13‏/11‏/2016

روح الإشتراكية 40

روح الإشتراكية 40



                              مستقبل الاشتراكية  

                      1 – حال الاشتراكية فى الوقت الحاضر 

       لقد بينا فى هذا الكتاب عوامل تطور المجتمعات فى الوقت الحاضر فبحثنا عن تأثير تطور العلوم والصناعة وعن اقتراب بعض الأمم من بعض بواسطة البخار والكهرباء وعن تحول المبادئ ، وذكرنا أن الانسان لا يعيش من غير أن يلتئم مع بيئته وأنه لا يلتئم معها إلا بتطور بطئ لا بثورة . 

     ولهذا قررنا أن مستوى الأمم على سلم الحضارة يقاس بدرجة مقاومتها لمنازع الاشتراكيين .
        تضامن المصالح المتماثلة والمزاحمة الاقتصادية هما من مقتضيات الجيل الحاضر فالاشتراكية تجارى المبدأ الأول بصعوبة وتود إبطال المبدأ الثانى . 

      الاشتراكية طور نفسى أكثر مما هى مذهب ، وهى ليست مخيفة بما تحدثه من التغييرات الضعيفه فى نفوس العامة بل ما تورثه من التبديلات العظيمة فى نفوس القادة ، فأبناء الطبقة الموسرة ليسوا واثقين بحقهم ولا يعرفون كيف يدافعون عنه ويسيرون مع كل قول وترتعد فرائصهم فرقا أمام أرحم الخطباء ، وهم عاجزون عن الإتيان بعزيمة قوية وعن التدرب والتحلى بمشاعر مشتركة لم يقع بدونها حتى الآن تضامن بشرى قط إذ هى ملاط المجتمعات . 

      والذى يعتقد أن الجماعات ذات منازع ثورية يكون مخدوعا بظواهر الأمور ، فما تأتى به من الهرج والشغب ليس سوى صولة وقتية ، وعند ما تعود إليها منازعها المحافظة فإنها ترجع إلى ماضيها حالا وتتطلب تجديد أصنامها التى كسرتها فى ساعة الغضب . 

       يقص علينا ذلك منذ قرن كامل كل صفحة من صفحات تاريخنا ، فبعد أن أتمت الثورة الفرنسية عملها فى الهدم والتخريب عادت جميع الأنظمة السياسية أو الدينية التى قوضتها مسماة بأسماء جديدة إلى عالم الوجود ، وهكذا عاد النهر إلى مجراه بعد أن حاد عنه حينا من الزمن .

       علية القوم لا سفلتهم هم الذين يبدأون بالانقلابات الاجتماعية ، وهل الشعب هو الذى قام بالثورة الفرنسية الكبرى ؟ لا شك لا ، فهو لم يفكر فى ذلك أبدا ، وإنما الأشراف والقادة هم الذين أشعلوا نارها . 

         ضعف طبقات القادة وانتثار عقدهم ، إذ أصبحوا بها لايعتقدون صحة حقوقهم وصاروا كما قال " ميشليه " أعداء لقضيتهم الخاصة ، فلما أقلع الأشراف ليلة 4 أغسطس سنة 1789 عن حقوقهم وامتيازاتهم الموروثة اشتعلت الثورة الفرنسية ولم يبق للشعب سوى اتباع الإشارات المعطاة له فجز رقاب محبى الانسانية الذين تركوا على الصورة السابقة وسائل الدفاع عن أنفسهم .

        لقد تبدلت المعتقدات قبل ذلك التاريخ تدريجيا بتأثير النظريات والخطب المتراكمة منذ قرن وتأصلت المبادئ التى استحوذت على نفوس القادة تأصلا لم يقدروا معه على المجادلة فيها ، فقوى عزائمنا العادمة الشعور لا تقاوم ولا علم للعقل بها وإذا علم لا يؤثر فيها . 

       وهذه القوى الخفية الحاكمة هى قوام التاريخ فهى تقود الانسان إذا تهيج وتدفعه غالبا إلى السير على ما يناقض أكثر منافعه وضوحا . 

       كانت الاشتراكية معتقدا دينيا أكثر من كونها نظرية عقلية فإن الناس يخضعون لها ولا يجادلون فى صحتها .   
         
       أما الديانة الاشتراكية فبدلا من من وعدها بسعادة أبدية لا يستطيع أحد أن يبرهن على بطلانها فإنها تعدنا بسعادة دنيوية لا يصعب على أحد أن يطلع على تعذر تحققها . 


                   2 – ماذا يلحق بالأمم التى تفوز الاشتراكية فيها

     حقا إن الاستبداد المطلق هو الذى يتغلب على الفوضى ولا تقدر الجمهوريات الأمريكية اللاتينية على اجتناب الفوضى إلا إذا رزحت تحت حكم جبابرة قاهرين . 

      إذا فدور الفوضى ودور الخراب يعقبان دور الانحلال الاجتماعى الناشئ عن انتصار الاشتراكية وحينئذ يظهر ماريوس أو سيللا أو نابليون أو قائد آخر ليوطد دعائم السلم بنظام حديدى بعد أن يأتى بمذابح هائلة وهذا لايمنع الناس من عده منقذا كما أثبت التاريخ ذلك مرات عديدة . 

               3  – كيف تقبض الاشتراكية على زمام الحكومة
      ولكن ماهى الوسائل التى تقبض بها الاشتراكية على زمام الحكومة وكيف تهدم الجيش الذى هو دعامة المجتمعات الحاضرة ؟ 

     لم تكن قوة الجيش حتى الآن بعدد جنوده ولا بسلاحه المتقن بل بروحه التى لا تتكون فى يوم واحد . 

      فقد تخلصت بعض الأمم كالأمة الانجليزية المحتفظة بجيشها الذى اتخذ أفراده الجندية مهنة من الخطر الاشتراكى على وجه التقريب وهذا سيكون لانجلترا فى المستقبل أفضلية على الأمم الأخرى ، وأما الجيوش المؤلفة من الخدمة الإجبارية العامة فليست مدربة ،

 ولقد علمنا التاريخ قيمتها فى ساعة الشدة فلنتذكر أن الثلاثمئة ألف حارس وطنى الذين جمعوا أيام حصار باريس لم يفعلوا سوى تأسيس (الكومون) وحرق العاصمة ، وهذا ما جعل المحامى المشهور الذى عدل عن نزع السلاح من هذه الجموع يطلب العفو جهرامن الله والناس لتركه السلاح فى أيديها . 

       نعم يصح أن يكون له عذر فى روح الجماعات ولكن ماهو عذرنا فى عدم استفادتنا من مثل ذلك الدرس . 

      وعندما تنكر هذه الجموع المسلحة التى رابطة حقيقية بينها ولا غريزة حربية عندها كما فى دور الكومون على المجتمع المكلفة الدفاع عنه فإن أجل هذا المجتمع يقرب حينئذ وهو يشاهد مدنا محترقة وفوضى عارمة وغارة أجنبية وتجزئة وطعنة نجلاء يطعنها المستبدون المنقذون وانقراضا أبديا . 

      وهذا المصير الذى يهددنا هو نظير المصير الذى شرعت بعض الأمم تعانيه ،  ولا حاجة بنا أن نتكلم عن مستقبل لا يزال مجهولا كى نجد أمما سوف يتم انحلالها الاجتماعى على يد جيوشها فكلنا يعلم ما هى الحالة السيئة التى تعيش بها جمهوريات أمريكا اللاتينية وهى : ثورات مستمرة ، وتبذير مالى وفساد خلقى فى جميع الطبقات ولا سيما فى طبقة الجنود ، وما الجيش عندها إلا رمز فوضى لا يحلم إلا بالنهب وينظر القائد الذى يقوده إليه ، فكل قائد يود أن يقبض على زمام الأمور يجمع زمرا شاكية السلاح يقتل بها مناظريه ويحل محلهم . 

                           4 – كيف تقاتل الاشتراكية 

        يقتضى أن يتم النصر للاشتراكية فى أحد البلدان ، لأن هذه التجربة وحدها هى التى تشف الشعوب من أوهامها ، وعلينا أن نسعى لكيلا لاتقع عندنا قبل وقوعها فى الأقطارالأجنبية ، ولهذا فليجد كتابنا مهما كان نفوذهم ضئيلا فى تحقيقها عندنا ، أى يجب أن يقاتلوا الاشتراكية جهدهم ويؤخروا ساعة انتصارها لتتمكن من الفوز فى موضع آخر ، ولايتم لهم ذلك إلا بوقوفهم على أسرار قوتها وأسرار ضعفها ونفسية أنصارها . 

      إن الانسان لا يقدر على تجديد المجتمعات كما يريد وإننا مرغمون على معاناة ما لم نستطع التغلب عليه من السنن الطبيعية ، وأن الحضارة قطعة من سلسلة ربطت جميع حلقاتها بالماضى علائق خفية ، وأن أنظمة الأمة ومقاديرها تشق من خلفها وأن العصور هى التى كونت هذا الخلق ، وأن المجتمعات تتطور تطورا مستمرا وأنها لاتكون فى المستقبل كما هى الآن ، وأن أوهامنا وأحلامنا لا تسير هذا التطور الذى لا مفرمنه . 

      أكرر قولى أن الجماعات لا تتأثر بمثل هذه الأدلة المستنبطة من التأمل والتبصر والمربوطة بالعقل ولا تقتنع بها لعدم مبالاتها بالمعقولات والكتب إلا قليلا ، ولا تؤخذ بالتملق كما يفعلون فى هذه الأيام لأنها تنظر شزرا إلى من يتملقها وكلما كثر تملقها زادت مطالبها وإنما تساس بالتأثير فى مشاعرها لا فى عقلها الذى لا تملكه . 

         وهل سياسة هذه الجماعات صعبة ؟ لا يظن ذلك إلا الجاهلون بروحها وتاريخها .
       ولا يكون الدفاع أمام زعمائها – لا أمامها – إلا بالحزم والعزم ، ومن دواعى الأسف أن المرض الأدبى فى زماننا هو فقدان الإرادة ، فقدان الإرادة المقارن لفقدان ملكة الاستنباط ونمو خلق عدم المبالاة هما أعظم الأخطار التى تهددنا . 

       إن الدلالة على مايجب عمله هى أقل أهمية من الدلالة على ما يجب تركه ، فالجسم الاجتماعى دقيق التركيب ويقتضى ألا يمس إلا قليلا ولاشئ أشأم على الحكومة من خضوعها لإرادة الجموع الطائشة المتقلبة ، فإذا وجب الإتيان بكثير من الأعمال لأجلها فإنه يجب أيضا أن لايسار بتأثيرها ، ويتحتم علينا قبل كل شئ أن نحدد دائرة تدخل الحكومة ونضيقها حتى يسترد أبناء البلاد ملكة الاستنباط وملكة حكم أنفسهم بأنفسهم اللتين أضاعوهما بوقوعهم تحت وصاية مستمرة 

       أن أهم الإصلاحات المستعجلة وأكثرها فائدة إصلاح تربيتنا . 

      وكيف نرجو ذلك وكيف نصبر على الصمت ؟
 ومتى نبصر أخطار المستقبل القريب ؟ ومتى يظهر لنا أن اجتنابها سهل ؟ 

        ولم ينشأ زوال الأمم عن انحطاط ذكائها بل عن انحطاط أخلاقها  

       ولا تحتقرن المجهود وإن صغر وليأتين كل واحد منا بما يقدر عليه مهما كان ضئيلا فمن تراكم ذرات التراب تكونت أعظم الجبال .

0 التعليقات: