13‏/11‏/2016

روح الإشتراكية 26

روح الإشتراكية 26



إن أساليب الصناعات فى ألمانيا تختلف عن أساليبنا اختلافا تاما ، فبعد أن مضى وقت قصير قل على ما لحقنى من الخيبة فى مطلوبى احتجت إلى قليل من حجر الزرنيخ المصفح ، وهذا الحجر ليس من المعادن النادرة ففاوضت فى ذلك أهم دور المنتجات الكيماوية فى باريس ، 

إلا أنها لم تكلف نفسها عناء المجاوبة نظرا لحقارة الطلب اللهم إلا واحدة منها أخبرتنى بأنها ربما تسعفنى بمطلوبى بعد أسابيع قليلة ، ولما انتظرت ثلاثة أشهر وكنت كثير الضطرار إلى هذا المعدن فاوضت إحدى دور برلين فأخذت الجواب فى البريد الأول مع أن ثمن ما طلبته لا يتجاوز بضعة فرنكات وفى آخر الأسبوع تسلمت المعدن المصفح موافقا للحجم الذى طلبته . 

      وجميع البوت الألمانية تعامل المشترى بمثل هذه المعاملة فتقابل طلبات السلع بالشكران مهما كانت حقيرة وتنجز أى تغيير يطلبه بسرعة ، وهذا هو سر زيادة عدد بيوت الألمان التجارية فى باريس واضطرار الجمهور إلى قصدها على رغم نفرته القومية،فإذا قصدها أحد ليبتاع منها شيئا تافها فإنه لا يقصد غيرها بعد ذلك ، وما أكثر معاهدنا العلمية الرسمية الكبيرة التى ألجأها الضجر من المعاملات المشابهة لما كنت عرضة له إلى طلب جميع حاجاتها من ألمانيا دون غيرها . 


     فى مجلة " الاقتصاد الفرنسى " قال الموسيو " فليكس مارتن : " لماذا تأخرنا فصرنا لا ننتج سوى ما دلت عليه تلك الأرقام  ، يجب البحث عن علة ذلك فى نظامنا الجمركى الذى يحمى الإنتاج الفرنسى ليحفظ له الأسواق الداخلية ، فلما نام أرباب مصانعنا فى طمأنينه أصبحوا لا يحسنون إنتاجهم وصاروا عاجزين عن النزاع خارج فرنسا مع الأمم التى جعلتها المزاحمة تتقن كل شئ . " 

    
      يجب ألا نفرط فى ذم نظام حمايتنا الجمركى لأنه وإن ناقض قواعد الاقتصاد السياسى فهو ربما كان مما تقتضيه نفسية بعض الأمم التى يؤدى نقص أدواتها وضعف نشاطها إلى عجزها عن المناضلة إزاء مزاحميها ، فلولا ما يفرضه نظام حمايتنا من المكوس لما صنعت فرنسا طنا واحدا من الحديد على ما يحتمل . 

      وما قلناه عن الحديد نقول مثله عن كثير من الصناعات الأخرى كصناعة استخراج الفحم الحجرى وصناعة السكر مثلا . 

      إننا لا نقدر على إظهار شئ من النشاط  إلا فى المجادلات السياسية وأننا نقنع بكسبنا مبالغ زهيدة من غير انزعاج ومخاطرة وعمل . 

     كتب أحد الكتاب الذين استشهدنا بأقوالهم سابقا : " إن الفرنسويين يعدون أنفسهم من السعداء إذا تيسر لهم العيش من ربح مشروع مضمون وإن قل ، وإذا وصلوا الحدين ( الدخل والخرج ) أحدهما بالآخر فى سنى الخصب والجدب كسكاف الشاعر " لافوتين " وقد لا يصلون أيضا طرفى خيطهم الصغير فيضعون حالا فى الصندوق مبلغا زهيدا   

 ومتى أصبح المبلغ فى الصندوق فلا يخرجونه منه ولا يعرضونه للقيام بأى مشروع جديد ، وهكذا فلا يجددون آلاتهم ، ولا يصلحون أدواتهم ، وهذا ما حدا بأهل الرأى والإنصاف بأننا بلغنا آخر العمر أو كدنا " 

       والواقع أننا بلغناه فنحن نعيش تحت ظل الماضى . 

    وأما الذى ينقذ تجارتنا الخارجية من الزوال فهو جودة بعض منتجاتنا الطبيعية كخمورنا الفاخرة ، ثم إصدارنا بعض السلع الكمالية كالأزياء العصرية والمنسوجات الحريرية والأزهار الصنعية والعطور وغير ذلك من من الأشياء التى لم تنقص براعتنا الفنية فى صنعها بعد . 

     ومع ذلك لم يدرك تجارنا بعد أن للعربى والصينى والزنجى أذواقا تختلف عن الذوق الأفرنسى ، فالعجز عن تصور أفكار مخالفة لأفكارنا هو كما بينت آنفا إحدى صفات الأمم اللاتينية . 

    ومن أسباب انحطاطنا فى التجارة ما عند تجارنا من الأساليب التى لا يتحرون فيها الصدق والتى لا يحسن الاطلاع عليها غير الذين ساحوا فى البلاد الأجنبية     وليست منجاتنا التى نصدرها إلى الخارج رديئة فقط ، بل إن منتجاتنا التى نبيعها فى أسواقنا هى رديئة أيضا ، وهذه هى علة المزاحمة العظيمة التى يزاحمنا بها الأجنبى فى عقر دارنا . 

     ومع أن فقدان الصدق والأمانة ذو عواقب وخيمة فإننا نراه والحزن يملأ قلوبنا يفشو شيئا قشيئا بين تجارنا على اختلاف طبقاتهم ، ولما صارت القوانين الموضوعة تقمع الغش فى فروع التجارة لاتجدى نفعا عدلت دائرة الشرطة فى باريس عن القبض على الوقود التى تباع فى أكياس مختومة مدعى بأن وزنها مضمون ، ومع أن المحاكم أصبحت لا تكفى للنظر فى هذه القضايا لكثرتها فإن وزن الوقود لا يزال دون ما هو مرقوم على الأكياس ب25 فى الئة ، فقد جاء فى قضية رفعت على أحد التجار لتسليمه 000 ، 25 كيلو فحم بنقص يعادل ربع هذا الوزن أن موظفى التاجر المذكور أقروا بأن هذا الشئ كان يطبق كل يوم ، وقد ثبت فى قضايا أخرى من هذا النوع أن رب العمل يسرق ربع السلعة التى يجب عليه أن يسلمها ، وسائق العربة ربعا آخر . 

    ومن دواعى الأسف شيوع ذلك بالتدريج فى كل شئ حتى فى التجارة التى يقوم بأمورها رجال مهذبون متعلمون . 

0 التعليقات: