إستراتيجية الاستعمار والتحرير 10
نحو الشرق :
مهما يكن من أمر , فإذا مانحن عدنا إلى
موجات التوسع الروسى فسنجد أن الموجة الأولى قد أتجهت شرقا إلى سيبريا , وبدأت
أقرب فى الواقع الى نوع روسى من الكشوف الجغرافية .
وانتهت فى النهاية كزحف قيصرى
نحو الشرق ولم يبدأ التيار إلا فى أواخر القرن السادس عشر و اوائل القرن السابع
عشر , حين عبر المغامر القوزاقى يرمك جبال الأورال فى سنة 1580 واستولى على مدينة
سيبير على الارتش .
ولم يكن هذا جزءا من خطة غزو منظم موضوعة . لا و لا يدل على
أطماع استعمارية قيصرية ما . و إنما كان الدافع والهدف – كما حدث فى كندا – هو
التجارة أساسا , والفراء بوجه خاص , ومن تنظيم وعمل كبار التجار فى الأورال .
أما
الجانب العسكرى فيها فلم يزد على نشاط فرسان القوزاق الذين صاحبوا القوافل
التجارية , أصلا كحرس و أحيانا كعصابات نهب .
ولقد كانت سيبريا هى جبهة الريادة للروسيا
مثلما كان العالم الجديد بالنسبة للأنجلو سكسون – بل كانت بجدارة العالم الجديد
بالنسبة للسلاف .
إذا كانت الأنهار هى حملة استعمار هنا .
فقد جاءت بعدها السكك الحديدية لتصبح شريان الحركة فيها , وذلك دون أن تمر المنطقة
مطلقا بمرحلة الطرق البرية .
التعمير الروسى فى سيبريا طوال تلك المرحلة
لم يكن جديا حقا , ولا كان الاستعمار القيصرى مهتما بأملاكه الحديثة فى الشرق حيث
كان منصرفا إلى المجال الأوروبى . بل لقد ظلت سيبريا لفترة طويلة مجرد منفى
للمجرمين والمبعدين , شأنها فى ذلك شأن البرازيل بالنسبة للبرتغال واستراليا
بالنسبة لبريطانيا .
إلا أن الموقف تغير منذ منتصف القرن التاسع عشر , حيث انعطفت
القيصرية على سيبريا بشدة ونظرت بطموح إلى الهادى بحثا عن مخارج لها بعد أن فشلت
فى الوصول إلى مخارج لها فى المياه الأوروبية .
المغزى الاستراتيجى لهذا التوسع الخطير ؟
انقلاب ثورى فى تاريخ العالم القديم لا يمكن – مهما حاولنا – أن نبالغ فى تقديره !
فلأول مرة تظهر قوة توحد كل قلب أوراسيا فى تنظيم سياسى واحد , ولأول مرة لا يكون
الاستبس الأوراسى قوة رحل رعوية بل قوة زراعية مستقرة دائمة . إن الانقلاب الذى
بدأت بذورة مع اختراع البارود قد استكمل الاّن كل مغزاه الاستراتيجى , وخضع
الاستبس الاوراسى جميعا لسيطرة حكومة مركزية قوية فى قاعدة أرضية غنية متحضرة ,
لتصبح الروسيا أول و أضخم قوة بر فى التاريخ لا تعتمد على حركة الخيل و كوكبات
الفرسان و إنما على حركة القطاروالمدفعية المدرعة .
الدولة القارية الكاملة وقوة البر
الكلاسكية , والنقيض المباشر لبريطانيا فى القرن التاسع عشر , النموذج التام
للإمبراطورية البحرية المتناثرة فى أركان الدنيا ولقوة البحر الكلاسيكية . و إذا
كانت الامبراطورية البريطانية – كما قيل – من صنع السفينة البخارية , فإن الروسيا
القيصرية كاولايات المتحدة هى من صنع القطار .
البحر الأسود
والمضايق :
غير أن البحر الأسود كان الهدف الأكبر
بالطبع نظرا لموقعه ودفئه , ولأن الجزء الأكبر من حوضة روسى مباشرة أو على الأقل
سلافى بوجه عام .
إلا أن مفاتيحه ليست فى يدها و إنما فى يد تركيا . ولهذا كان
الصراع بينهما هو قدرهما المشترك .
وفى كل هذه الحروب بلا استثناء ولا اختلاف
كانت تتقدم دولة بحرية غربية – فرنسا أو انجلترا – لتساند تركيا ضد الروسيا .
احيانا كانت أنجلترا تصادق الروسيا وتقف
موقف برود إزاء تركيا عنادا فى فرنسا التى تساعد تركيا . وأحيانا تساعد بريطانيا
تركيا معارضة لفرنسا حين تتقارب هذه مع الروسيا أى أن الصراع الداخلى بين الأشباه
البحرية كان ينعكس علىمواقفها من صراع تركيا مع الوسيا , ولكن فى كل الحالات لم
تكن تركيا تعدم قوة ما منهما فى جانبها .
أدركت كل من فرنسا وبريطانيا بالتدريج بعد
ذلك خطأ مواقفها التكتيكية المتعارضة السابقة إزاء كل من الروسيا وتركيا والتى حكمتها
مناورات العداء بينهما فى الوطن , وسرعان ما أيقنتا وحدة مصالحها الاستراتيجية
العميقة ضد الروسيا وبالتالى مع تركيا .
ومن حينها أصبحت سياستهما المشتركة
المتصلة هى تدعيم تركيا وحقنها بكل المساعدات الحربية والسياسية لتكون درعا ضد
التوسع الروسيا ونطاقا صحيا حولها . والمغزى الاستراتيجى واضح كل الوضوح : فى صراع
القوى البحرية (فرنسا وبريطانيا) ضد توسع قوة البر (الروسيا) , كانت قوة بينية (تركيا) هى أرض المعركة
الطبيعية , ولما كانت هذه مهددة بالسقوط أمام قوة البر فقد اجتمعت قوى البحر
لتسندها وتدعمها .
0 التعليقات:
إرسال تعليق