إستراتيجية الاستعمار والتحرير 32
غرور القوة :
ففى رأى الكثيرين أنها إذ جعلت من نفسها
رجل إطفاء العالم , تحولت بالفعل إلى مفجر حرب العالم , وأن تصورها لدورها كرجل
بوليس عالمى انتهى بها إلى أن تصبح فى الواقع دولة بوليسية إرهابية عظمى وقرصانا
أو قاطع طريق دولى خطير .
كما أنها , وقد جعلت من نفسها وريثة كل الاستعمار , قد
صارت تلقائيا قلعة الرجعية العالمية وزعيمة الثورة المضادة فى العالم أجمع .
وهذا
ما دعا البعض فى وقت ما إلى أن ينتهى إلى أن الولايات أصبحت نقمة وكارثة حقيقية على
العالم ومأساة العصر الكبرى .
نلخص جوهر مشكلة الولايات فى العالم فى
أنها بحكم ظروف خاصة جدا جغرافية وتاريخية وصلت إلى الصدارة العالمية قبل الأوان ,
وقبل أن تكون مؤهلة لها بالتاريخ والتجربة والنضج .
ولعل هذا هو السبب الذى حدا
بمؤرخ مثل توينى إلى أن يتوقع أمد حياة قصيرا للصدارة الأمريكية فى العالم , فلا
يتنبأ لها بأكثر من 50 سنة على الأكثر من البداية إلى النهاية .
دور النضج
والاستقرار :
من المؤكد أن عقدة فيتنام وصدمة الوفاق
تمثل تغيرا كيفيا أكثر منه كميا فقط , وبالتالى نقلة جذرية فى حياة أمريكا
السياسية .
ففى أتون فيتنام انصهر غرور القوة والغطرسة الأمريكية .
أزمة القوة :
لقد أخذ ثقل أمريكا يتضائل – نسبيا – فى
ميزان القوة العالمية بعد أن وصل إلى الذروة ولم يعد يستطيع أن يتجاوز (سقف) القوة
إلى أعلى .
ولم يكن هذا لتناقص فى مواردها أو قدراتها – هذه لا تكف عن النمو بشدة –
وإنما ببساطة لأن عالم القوى قد اتسع كثيرا عما كان عليه حتى قريب , وذلك بظهور
تعدد المراكز .
إن أمريكا , بعبارة أخرى , تنمو أكثر من أى وقت مضى , ولكن العالم
من حولها بات ينمو بسرعة أكبر .
ومن هنا فقد أدركت راغمة أن هناك
(انكماشا) نسبيا فى حجمها , وبالتالى فلابد من تقليص نسبى لدورها .
إن الولايات المتحدة , كدولة , تمر تحت
ناظرينا وبصورة غير ملحوظة ولكنها درامية حقا من مرحلة الشباب أى التوسع إلى مرحلة
النضج أى الاستقرار , وهى المرحلة التى تكون الدولة فيها قد بلغت قمة القوة ولا
تملك بعدها إلا أن تخسر , ولذا تجد كل مصلحتها فى المحافظة على مواقعها المكتسبة
ومكاسبها المتراكمة وعلى الوضع الراهن , ساعية بذلك الى الاحتفاظ بسلامها الذى سبق
أن فرضته بالقوة , وذلك دون الالتجاء ما استطاعت إلى المزيد من الحروب والصدامات .
أى أن الدولة , باختصار , تقبل بالوضع الراهن , لتفرض منه الأمر الواقع , وتستبدل
بالعنف المباشر الخداع العنيف .
وتلك هى حقيقة الحقائق كل الموقف الأمريكى الراهن
, مثلما هى الحقيقة المفتاح فى سياستها المقبلة.
فأما الولايات اليوم فى أزمة فنعم , أما
أن حلها هو العزلة فلا , لأن العزلة كانت وظيفة طبيعية ملائمة لمرحلة بعينها .
ولكن لا مكان لها الان .
سيكون علينا أن ننتظر من أمريكا الكثير من
مفاجاّت المناورات التكتيكية , وتغير المواقف الخداعية اللامبدئية , التى لا تعرف
حتى الولاء للأيديولوجية , ولا تعترف إلا بقوة المصلحة ومصلحة القوة .
0 التعليقات:
إرسال تعليق