إستراتيجية الاستعمار والتحرير 20
وهذا الموقف كما يقول مورجنتاو يحمل فى
طواياه إما الشر المستطير الذى لم يسبق له
مثيل , وإما الخير الذى لا يكاد يصدق .
لا شك أن عصر أوروبا الغربية قد انتهى
تماما , وقد خرجت زعامة العالم منها إلى الأبد , وتضاءل وزنها النسبى فى العالم
ككل , وبدأت تاخذ حجمها الطبيعى بلا مبالغة أو تورم مصطنع فى العالم
ولعلها –
برمتها – لاترقى إلى مستوى الصف الأول من القوى العالمية , وبالتأكيد لا تطاول أيا
من القوتين الماموث , ولا تزيد بوضعها الراهن , وقد جردت من مستعمراتها , عن ان
تكون منطقة حاجزية تصادمية بينهما , بل هى الان بالفعل ذيل للولايات المتحدة أو
بمثابة برتغال كبرى جديدة بالنسبة إلى بريطانيا عظمى جديدة هى الولايات المتحدة ,
بينما أصبحت بريطانيا القديمة نفسها رجل أوروبا المريض الجديد .
كذلك فإن تقلصها إلى قوقعتها الأصلية سلخ
عنها موارد ومكاسب عبر البحار وألقى بها على مواردها المحلية الضيقة وحدها.
من
هنا أزماتها المادية و الاقتصادية الخائفة التى تتردى فيها تبعا كل دولة من دولها
بلا استثناء منذ ما بعد التحرير , وبقدر ما كنت نسبة المكاسب الاستعمارية فى الدخل
القومى بقدر ما كانت النكسة .
ولا شك أن مكاسب الاستعمار التراكمية لا زالت تخفى
أو تخفف من حدة الأزمة , كما أن التجارة العالمية لا تزال شبه اسعمارية فى هيكلها
, هذا عدا علاقات كومنولث واتحاد فرنسى .. إلخ .
ولكن إن اجلا أو عاجلا ستواجه هذه
الدول المزيد من الصعوبات , وقد يتجمد مستوى المعيشة فيها أو ينحدر , أو تصدر
الفائض من سكانها إلى المهاجر الأوروبية .
والمشاهد أن بعض هذه الدول لم تفق بعد
من اثار خمره الاستعمار ولم تدرك تماما مواقعها المتواضعة الجديدة , ومن ثم تبدو
فى ميدان السياسة العالمية أدنى إلى أقزام تتصرف كعمالقة .
هذا التضاؤل النسبى فى الوزن السياسى
والموارد الاقتصادية هو وحده و أساسا الذى يفسر الحملات المحمومة لوحدة أوروبا حتى
تستعيد بعض المكانة فى عالم متغير .
والواقع أن دفاع عن النفس بقدر ما هو رد على
حركة التحرير وتكتل ضدها بالذات , أكثر مما هو رد على القوتين الماموث .
بيد أن المهم فى المدى البعيد أن أوروبا
اليوم أبعد عن الوحدة مما كانت منذ قرون , وبالتحديد منذ ماقبل عصر الكشوف
والاستعمار البحرى .
ذلك أن الاهتمامات الاستعمارية عبر البحار لم تترك أوروبا فى
حركة طاردة لا جاذبة مركزية فحسب , بل فى صراعات عميقة وسعارات شرسة باعدت بينهما
أكثر من اى وقت مضى .
وليس من الصدفة بالتأكيد أنها لم تبدأ تتقارب فيما بينها إلا
بعد أن فقدت تلك الأسلاب أسباب الصراع
. وعلى كل , فإذا كانت وحدة منطقة كالولايات
المتحدة مثلا قد نجحت لأنها عمدا تناست كل التاريخ وأهملت كل الجغرافيا , فإن وحدة
أوروبا تتعثر لأنها – كم قيل – تتذكر التاريخ أكثر مما ينبغى وتتذكر الجغرافيا أقل
مما ينبغى .
أما عن تغيير الأوزان والقوى النسبية
للدول داخل أوروبا الغربية , فلا شك أنها لا تتضح اليوم تماما بفعل القصور الذاتى
والاندفاع التاريخى , ولكنها جديرة بأن تطفو على السطح إن اجلا أو عاجلا , ولو أن
بعض إرهاصاتها قد بدأت بالفعل . فمع عودة كل دولة إلى قاعدتها الأرضية الوطنية
وتصفية و استهلاك الاثار التراكمية لمكاسب الاستعمار القديمة بالتدريج , قد تقترب
نوعا أوزانها ومواردها وقواها النسبية من نط ما قبل الانقلاب الصناعى , بمعنى أن
يصبح لحجم الموضع المحلى وثرائه دور أكبر فى وإذا صح هذا فألمانيا هى وريثة
الصدارة الحتمية فى أوروبا الغربية بدلا من بريطانيا , كما أنه ليس من المستبعد أن
تقترب فرنسا من بريطانيا جدا .
تلك إذن هى احتمالات المستقبل : صورة
رهيبة للبشرية عامة وحلم مفزع كالكابوس الجاثم للاوروبى خاصة .
ومن هنا جار رد
الفعل العنيف
فلقد جعلت الاستراتيجية النووية الحرب مستحيلة , وجعلت من التعايش
السلمى ضرورة بقائية , وهذا وذاك على الأقل بحكم ميزان الرعب النووى .
ومن هنا
أصبحت الترسانة النووية العالمية طاقة مشلولة أو رادعا ذاتيا كالبوميرانج الذى يرتد
إلى صدر صاحبه .
0 التعليقات:
إرسال تعليق