إستراتيجية الاستعمار والتحرير 24
من الكارثة إلى
العقدة :
وليس من شك بعد هذا أن فيتنام كانت كارثة
حقيقية وهزيمة ساحقة ومخزية لأمريكا , رجت كل فكرها الاستراتيجى ووجودهما وكيانها
رجا , وهزت مكانتها السياسية العالمية حتى النخاع , وذلك فضلاعن حياتها الداخلية
التى أصيبت بتقلصات حادة إلى حد التشنجات فرضت عليها أن تعيد النظر فى كل كيانها
وذاتها ومعطياتها , ومن ثم مسارها ومسيرتها ومصيرها .
فالدولة النووية العظمى الأولى فى العالم
والتاريخ , التى خرجت عاتية عادية لتدخل دولة صغيرة متخلفة ولكنها مناضلة تحت
سيطرتها , بل ولتعيدها الى العصر الحجرى كذا بجبروتها التكنولوجى الفائق , عادت هى
مهزومة عاجزة منسحبة بعد حرب شبه عقدية استنزافية خاسرة مثلما هى ظالمة , لتخرج
بعدها من المنطقة إلى الأبد ولتدخل التاريخ بأول هزيمة لها فى تاريخها وكذلك بأول
هزيمة تقليدية لقوة نووية فى التاريخ .
أدركت الولايات لأول مرة ربما أن للقوة
حدودا , حتى القوة النووية , وأن حدود القوة تفرض عليها التراجع عن دور شرطى
العالم وعن مغامرة الصدام النووى بين القطبين .
وتعبيرا عن هذا تحولت سياسة أمريكا
إلى أن تتولى الدول الصديقة والحليفة حروبها وصراعاتها المحلية بنفسها بدل أن تنوب
هى عنهم فيها , بحيث لا تتورط أو تقدم إلا التأييد المعنوى وبعض المادى لا أكثر .
فالحروب الأسيوية يقوم بها الأسيويون , والحروب المحلية تترك لأصحابها وهكذا –
مبدأ نيكسون . ومجمل القول فإن سياسة الوفاق جاءت , كما عبر جيمز ريستون بدقة ,
ملازمة للانحسار الأمريكى وإخراجها لبقا للتقوقع الأمريكى نتيجة عقدة فيتنام .
جاء مشروع أنبوب الغاز الطبيعى السيبيرى
الهائل من أعماق الاتحاد عبر شرق أوروبا إلى غربها , حيث يرسم خطا محوريا عرضيا
أساسيا متعدد الفروع والنهايات , يقطع عبر الكتلتين ويتعامد على الستار الحديدى ,
ويكاد يتحدى الاستقطاب الثنائى أو يجعل منه سخرية سياسية استراتيجية بمعنى ما إلى
حد أو اخر . ويكفى دليلا أو مؤشرا فى هذا المعنى أن أمريكا تعارض المشروع بشدة على
اساس أنه يضع إمدادات الطاقة الأوروبية تحت رحمة التهديد السوفيتى لعشرات السنين
فى المستقبل , بينما أصرت دول أوروبا الغربية على أنه لا يهدد أمنها وإنما يؤمن
مصالحها , ثم مضت فى تنفيذ المشروع فى وجه المقاومة الأمريكية أو غير عابثة بها .
الوفاق : الذى هو بالمناسبة ليس وفاقا
بالمعنى الديبلوماسى الفنى الصارم بل مجرد انفراج , الوفاق لا يعنى التقارب بين
القطبين المتضادين بقدر ما يعنى التفاهم بينهما على ألا يدعا للصراع أن يؤدى إلى
الصدام بينهما .
الوفاق يسبعد الان (الضرب تحت الحزام)
مثلما استبعد التعايش من قبل (الضرب فى الرأس) . وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على
أن الصراع قد اقترب بالعملاقين من حالة من الاعياء والجمود والمضاربة . إلا أن
الوفاق لا يوقف الصراع , وإنما فقط يضع حدا للمغالاة فى إرهاق المتصارعين لحساب
ولصالح المتفرجين .
ولك يكن غر يبا لذلك أن يأتى رد فعل
الاخرين سواء داخل الكتل أو خارجها مضادا للوفاق رغم اختلاف مواقعهم الاساسية .
فالكل تقريبا رأى فيه قطعة من انتهازية الأقوياء وصيغة ملفقة لإخضاع علاقات
وصراعات الضغار لضبط علاقات وصراعات الكبار , بينما تحدث بعض الساخرين الساجعين عن
نفاق الوفاق وانبعاج الانفراج وفى العالم الثالث , خاصة فى الصين , ذهب كثيرون إلى
اعتباره تواطؤا سافرا بين القطبين (ويالتا ثانية) , (يالتا الحرب الباردة) تستهدف
تقسيم العالم الثالث إلى مناطق نفوذ جديدة مثلما استهدفت يالتا الأولى بعد الحرب
الساخنة اقتسام أوروبا .
0 التعليقات:
إرسال تعليق