ثروة الأمم 26
تستمد كل مدينة كافة موارد بقائها ، وكل
المواد اللازمة لصناعتها من الريف ، وهى تدفع ثمن ذلك أساسا بطريقتين :
أولا :
بإرسال جزء صغير من تلك المواد المصنعة إلى الريف ، بحيث يرتفع سعرها جراء أجور
العمال ، وأرباح معلميهم أو أرباب عملهم المباشرين ،
ثانيا : بأن ترسل إليها جزءا
من الناتج الخام أو المصنع المستورد إلى المدينة من بلدان أخرى و من أنحاء قصية من
الريف نفسه ، وفى هذه الحال يضاف إلى السعر الأصلى لهذه السلع أجور الحمالين او
البحارة ، فضلا عن أرباح التجار الذين استخدموهم
وفى ما يكتسب من الفرع الأول من فرعى التجارة هذين يقع المكسب الذى تحققه
المدينة من خلال مشاغلها ، وفى ما يكتسب من الفرع الثانى يقع المكسب من التجارة
الداخلية والخارجية .
ولذلك فإن التنظيمات ، مهما كانت
، تميل إلى زيادة تلك الأجور والأرباح إلى حد يفوق ما قد تكون عليه لولاها
وتميل إلى تمكين المدينة من أن تشترى بكمية عملها الصغرى ، نتاج كمية أكبر من عمل
الريف .
فهم يمنحون أصحاب الصنائع والعمال
المهرة فى المدينة مزية على أصحاب الأرض ، والمزارع ، والفلاحين فى الريف ،
ويكسرون تلك المساواة الطبيعية التى من شأنها أن تقع فى المعاملات القائمة بينهم
لولا ذلك .
فكامل النتاج السنوى لعمل المجتمع ينقسم سنويا بين هاتين المجموعتين من
الناس ، وبواسطة هذه التنظيمات تصل حصة منه إلى أيدى سكان المدينة أكبر مما كان من
شأنه أن يصل إليهم لولا هذه التنظيمات ، ويصل إلى أيدى سكان الريف حصة أصغر .
فالثمن الذى تدفعه المدينة فعلا
للمؤن والمواد التى تستوردها هى كمية المواد المصنعة وسواها من السلع التى تصدرها
. وكلما باعت صادرتها بسعر أغلى إشترت وارداتها بسعر أرخص .
وذلك يصبح جهد المدينة
أربح وجهد القرية أقل ربحا .
أما أن الجهد المبذول فى المدن
أربح فى كل مكان فى أوربا من نظيره المبذول فى الريف ، فأمر يمكننا الاقتناع به
عبر ملاحظة بسيطة وواضحة ، ففى كل بلد من بلدان أوربا نجد على الأقل مئة شخص جمعوا
ثروات طائلة من بدايات صغيرة فى التجارة والصنائع اليدوية ، وهوالجهد المنتمى إلى
المدن بخاصة ، مقابل واحد تمكن من فعل ذلك بالجهد المنتمى إلى الريف بخاصة ،
وذلك
بجنى المحصول الخام بإصلاح الأرض وزراعتها . لذلك ينبغى للجهد أن يكون أفضل مكافأة
، وينبغى لأجور العمل وأرباح رأس المال أن تكون أكبر فى الحالة الأولى مما هى فى
الحالة الثانية ، ولكن رأس المال والعمل يطلبان دائما الاستخدام الأربح .
ولذلك
يلجآن بصورة طبيعية وقدر المستطاع إلى المدينة ، ويهجران الريف .
إن سكان المدينة يضمهم مكان واحد
، لذلك فهم أقدر على الاتحاد فيما بينهم . روح الاتحاد النقابى ، والغيرة من
الأجانب ، والنفور من إتخاذ المتدرجن ، و البوح بسر الصنعة ، يسود صفوفهم إجمالا ،
وغالبا ما يعلمهم عبر الروابط والإتفاقات الطوعية ، أن يحولوا دون التنافس الحر
الذى لا يستطيعون حظره بواسطة الأنظمة الداخلية .
والحرف التى لا تستخدم إلا عددا
قليلا من الأيدى تنخرط فى روابط كهذه بمنتهى السهولة
وهم إذا ما اتحدوا على عدم إتخاذ متدرجين فهم لا يقتصرون على احتكار العمل ،
بل يختزلون الشغل اليدوى كله إلى ضرب من العبودية لهم ، ويرفعون سعر عملهم أعلى
بكثير مما تستحقه طبيعة عملهم .
أما سكان الريف المتناثرون فى
أماكن متباعدة فلا يستطيعون الاتحاد بسهولة . فالأمر لا يقتصر على أنهم لم يتحدوا
فى نقابة من قبل فحسب ، لا بل إن الروح النقابية لم تسد فى صفوفهم قط .
والفلاح العادى وإن كان يعتبر
إجمالا كنموذج للحماقة والجهل ، قلما يكون قليل الحنكة والحصافة .
فهو أقل اعتيادا
على العلاقات الاجتماعية من الميكانيكى المقيم فى المدينة ، صوته ولغته أجفى وأعسر
على الفهم على أولئك الذين لم يألفوهما .
أما فهمه الذى اعتاد النظر فى تشكيله
أكبر من الأشياء ، فيتفوق إجمالا على فهم الآخرين الذين يتركز انتباههم كله من
الصبح إلى المساء على القيام بعملية بسيطة أو اثنتين .
أما مدى تفوق أدنى مراتب
الناس فى الريف فعليا على أهل المدينة فأمر معروف تماما لكل رجل دعاه عمله أوفضوله
إلى التحادث طويلا مع كلا الفريقين .
ولذلك نجد فى الصين وهندوستان أن مرتبة وأجور
العمال الريفين أعلى ، فى ما يروى ، من مرتبة وأجور القسم الأكبر من العمال المهرة
وأصحاب الصنائع .
والأرجح أن يكونوا على هذا النحو فى كل مكان ، لولا أن حالت
قوانين النقابات وروحيتها دون ذلك .
0 التعليقات:
إرسال تعليق