12‏/11‏/2016

روح الإشتراكية 16

روح الإشتراكية 16


وقد أورد الموسيو" بورد " مثالا عن هذه الحالة الروحية ، وهذا المثال لا يدركه الإنجليزى ولا يقول باحتمال وقوعه هو قصة غريبة عن سكان بلدة صغيرة وإليكها : 

انثقب مجرى من مجارى مياهها فانصبت فيه أقذار بالوعة مجاورة ، ولما كان استحضار عامل لإصلاح هذا الطارئ فكرا قل أن يصدر عن لاتينى فقد ترك الأمر للمجلس البلدى الذى اجتمع ليتباحث فيه ، خاطب هذا المجلس الحكومة فى الأمر المذكور فلخصت جريدة الوقائع ما جرى فيه بأربعة أعمدة من أعمدتها الكبيرة ، وقد أوجب تدخل كثير من الوزراء وأعضاء مجلس الشيوخ والنواب والولاة والمهندسين فيه قطع محفظة الأوراق لعشرين مرحلة من مراحل الإدارة ، 

ولم تنل تلك البلدة قرارار فى ذلك إلا بعد أن مضت سنتان على وقوع الحادث المذكور ، وكان سكانها يشربون فى تلك الأثناء من ماء البالوعة دون أن يخطر ببالهم ولو مرة واحدة إصلاح الخلل بأنفسهم ، وما ذكره " توكفيل " من الأمثلة عن العهد السابق يثبت لنا أن الأمور كانت تجرى على هذه الكيفية أيضا ، هذه الأحوال النفسية من أوصاف الشعب . 

         إن ابتلاع الحكومة لجميع الأمور وتدخلها المستمر فيها ذو ضررعظيم فى الأمة لأنهما يؤديان إلى القضاء على ملكة الاستنباط وملكة تحمل التبعة عند من لم يتحل بها من الأفراد ، وينشأعن هذا التدخل انفاق الكومة أموالا كبيرة فى إدارة المشاريع التى لا يقدر الأفراد على إدارتها بأرخص من ذلك نظرا لكون مصالحهم الذاتية هى التى تدفعهم وقتئذ للعمل .

      كتب المسيو" بول لروا بوليو " : ( إن حصر القوى الاقتصادية فى يد الحكومة يقود فرنسا الحديثة إلى فقد ملكة الاستنباط وإلى ضعف العزائم والنشاط الذاتى فيها ، ويؤدى إلى استعباد الحكومة لها أو إلى حكمها حكما نيابيا مطلقا يوهنها دفعة واحدو ويفسد أخلاقها . 

        قال المسيو " لروا بوليو " : ( ليس من الهين تقدير درجة الشلل الذى يورثه نظام الأشغال العامة الفرنسى فى ملكة الاستنباط الفردى ، فقد نتج عن الاتكال على الإعانات التى تعطيها المديريات أوالولايات أو الحكومة المركزية أن أصبح جميع الطبقات ولا سيما سكان القرى عاجزين عن القام بأى مشروع كان أو عن الاتفاق على أمر ما ، 

وقد رأيت كثيرا من القرى التى يسكن الواحدة منها مئتان أو ثلثمائة نسمة تطال صاغرة مدة سنين كثيرة إعانة لتنشئ بها ينبوعا تحتاج إليه ، ولو فرضت الواحدة على كل نسمة من سكانها إعانة فرنك لجمعت مئتين أو ثلثمئة فرنك وأنشأت ذلك الينبوع .  

 وقد شاهدت قرى أخرى ليس لها سوى طريق واحد تصدر منه محاصيلها وسكانها عاجزون عن التشاور المؤدى إلى علمهم أن تحسينها يكون بانفاق ألفى فرنك فى المرة الأولى ومئتى أو ثلثمئة فرنك كل سنة ، وهذه هى أغنى القرى فى فرنسا وأيسرها  .

          ولا نخشى أن نقول أن فرنسا هى أسوأ الأمم الغنية المتمدنة فى حيازة ما تحتاج إليه من الوسائل والعدد بثمن رخيص . فالغاز فيها أغلى منه فى جميع الممالك ، والكهرباء لا تنير إلا بعض شوارع مدنها الكبيرة ، والترام لا يوجد إلا فى مدنها الرئيسىة وبعض مدنها الثانوية ، وقد أفلست شركات الترام عندنا إلا فى شركتين أو  ثلاث شركات ،

والممولون لا يميلون إلى تجهيز مدننا بشبكة من وسائل النقل خوفا من الخسارة ، وأجرة التكلم بالتليفون فى باريس إلى منها فى لندن وبرلين وبركسل وامستردام ونيويورك  ثلاث مرات  ، وهكذا فإن دولتنا الكبيرة لا تستفيد فى القرن التاسع عشر كما يجب من وسائل الرقى الحديثى العديدة التى قلبت حياة الانسان رأسا على عقب ، وإذ قال قائل أن علة ذلك هى قلة مداخلة الحومة فإننا نجيبه أن العلة الأساسية هى كثرة مداخلتها " .  

          وقد يؤدى تعقد الطرق والناهج إلى غلاء كل عمل تقوم بإدارته الحكومة ، وقد ظهر من تقرير المسيو " كافيناك " عن ميزانية الحربية ، وتقرير المسيو " بيلتان " عن ميزانية البحرية اللذين وضعاها باسم لجنة الميزانية ليطلع عليها البرلمان أن التعقيد الإدارى تجاوز حد المعقول     

 فجاء فى تقريرالمسيو" كافيناك " بين كثير من القصص المتماثلة القصة الآتية وهى :

 لما صنع قائد الكتيبة حذاء له فى معامل ( الأنفاليد ) أصبح مديونا للحكومة بسبعة فرنكات وثمانين سنتيما فأراد دفع هذا المبلغ ، إلا أن دفعه حسب القانون أوجب إصدار ثلاث رسائل من وزارة الحربية ورسالة من وزارة المالية وخمس عشرة رسالة من القواد والمديرين ورؤساء الدواوين القابضين على زمام الإدارة .

         ولما كان يقوم بأمور التموين دواوين كثيرة مستقل بعضها عن بعض فأن الوصول إلى بيان صحيح عنها صعب ، فقد عثر مقرر اللجنة المذدورة بعد تحريات قام بها عرضا على أرقام مخالفة للعقول ، ومن هذه الأرقام الأشياء التى قيل عنها أنها ضرورية وتم ابتياعها على جناح السرعة – خلا الثلث والعشرين ألف ملعقة وشوكة التى ذكر فى تقريره أن الإدارة اشترت الواحدة منها بخمسين سنتيما أيا كانت تباع الواحدة منها بعشرة سنتيمات فى شوارع طولون - كالا شياء الى تكفى ثلاثين سنة والأشياء التى تكفى ثمانى وستين سنة .    
                                               
ولا يتصور الانسان ما تؤديه الإدارة العامة ثمنا للمشتريات التى تقوم بها ، إذ هى تشترى الأرز فى الشرق الأقصى بثمن أغلى من ثمنه فى ( طولون ) بستين فى المئة  مع إن الشرق الأقصى هو منبع الأرز ، وقد ثبت أن أثمان الأشياء التى تبتاعها يزيد ضعف ما يؤديه أفراد الناس بوجه العموم ، 

وعلة هذا الغبن هو أن الإدارة تراجع فى ما تحتاج إليه وسطاء يسلفونها أموالا لا تدفع لهم ثمنها فى الغالب إلا بعد عهد طويل نظرا لتعقد نظامها القرطاسى ، وقد نتج عن هذا التبذير العظيم ضياع ملايين كثيرة عبثا كأنها ألقيت فى الماء ، ولو أن ممولا دبر أموره على الطريقة المذكورة لأدركه الإفلاس فى وقت قصير .

0 التعليقات: