إستراتيجية الاستعمار والتحرير 15
فى الشرق العربى قامت الدولة العربية
الإسلامية فى العصور الوسطى لتضع مركز القوة العالمية فى قلب منطقة الارتطام على
حساب كل من القوى البرية والبحرية , كما استطاعت أن تفسدد عليهما خططهما فى
التحالف ضدها .
ولكن كما أنها بفضل الوحدة قامت , فبفعل التفكك و الانفصال زالت
وسقطت لقوى برية المصدر .
ثم يأتى بعد هذا تاريخيا والى الشمال جغرافيا
, المثل التركى حيث احتلت الإمبراطورية العثمانية رقعة ارتطامية بحة ابتداء من
العالم العربى حتى البلقان , ومع ذلك استطاعت أن تكون إلى حين قطبا من أقطاب القوة
فى عالم العصور الوسطى وطلائع العصور الحديثة .
و أخيرا يتحرك القطب شمالا مع ظهور
ألمانيا الموحدة التى رنت إلى السيطرة العالمية – لا أقل – وكادت تحققها فى حربين
عالميتين .
ولكن , وكما حدث فى حالة الدولة العربية الإسلامية , سقطت ألمانيا
الارتطامية حين اجتمع عليها الهارتلاند والسواحل البحرية معا .
فى الجيولوجيا و البيولوجيا . كما فى
التاريخ , أن مسار التطور يظل عادة رتبيا تقليديا كالخط المستقيم أو كالمنحنى
الانسيابى , ثم إذا به يتفجر فجأة فى ثوران بركانى قصير ولكنه عنيف يغير تضاريس
الوجود ومعالم الزمان ويضع ملامح العصر وتوازناته ويحددها لأمد بعيد , ومعها يعود
إيقاع الحياة رتيبا تقليديا مستقرا .
إن ما بناه الاستعمار فى خمسة قرون هدمه
التحرير فى عقدين اثنين . فبين 1945 , 1965 هوت رقعة الاستعمار من 35% من مساحة
العالم الى 4% , أى أن معدل سرعة المد التحريرى يعادل عشرات أضعاف معدل الزحف
الاستعمارى .
غير أنه يقابل هذا التيار العام العالمى
اتجاه محلى معاكس يمثل انتكاسة إلى الوراء .
ففى الوقت الذى كان الاستعمار الكبير
و الصغير ينحسر ويتصدع عالميا , كان استعمار جديد – ودنئ – قد بدأ فى فلسطين هو
الاستعمار الصهيونى حيث كرر قرصنة القرن التاسع عشر , وجمع بين أسوأ و أسود ما فى
دموية النازية وعنصرية جنوب أفريقيا .
غير أنه إذا كان هذا الاتجاه التعس يدل على
شئ فإنما يدل على أن الاستعمار الصهيونى القمئ يأتى ضد كل تيار التاريخ – حتى
التاريخ الرجعى , حتى تاريخ الاستعمار نفسه – وأنه من ثم محكوم عليه قبلا وبحتمية
التاريخ بأنه قد ولد ليموت .
أول تحرير حقيقى بدأ فى أثناء الحرب فى
لبنان 1941 وسوريا 1943 .
وفى 1953 تحررت مصر نهائيا بعد حرب عصابات
ومقاومات مسلحة فى منطقة القنال , سبقتها سلسلة من التوترات و التحديات الشعبية من
قبل , إلى أن توجت فى النهاية بحرب حقيقية كاملة وحاسمة فى 1956 .
وهذه الحرب
ستكون نقطة تحول عظمى فى التحرير لا فى العالم العربى ولكن فى افريقيا وخارجها
كذلك .
والواقع منذ البداية أن مصر بحكم موقعها ووزنها كانت سباقة إلى النضال
التحريرى وكانت دائما مركز الوعى ومنبع الوحى فى الكفاح ضد الاستعمار , فكانت
نموذجا للمغرب العربى ومثالا للمشرق , وحجر الزاوية والقوة الركن موقعا ودورا .
باختصار , كانت مصر واحة العرب سياسيا . فمنذ ثورة يوليو الأم , رصع العالم العربى
بنسل دافق من الثورات التحريرية , تبدو كالاقمار حول الشمس أو كالنويات حول النواة
, وكان لكل منها بدورها صداها العميق الفاعل , ابتداء من الجزائر وانتهاء باليمن .
0 التعليقات:
إرسال تعليق