الحديثة فى الشرق حيث كان منصرفا إلى المجال الأوروبى . بل لقد ظلت سيبريا لفترة طويلة مجرد منفى للمجرمين والمبعدين , شأنها فى ذلك شأن البرازيل بالنسبة للبرتغال واستراليا بالنسبة لبريطانيا .

 إلا أن الموقف تغير منذ منتصف القرن التاسع عشر , حيث انعطفت القيصرية على سيبريا بشدة ونظرت بطموح إلى الهادى بحثا عن مخارج لها بعد أن فشلت فى الوصول إلى مخارج لها فى المياه الأوروبية .

      المغزى الاستراتيجى لهذا التوسع الخطير ؟

انقلاب ثورى فى تاريخ العالم القديم لا يمكن – مهما حاولنا – أن نبالغ فى تقديره ! فلأول مرة تظهر قوة توحد كل قلب أوراسيا فى تنظيم سياسى واحد , ولأول مرة لا يكون الاستبس الأوراسى قوة رحل رعوية بل قوة زراعية مستقرة دائمة . إن الانقلاب الذى بدأت بذورة مع اختراع البارود قد استكمل الاّن كل مغزاه الاستراتيجى , وخضع الاستبس الاوراسى جميعا لسيطرة حكومة مركزية قوية فى قاعدة أرضية غنية متحضرة , لتصبح الروسيا أول و أضخم قوة بر فى التاريخ لا تعتمد على حركة الخيل و كوكبات الفرسان و إنما على حركة القطاروالمدفعية المدرعة .

       الدولة القارية الكاملة وقوة البر الكلاسكية , والنقيض المباشر لبريطانيا فى القرن التاسع عشر , النموذج التام للإمبراطورية البحرية المتناثرة فى أركان الدنيا ولقوة البحر الكلاسيكية . و إذا كانت الامبراطورية البريطانية – كما قيل – من صنع السفينة البخارية , فإن الروسيا القيصرية كاولايات المتحدة هى من صنع القطار .

البحر الأسود والمضايق :

     غير أن البحر الأسود كان الهدف الأكبر بالطبع نظرا لموقعه ودفئه , ولأن الجزء الأكبر من حوضة روسى مباشرة أو على الأقل سلافى بوجه عام .

 إلا أن مفاتيحه ليست فى يدها و إنما فى يد تركيا . ولهذا كان الصراع بينهما هو قدرهما المشترك .

      وفى كل هذه الحروب بلا استثناء ولا اختلاف كانت تتقدم دولة بحرية غربية – فرنسا أو انجلترا – لتساند تركيا ضد الروسيا .

     احيانا كانت أنجلترا تصادق الروسيا وتقف موقف برود إزاء تركيا عنادا فى فرنسا التى تساعد تركيا . وأحيانا تساعد بريطانيا تركيا معارضة لفرنسا حين تتقارب هذه مع الروسيا أى أن الصراع الداخلى بين الأشباه البحرية كان ينعكس علىمواقفها من صراع تركيا مع الوسيا , ولكن فى كل الحالات لم تكن تركيا تعدم قوة ما منهما فى جانبها .


     أدركت كل من فرنسا وبريطانيا بالتدريج بعد ذلك خطأ مواقفها التكتيكية المتعارضة السابقة إزاء كل من الروسيا وتركيا والتى حكمتها مناورات العداء بينهما فى الوطن , وسرعان ما أيقنتا وحدة مصالحها الاستراتيجية العميقة ضد الروسيا وبالتالى مع تركيا .

ومن حينها أصبحت سياستهما المشتركة المتصلة هى تدعيم تركيا وحقنها بكل المساعدات الحربية والسياسية لتكون درعا ضد التوسع الروسيا ونطاقا صحيا حولها . والمغزى الاستراتيجى واضح كل الوضوح : فى صراع القوى البحرية (فرنسا وبريطانيا) ضد توسع قوة البر (الروسيا)  , كانت قوة بينية (تركيا) هى أرض المعركة الطبيعية , ولما كانت هذه مهددة بالسقوط أمام قوة البر فقد اجتمعت قوى البحر لتسندها وتدعمها .

0 التعليقات: