21‏/12‏/2014

إستراتيجية الاستعمار والتحرير 20

إستراتيجية الاستعمار والتحرير 20


       لا شك أن عصر أوروبا الغربية قد انتهى تماما , وقد خرجت زعامة العالم منها إلى الأبد , وتضاءل وزنها النسبى فى العالم ككل , وبدأت تاخذ حجمها الطبيعى بلا مبالغة أو تورم مصطنع فى العالم

 ولعلها – برمتها – لاترقى إلى مستوى الصف الأول من القوى العالمية , وبالتأكيد لا تطاول أيا من القوتين الماموث , ولا تزيد بوضعها الراهن , وقد جردت من مستعمراتها , عن ان تكون منطقة حاجزية تصادمية بينهما , بل هى الان بالفعل ذيل للولايات المتحدة أو بمثابة برتغال كبرى جديدة بالنسبة إلى بريطانيا عظمى جديدة هى الولايات المتحدة , بينما أصبحت بريطانيا القديمة نفسها رجل أوروبا المريض الجديد .

      كذلك فإن تقلصها إلى قوقعتها الأصلية سلخ عنها موارد ومكاسب عبر البحار وألقى بها على مواردها المحلية الضيقة وحدها.

 من هنا أزماتها المادية و الاقتصادية الخائفة التى تتردى فيها تبعا كل دولة من دولها بلا استثناء منذ ما بعد التحرير , وبقدر ما كنت نسبة المكاسب الاستعمارية فى الدخل القومى بقدر ما كانت النكسة .

ولا شك أن مكاسب الاستعمار التراكمية لا زالت تخفى أو تخفف من حدة الأزمة , كما أن التجارة العالمية لا تزال شبه اسعمارية فى هيكلها , هذا عدا علاقات كومنولث واتحاد فرنسى .. إلخ .

 ولكن إن اجلا أو عاجلا ستواجه هذه الدول المزيد من الصعوبات , وقد يتجمد مستوى المعيشة فيها أو ينحدر , أو تصدر الفائض من سكانها إلى المهاجر الأوروبية .

والمشاهد أن بعض هذه الدول لم تفق بعد من اثار خمره الاستعمار ولم تدرك تماما مواقعها المتواضعة الجديدة , ومن ثم تبدو فى ميدان السياسة العالمية أدنى إلى أقزام تتصرف كعمالقة .

         هذا التضاؤل النسبى فى الوزن السياسى والموارد الاقتصادية هو وحده و أساسا الذى يفسر الحملات المحمومة لوحدة أوروبا حتى تستعيد بعض المكانة فى عالم متغير .

 والواقع أن دفاع عن النفس بقدر ما هو رد على حركة التحرير وتكتل ضدها بالذات , أكثر مما هو رد على القوتين الماموث .

         بيد أن المهم فى المدى البعيد أن أوروبا اليوم أبعد عن الوحدة مما كانت منذ قرون , وبالتحديد منذ ماقبل عصر الكشوف والاستعمار البحرى .

 ذلك أن الاهتمامات الاستعمارية عبر البحار لم تترك أوروبا فى حركة طاردة لا جاذبة مركزية فحسب , بل فى صراعات عميقة وسعارات شرسة باعدت بينهما أكثر من اى وقت مضى .

 وليس من الصدفة بالتأكيد أنها لم تبدأ تتقارب فيما بينها إلا بعد أن فقدت تلك الأسلاب أسباب الصراع 
. وعلى كل , فإذا كانت وحدة منطقة كالولايات المتحدة مثلا قد نجحت لأنها عمدا تناست كل التاريخ وأهملت كل الجغرافيا , فإن وحدة أوروبا تتعثر لأنها – كم قيل – تتذكر التاريخ أكثر مما ينبغى وتتذكر الجغرافيا أقل مما ينبغى .



         أما عن تغيير الأوزان والقوى النسبية للدول داخل أوروبا الغربية , فلا شك أنها لا تتضح اليوم تماما بفعل القصور الذاتى والاندفاع التاريخى , ولكنها جديرة بأن تطفو على السطح إن اجلا أو عاجلا , ولو أن بعض إرهاصاتها قد بدأت بالفعل . فمع عودة كل دولة إلى قاعدتها الأرضية الوطنية وتصفية و استهلاك الاثار التراكمية لمكاسب الاستعمار القديمة بالتدريج , قد تقترب نوعا أوزانها ومواردها وقواها النسبية من نط ما قبل الانقلاب الصناعى , بمعنى أن يصبح لحجم الموضع المحلى وثرائه دور أكبر فى وإذا صح هذا فألمانيا هى وريثة الصدارة الحتمية فى أوروبا الغربية بدلا من بريطانيا , كما أنه ليس من المستبعد أن تقترب فرنسا من بريطانيا جدا .


        تلك إذن هى احتمالات المستقبل : صورة رهيبة للبشرية عامة وحلم مفزع كالكابوس الجاثم للاوروبى خاصة .

ومن هنا جار رد الفعل العنيف

 فلقد جعلت الاستراتيجية النووية الحرب مستحيلة , وجعلت من التعايش السلمى ضرورة بقائية , وهذا وذاك على الأقل بحكم ميزان الرعب النووى .

 ومن هنا أصبحت الترسانة النووية العالمية طاقة مشلولة أو رادعا ذاتيا كالبوميرانج الذى يرتد إلى صدر صاحبه .

       وهذا الموقف كما يقول مورجنتاو يحمل فى طواياه إما الشر المستطير  الذى لم يسبق له مثيل , وإما الخير الذى لا يكاد يصدق .


0 التعليقات: