إستراتيجية الاستعمار والتعمير 14
إذا كان ماكيندر قد صنف أقاليم الصراع
الاستراتيجى على أساس الموقع , فقد نظر فى الحقيقة إلى مصايرها على أساس الموضع أى
مدى قوة القاعدة الأرضية (بمواردها الطبيعية وقوتها البشرية ودرجتها الحضارية
والتكنولوجية ..) .
فوجد أن المستقبل بعامة ليس للمواقع الممتازة ولكن للمواضع
الأغنى .
نجد أن حلفا كالأطلنطى ليس فى الحقيقة إلا
جماع القوى البحرية فى غرب اوروبا بالاضافة إلى الولايات المتحدة .
وما الحديث
الملتهب اليوم عن وحدة أوروبا اقتصاديا , أو سياسيا , أو اقتصاديا وسياسيا , إلا
رد فعل مباشر لهذا التناقض المزمن بين وحدة قوة البر فى جانب وتفتت القوة البحرية
فى جانب أخر .
وعدا هذا , فإن الاستعمار إذا كان من اسباب
قوة وتفوق الدول البحرية حينا فهو نقطة ضعف كامنة فيه فى النهاية .
فمكاسب
المستعمرات المغتصبة موقوته بالضرورة , ورهن ببقاء هذا الاستعمار .
وإذا ما توقف
تدفقها أو ضاعت فإن القوى البحرية ستجد الأرض وقد سحبت من تحت أقدامها وانكمشت
قاعدتها الجغرافية والمادية الاقتصادية .
ويكون عليها ان تنكفئ على مواردها
الذاتية المباشرة التى لا تقارن بموارد الهارتلاند .
وهذا ما حدث الان بالفعل بعد
ذوبان الاستعمار .
فلم تعد غرب أوروبا فى مجموعها بند للاتحاد السوفييتى , ولولا
قوة الولايات المتحدة من ورائها لما صمدت فى الصراع الجديد .
المنطقة البينية :
هذا فيما يختص بالهارتلاند والسواحل البحرية
, الفيل والحوت , وتبقى أخيرا منطقة الارتطام أو التمساح . . . .
هذه هى ما دعونا فيما
مضى بالمنطقة البينية , وهى جغرافيا بينية بموقعها بين قوى البر شرقا والبحر غربا
, وتمثل بطبيعتها وبيئتها منطقة انتقال بينهما تجمع بين الصفة البحرية والبرية
بدرجات متفاوتة .
وهى استراتيجيا منطقة ارتطام وجبهة تصادم بين تلك القوى القطبية
ومن ثم أرض المعركة الحتمية بينهما , فلا يستطيع أى منهما أن يصل إلى الاخر ويضربه
إلا بالمرور على هذا الجسر الامفيبى .
ونحن نحدد هذه الوحدة الاستراتيجية بنطاق
يشمل ألمانيا و شرق أوروبا والبلقان فيما عدا اليونان , ثم الشرق الأوسط بما فيه
تركيا و إيران والمشرق العربى .
كما نجد له امتدادات فى الشرق الأقصى بين السواحل
والداخل .
فى الواقع أن كل تاريخ الصراع بين البر
والبحر هو محاولة التحكم فى هذه المنطقة بالذات , فهى تمسك زمام الموقف بين القوى
القطبية ويمكن أن ترجع كفه على الأخرى , وبالتالى فإن مصيرها فى النهاية هو الذى
يحدد مصير الصراع بين الهارتلاند و
السواحل.
ولا شك أن هناك قطاعات معينة من هذا النطاق
تمتاز بموقعها وبطبيعتها بقيمة استراتيجية حرجة , ولعل اهمها هو شرق أوروبا فى
الشمال و الشرق الأوسط فى الجنوب .
وليس صدفة بالتأكيد أن معظم من حاولوا البحث عن
أخطر المواقع الاستراتيجية فى العالم – أيا كانت صحة ارائهم – وضعوها فى هذا
النطاق أولا , وفى هذه القطاعات منه بالذات ثانيا .
المنطقة بعد هذا وفى مجموعها أقل مساحة
وسكانا وقوة , واكثر تمزقا وتفتتا سياسيا , من أى من القوى القطبية .
وهى من ثم فى
موقف هجومى أو دفاعى ضعيف , محصورة بين فكى كماشة أو بين شقى رحى .
وقد يبدو من هذا الأول وهلة أن التبعية
والعجز قدرها الجغرافى والتاريخى , وأنها ضحية موقعها المتوسط , وأن دورها
الاستراتيجى لا يمكن أن يزيد عن دور الدول الحاجزة التصادمية التقليدى .
لكن الحقيقة أن نفس هذه الخصائص وذلك الموقع
يمكن أن تكون عامل قوة لهذه المنطقة إذا ما جمعت قواها فى تكتلات أو قطاعات
اقليمية كبيرة .
0 التعليقات:
إرسال تعليق