13‏/11‏/2016

روح الإشتراكية 27

روح الإشتراكية 27



أسباب تفوق الألمان فى التجارة والصناعة 

     يعرف الألمان هذا الأمر حق المعرفة وانظر كيف يعرب أحد كتابهم عما فى نفسه فى رسالة نشرها حديثا : " نحن الذين يصدرون فى الوقت الحاضر إلى باريس السلع الباريسية فسبحان مقب الزمان والأحوال ! 

       " وتحتاج فرنسا إلى عمال ايطاليين لنقل التراب والقيام بالحرف الشاقة التى لا تجزل الأجرة ، وتحتاج إلى ألمان وبلجيكيين وسويسريين للقيام بأمور الصناعة والمصارف والتجارة
       " فإذا عظمت أمة ونكزت أمة أخرى مشتتة فإن منفذا يتكون ويجرى منه الريح أى استيلاء الاجنبى ، فعلى الأمم المشتتة أن تلم شعثها وتضيق صفوفها " 

    وقد قال الموسيو " أورتو ميليه " مشيرا إلى الكاتب الألمانى المذكور :  

        " لا تزال العبارات التى كتبها ذلك الألمانى تتردد إلى نفسى ، فقد تنبأ فيها أن فرنسا ستصبح مستعمرة يديرها موظفون فرنسويون ويستثمرها صناع الألمان وتجارهم وزراعهم ، وعند ما قرأتها أول مرة منذ أربع سنين عددتها شتيمة ، غير أننى لما نظرت إلى الامر عن كثب رأيت أن ثلاثة أرباع ما فيها قد تحقق حتى الآن " 

     فنبحث عن العلل التى نال بها الألمان هذا التفوق الصناعى التجارى فى أقل من ثلاثين سنة . 

    سنرفض قبل كل شئما تلوكه الأفواه فى الغالب من كون انتصارالألمان سبب لترويج تجارتهم . 

تأثير النظام الحربى فى ألمانيا هو أنه يمنح الشاب صفات فى الترتيب وحسن السلوك والإخلاص والانتظام وغير ذلك مما ينفعه فى التجارة . 

    إذا وجب علينا أن نبحث عن علل أخرى لبيان ذلك التفوق  :
      لا ننكر أن لصفات الشعب المقام الأعلى فى ذلك الأمر كما فى غيره ، ولكننا نرى قبل الاطناب فى هذه الصفات أن نشير إلى أن عظمة الألمان لا تتألف من قوتهم الذاتية وحدها بل من ضعفنا أيضا . 

        علل هذا الضعف عندما بحثنا عما تتركب منه الروح اللانينية من المبادئ ، فالقراء يعلمون كيف تكونت قابليات الشعوب اللاتينية من تعاقب ماضيها وإلى أى درجة تكابد هذه الشعوب اليوم تأثير ذلك الماضى ويعرفون تأثير مركزيتنا عليه المتأصلة وتأثير ابتلاع الحكومة باللتدريج لجميع الأمور ، ذلك الابتلاع الذى يقضى على ما عند الأفراد من ملكة يعتمدون بها على أنفسهم ويتركهم عاجزين عن انجاز أى عمل بأنفسهم عندما لا يكون على رأسهم أحد يسوسهم  ، كما أنهم يعرفون ما لتربيتنا من التأثير فى تجريد الشبان من مسحة الإرادة وملكة الاستنباط المنقلتين إليهم بالوراثة ، وفى جعلهم لا يفقهون شيئا من الحياة سوى ألفاظ يرددونها . 

    يوجد الآن فى باريس ثلاثة بيوت ألمانية تبيع عدسات مرئية للتصوير ، وقد أقام أحد هذه البيوت فى باريس مصنعا يضم مئتى عامل ألمانى لصنع ما يرغب أبناء فرنسا فى اشترائه من العدسات ، فإذا توجع تجارنا وأرباب صناعاتنا من المزاحمة الأجنبية فإنهم يتوجعون فى الحقيقة من جمودهم وعجزهم ، وما أقرب الوقت الذى سيعد فيه الألمان باريس من أخصب مستعمراتهم . 

     تكون أحكامنا قاسية إذا ألقينا التبعة على أرباب صناعاتنا وعزونا إلى عجزهم وكسلهم ما نتج بعضه عن علل أخرى ، فمن الأمور المسلم بها أن مطاليب عمالنا الواقعة موقع الرضاء عند ولاة أمورنا ، والضرائب المثقلة لكاهل صناعتنا تؤدى إلى استحالة مناضلتنا إزاء خصومنا ، ويؤدى إلى مثل تلك الاستحالة شوائب آلاتنا وعدم كفايتها ، وارتفاع نفقة العمل عندنا ، فما هو غنى عن البيان أن رب العمل يعدل عن صنع السلعة إذا قدر على ابتياعها بثمن دون نفقة عملها فى بلاده فيغلق معامله ويصبح أحد الباعة . 

ولو كان عنده ما عند الانكليز والأمريكان من قابليات إرثية لحذا حذوهم فى معاناة مطاليب العمال ، وفى إتقانه آلاته ، ليظفر فى ميدان المزاحمة . 

    حقا إن أرباب صناعتنا عاطلون من مزايا خلقية  مؤدية إلى التفوق فى أية مزاحمة ، فالأخلاق الشعبية الناظمة لمقادير الأمم تبرز فى جميع المشاكل الاجتماعية ، والأمور التى عددناها فى هذا الفصل وإن كانت حالية فإنها صادرة من علل بعيدة . 

    سوف يقود نظام المركزية الذى أخذت ألمانيا تخضع له منذ قريب الألمان إلى مثل حالتنا الحاضرة فى أحد الأيام كما أشرت سابقا ، ولكنهم سيتمتعون قبل ذلك بنتائج صفاتهم الموروثة المتينة الملائمة لما صدر عن تطور العلوم والصناعة والتجارة من الحاجات .

    إن صفات الألمان الأساسية هى الصبر والمعاناة والثبات والتدقيق والتأمل والميل إلى الاشتراك ، وقد أنمت تربيتهم العجيبة هذه الصفات فيهم . 

    تلك هى علل نجاحهم العامة الأساسية وتتجلى فى الصناعة والتجارة كما يأتى : إتقان مستمر فى آلات الصناعة وفى المنتجات ، صنع السلع وتحويلها حسب أذواق المشترين ، تسليم البضائع تامة ، بعث وكلاء أذكياء عالمين بلغات كثيرة إلى اتحاد العالم وحاملين إليها سلعا . 

    تنبئ شركات الألمان التجارية مشتركيها بأخبار العالم الموثوقة التى يخبرها بها من تبعثهم إلى أنحاء المعمورة من الوكلاء الكثيرين . 

    حدثنى فى هذه الأيام أحد أرباب صناعاتنا عن الدهشة التى اعترته عندما سمع الناس ينادون العرفاء والعمال بلقب دكتورفى أثناء زيارته أحد مصانع الكهرباء العظيمة فى ألمانيا ، فالألمان لا يتوجعون مثلنا من اخلاط خريجى المدارس الثانوية والعلية لأن تربيتهم الفنية المحكمة تسهل عليهم أمرالتدرب على الصناعة ، ولأن تربية الأمم اللاتينية النظرية لاتؤهل الناشئة إلا ليكونوا أساتذة أو قضاة أوموظفين . 

    ولكن الألمانى لا يتقهقر أمام المصاعب فهو على خلاف الصانع الأفرنسى يبحث بدقة عن أذواق المشترين وعاداتهم وطبائعهم أى نفسيتهم . 

 بين الموسيو " دلين " بعد تلخيصه تقرير الأستاذ " يانجول " أن باحثى الألمان يدققون كثيرا فى البحث عن روح الأمم التى يتاجر الألمان معها ، فإذا أخذنا فى الروس مثلا نرى أن أولئك الباحثون يشيرون إلى أذواقهم وإلى وجوب تناول الشاى معهم قبل مفاوضتهم بأى أمر كان ، ثم إلى السلع التى يمكن بيعها إليهم .

0 التعليقات: