إستراتيجية الاستعمار والتحرير 38
أطراف اللعبة
أمريكا و أوروبا :
اهتمامات اوروبا فى المرحلة الحالية هى
المصالح الاقتصادية اكثر منها السياسية , بينما أن اهتمامات أمريكا سياسية و
استراتيجية أكثر .
الأولى أهدافها وحساباتها اقليمية أكثر , والثانية عالمية أكثر
.
يمكن القول بأن هدف امريكا فى اللعبة ,
أن تكون هى قائد الأوركسترا و اوربا ضابط الايقاع , ولذا فإن المطلوب هو نوع من
تطبيع العلاقات بينهما من حين إلى أخر .
فكلاهما يريد مضاربة القوى الثلاثة المضادة
ببعضها البعض , ليحتفظ هما بتوازن القوى لصالحهما وليحتفظا بالصدارة العالمية .
و
بطبيعة الحال سيظل الاتحاد السوفيتى هو الخطر الرئيسى , وكل المناورة و التكتيك
والمضاربة موجهة إليه ومركزة عليه أساسا , وكل المحاولة هى لتحجيمه وعزله عن
الأخرين وحصاره صراعيا , دون أن يصل الأمر مع ذلك إلى حد الصدام معه تحت أية ظروف
, فتلك هى الفرضية أو الشرطية الأولى فى الوفاق كله أصلا .
غير أن اوروبا بعد هذا تريد أن تستغل تعدد
المراكز الجديدة فى الاستقلال نوعا عن السيطرة الأمريكية اقتصاديا وسياسيا
واستراتيجيا .
ومن جانبها فإن أمريكا لا تمانع فى أن تقوى أوروبا و تتسلح لتكون
حليفا أقوى إلى جانبها , ولكن دون أن تستقل بإرادتها عنها تماما أو تهدد زعامتها
.ثم تريد أوروبا , ثانيا , تحجيم كل من العملاقين الأعظم بحيث تتضاءل نوعا الهوة الساحقة
والسحيقة بينها وبينهما فى القوة . ثم ثالثا تريد أوروبا منع الصدام بينهما و أن
تعمل كعامل اتصال وتقارب بينهما . وهو دور ترحب به أمريكا على ألا يكون هذا على
حساب العلاقة الخاصة بينهما .
الاتحاد السوفيتى :
إذا كانت عقدة الروسيا الجغرافية – التاريخية
الكبرى والتقليدية هى الشعور بالحصار المحكم الخانق بين محيطات متجمدة فى الشمال
وجيران غير أصدقاء من سائر الجهات , وكان حجم الرقعة الهائل و أبعاد الامتداد
القارية هى الحماية المعوضة التى حلت تلك العقدة , فإن العصر النووى قد جاء أخيرا
وعلى النقيض ليعقدها من جديد بل ويضاعفها أضعافا .
فبعد أن كانت الروسيا فيما مضى
تملك الدفاع بالعمق وتستطيع أن تشترى الزمان بالمكان وتستدرج العدو الغازى إلى
العمق و إلى مقتل محقق , فإن عصر الصواريخ النووية قد حيد عامل الحجم والضخامة
وسلب المكان عمقه دون أن يوفر بالمقابل عامل الأمن و الأمان على امتداد الحدود
المترامية ليس هذا فحسب
بل إن الاتحاد ليجد نفسه
اليوم محاصرا نوويا من كل الجهات تقريبا : الصين شرقا و أوروبا الغربية و الولايات
المتحدة غربا , بما فى ذلك الأساطيل النووية على جانبيه فى الأطلسى والهادى
والهندى , هذا بالاضافة إلى تحالف أو تقارب هؤلاء جميعا ضده .
و هكذا بات الاتحاد
أن يحقق التفوق والردع النووى ليس فقط ضد الولايات وحدها ولكن أيضا ضد سائر
الأطراف , كما صار عليه ابتداء أن يكسر حلقه الحصار تلك بأى ثمن أو وسيلة .
من هنا
تحدد أهداف الاتحاد فى لعبة توازن القوى الجديدة فى تفجير اللعبة عليهم جميعا فى
الأساس وقلب المائدة على رؤوسهم بلا استثناء .
نقطة البداية الحتمية هى تحجيم العملاق
الأعظم أمريكا بعزله ما أمكن عن سائر حلفائه أو بإبعاده عن التقارب مع سائر اعدائه
.
وفى هذا السبيل فليس أمام الاتحاد السوفيتى أولا سوى العمل على تحييد أوروبا و
إبعادها بقدر المستطاع عن أمريكا , مستغلا فى ذلك خشية أوروبا من أن تتحول إلى
ميدان المعركة المباشر ورغبتها لذلك فى السلام , بالاضافة إلى رغبتها فى التحرر من
النفوذ الأمريكى المفرط و الاستقلال كقوة عظمى .
ثم لا يقل عن ذلك أهمية أن الاتحاد يريد ,
ثانيا , تحييد أمريكا (ومعها أوروبا الغربية بصفة تكميلية) فى صراعها المرير مع
الصين .
والنقطة أو العقدة الاساسية فى ذلك عند الاتحاد هى كما رأينا ألا يواجه أى
تحالف متزامن على جانبيه غربا وشرقا فى أوروبا و اسيا أى بين أمريكا (واوروبا)
والصين – هذا كما سبق رعبه الدائم وربما مقتله الكامن .
و أخيرا ولنفس السبب فإن الاتحاد يريد ,
ثالثا , عرقلة أى تقارب بين الصين و اليابان . ورغم أنه ليس من المحتمل كثيرا
اجتماع هذين الأخيرين فى حلف غير مقدس أو فى تكتل موحد نظرا للتناقضات العميقة التاريخية
والمبدئية بينهما , إلا أن خطر اتحادهما فى عمل أو موقف مشترك ضد الاتحاد على
جبهته الشرقية يبقى مع ذلك قائما ويثير دائما مخاوف (الخطر الأصفر) . ويحاول
الاتحاد بطبيعة الحال أن يوسع مسافة الخلف بين العملاقين الأسيويين مستغلا فى ذلك
التناقض الأسى بينهما . وفى هذا فليس أمامه سوى أن يسعى إلى التقارب مع اليابان
طبعا , ملوحا لها بالاستثمارات والمشروعات المغرية التى لا حد لها فى سيبريا
الشرقية خاصة .
و إذا كانت مشكلة جزر الكوريل الأربع التى احتلها الاتحاد بعد
الحرب الثانية وتطالب اليابان باستعادتها ماتزال معلقة ومانعة لتطبيع العلاقات
بينهما , فلعل الاتحاد يحتفظ بها للمستقبل البعيد كورقة رابحة فى لعبة التوازن ,
لا سيما أن أحد أسباب إصراره على عدم التنازل عنها خشيته فيما يبدو من أن يضع بذلك
سابقة لمطالب اقليمية مماثلة من قبل الصين ورومانيا .. الخ .
اللعبة الأمريكية هى أن تتحد الولايات
والصين لتتغذيا معا بالسوفيت , ثم لتتعشى هى بعد ذلك بالصين .
0 التعليقات:
إرسال تعليق