12‏/11‏/2016

روح الإشتراكية 8

روح الإشتراكية 8


        للاشتراكية نظريات كثيرة متناقضة فى ظاهرها وليس بين جماهير اشياعها إلا رابطة مشتركة وهى النفور الشديد من النظام الحاضر وتعليق الآمال على خيال جديد يتحسن به الحال ويقوم مقام المعتقدات القديمة .

       يظهر أول وهلة ان اكثر أنصار الاشتراكية لا يكونون إلا من طبقات العامة ولا سيما العمال لظهور الاشتراكية الآن فى هذا الشكل البسيط الذى يسوغ فهمه وهو : عمل قليل ونعيم كبير ، فهى تعد العمال بدلا من أجور متقلبة وشيخوخة ذات بؤس وشقاء ومن استعباد رب العمل الشديد بمجتمع صالح يكون أجر العمل فيه أحسن وأهنأ لتولى الحكومة فيه تقسيم الرزق .


                                             طبقات العمال

        سأقتصر على بيان طبقة معينة من العمال أى طبقة العمال الباريسية فهى التى استطعت ان العمق فى استقرائها وهى التى تمتاز من غيرها بوجودها فى مدينة باريس التى اشتعلت فيها جميع الثورات الفرنسية ، فهذه الثورات لم تتم إلا بعد ان دعمت تلك الطبقة زعمائها .

         هناك تقسيم يقتضى بيانه منذ الآن وهو انه يوجد فى طبقة العمال نوعان ذو نفسيتين وهما : الفَعَله و المحترفون .

         فأما الفَعَله فهم الأقل ذكاء و الاكثر عددا . 

وعلى نسبة تقدم اللآلات يزدادون ومن نتائج اتقان الآلات عدم احتياج العمل الى ذكاء العامل ، ولهذا فان العامل يقتصر فى المصنع على رد صفائح المعدن التى تتغضن وتتحدب الى آلتها مثلا ، 

و إذا اتخذنا المصابيح الصغيرة التى يستعملها الناس فى إنارة الخنادق والتى لا يساوى ثمن الواحد منها اكثر من ربع فرنك مثالا للأشياء الاعتيادية نجدها تتركب من خمسين جزءا يقوم بصيغ كل واحد منها عامل خاص لا يشتغل بغيره مدة عمره ،

 ولما سهل عمل الفاعل على هذه الصورة قل أجره وزاحمه النساء و الاولاد الذين يقدرون مثله على صنع ذلك ، ولهذا اضحى الفاعل الذى لم يحذِق غير ذلك العمل منقادا انقيادا تاما الى رب العمل .

        وعلى هذا النوع من العمال تعتمد الاشتراكية ، وينشأ عن قلة ذكائه وسوء عيشه تعشقه بحكم الضرورة جميع المذاهب التى تَعِدُه بتحسين حاله ، وهو وان كان لا يقوم وحده بثورة ما فإنه يتبع جميع الثورات طائعا غير مكره .

         ويوجد بجانبه نوع آخر أرقى منه وهو نوع المحترفين المشتمل على العمال الذين يقومون بأمور المبانى والميكانيك والصناعة الصغرى كصناعة النجارين والبرادين و صانعى التوتيا والسباكين والكهربائيين والدهانين والمزخرفين والبنائين الخ .

        الموظف يزدرى المحترف والمحترف يزدريه اكثر لعده إياه مكسالا عاجزا ، والمحترف وان كانت ثيابه أقل حسنا وأوضاعه أقل تهذيبا فانه يعتقد تفوقه عليه نشاطا وحركة وذكاء ، 

وهذا الاعتقاد موافق للحقيقة فى الغالب لأن المحترف لا يرتقى إلا عن براعة واستحقاق والموظف لا يرتقى إلا عن براعة و استحقاق و الموظف لا يرتقى إلا عن قدم فى الوظيفة ، ولأن قيمة الموظف بالمجموع الذى هو فرد منه والمحترف قيمته بذاته ،

 ولأن المحترف الماهر فى حرفته واثق بأن يجد له عملا أينما حل والموظف على خلاف ذلك يرتجف أمام رؤساءه القادرين على عزله ، ولأن المحترف ذو كفاءة واستقلال ذاتى عظيم والموظف قاصر عن ان يتجاوز حدود وظيفته الضيقة وتنحصر أعماله فى تطبيق الأوامر ،

 ولأن المحترف يقتحم كل يوم عوائق جديدة يتدرب بها على الاستنباط والتمييز ، ويتقاضى أجره أعظم من راتب الموظف الذى يعتنى بالكماليات الظاهرية ، فالمحترف القليل الخبرة يربح فى خمس وعشرين سنة مبلغا لا ينال موظف الادارة أو البيوت التجارية مثله إلا بعد خدمة عشرين سنة .

 وهذا ما يجعل الموظف خلافا للمحترف من الطبقات الدنيا ومن غلاة الاشتراكيين ، إلا انه اشتراكى قليل الخطر لأنه لما كان عاجزا عن الاعتصاب أو الانتساب الى أحدى النقابات خوفا من خسران وظيفته فهو مرغم على كتم آرائه .

        قد تُسير الآراء السياسية العامل فى بعض الأحيان ولكنها لا تلتقمه أبدا ، وهو وان سهل جعله متمردا ذا صولة فى أحد الاوقات فلا يبقى متحزبا ، 

وبما انه سريع الاندفاع فلا ترسخ المبادئ فيه ، وأما نفوره من أفراد الطبقات الوسطى فسطحى اتفاقى نشأ عن كون أولئك الأفراد أغنى منه وأحسن ثيايا .

       مهما كان العامل ثوريا ذا صولة ميالا الى زعماء الفتن فهو كَلِف بالتقيد شديد المحافظة عظيم التحكم كثير الاستبداد ، 

وهو وان كان يهتف لمن يحطمون المعابد والتيجان فهو يهتف بصوت أعلى لمن يجددون بنائها ، وإذا صار رب عمل فلا يلبث ان يصبح جبارا عاتيا إزاء اصحابه السابقين اكثر من أرباب الاعمال بين الطبقات الوسطى .

       خلاصة الدعوة التى يقوم بها الاشتراكيون بين طبقات العمال فهى بيانهم ان العمال لا يصنعون إلا لمنفعة أرباب الاعمال وأنهم سينالون أجور مرتفعة تلقاء عمل قليل اذا تغيرت الحكومة .
      إليك سببا أخر يحول خاصة دون انتشار مبادئ الاشتراكية وهو ان عدد صغار المُلاك والمساهمين من العمال يزداد يوما فيوما ،

 فمتى حاز العامل بيتا صغيرا وسهما أو جزء سهم فانه يعد نفسه ربا من أرباب رؤوس الأموال ولا يتأخر العامل طرفة عين عن ان يكون محافظا عنيدا إذا كان له أسرة وملجأ يأوى اليه ومال يدخره ، 
وأما الاشتراكى ولا سيما الفوضوى فهو فى الغالب عزب لا مأوى له ولا مال ولا عائلة ، ومثله مثل البدوى الذى يظل جموحا متوحشا فى كل جيل .
              

0 التعليقات: