روح الإشتراكية 13
نظام الجندية الشديد هو الطريقة الوحيدة
التى تغير بها روح الأمة وعاداتها وسيرها ، إذ ينظم الفرد فى سلكه وينزع منه كل
استقلال واعتماد على الذات .
ليس فى العالم نظام – حتى نظام المدير –
يضحى بالفرد فى سبيل المجموع ويدنيه من المثال الاجتماعى الذى يحلم به الاشتراكيون
كنظام التجنيد العام ،
إذ حول المانيا وجعلها مستعدة لمعاناة الاشتراكية الحكومية
.
إن الأنظمة تصدر عن روح الأمة وبأنه ينطوى
تحت الألفاظ المتشابهة اشياء كثيرة الاختلاف .
الذى يجعل الأمم الأخرى غير مدركة للخلق
الانكليزى كما يجب هو كونها لا تفرق بين سلوك الانجليزى الذاتى نحو أبناء أمته
الانجليزية وبين سيره باسم امته إّزاء الامم الاخرى ، إن أخلاق الانجليزى الذاتية
مستقيمة الى الغاية فإذا سار كفرد من الناس فأنه يكون سليم القلب أديبا محافظا على
العهود ، ويكون الامر بالعكس إذا سار أقطاب السياسة باسم مصالح انجلترا ،
إذ تبلغ
قلة ضميرهم حينئذ أقصى حد ، فإذا اقترح رجل على وزير انجليزى أن يغتنى بخنق امرأة
عجوز مثرية من غير أن ينشأ عن ذلك خطر فانه يُلقى فى السجن حالا ، وأما إذا ذهب
افاق الى أحد الساسة فى انجلترا وقال له اقتراح ان أجمع عصابة من الاشقياء وأن
استولى بقوة السلاح على جمهورية عزلاء فى جنوب افريقيا و أذبح جزءا من أهليها
وأقبض على زمام امورها فانه يلاقى أحسن حفاوة ويُقبل اقتراحه حالا .
استطاع ساسة انجلترا أن يفتتحوا دويلات الهند ،
وهذه الطرق هى كطرق الامم الاخرى فى الاستعمار ، و اذا كانت أوضح عند الانجليز
فلكونهم أشد جرأة من غيرهم و أعظم مهارة ولأنهم ينجحون فيما يتعرضون له فى الغالب ،
ولهذا فأن المصنفات الكبيرة التى يسميها المؤلفون برسائل حقوق البشر والحقوق
الدولية ليست سوى مجموعة أدب نظرى وضعها الشيوخ الفقهاء الذين سئموا الانهماك فى
العمل النافع ليقتلوا أوقات فراغهم ، وما قيمتها من الوجهة العملية إلا كقيمة
عبارات التكريم والصداقة التى تنتهى بها الرسائل السياسية .
يتصف الانجليزى الذى يتأبه على غير ابناء
امته بعاطفة التضامن مع أبناء شعبه وهذه العاطفة نتيجة اتحاد الافكار الناشئ عن
الروح الانجليزية المستقرة فإذا وجد انجليزى وحده فى بقعة من الأرض فانه ينظر الى
نفسه ممثلا انجلترا ويرى من الواجب أن يهتم بمصالحها ، وانجلترا عنده أعظم دول
الأرض وهى التى يُحسب لها حساب .
كتب مراسل جريدة الطان فى الترانسفال
هذه العبارة :
(( إن أول القواعد التى يضعها الانجليزى فيما يطمع به من البلاد هو
تفوق امته فيها وذلك بأن ينشر فيما بصبره وعناده وتجانسه واتحاده طبائعه و رغبائه
ولغته وجرائده حتى وطهايته ، ولا يتأخر عن احتقار الأمم الأخرى احتقار السيد
لمولاه ومناصبتها العداء اذا آنس من ممثليها فكرا أو رغبة فى مباراته بالاستيلاء
على بقعة تحت سماء الاستعمار ، هذا ما يبدو منه كل يوم فى الترانسفال حيث لم تكتف
انجلترا بأن تظهر كدولة سائدة بل أنها دولة العالم الوحيدة والفريدة )) .
هذا التضامن الذى لا يوجد مثله عند
الأمم اللاتينية هو سر قوة الانجليز ويجعل سياستهم الدولية نافذة فى جميع الاقطار
.
يهتم الإنجليز فى صون أخلاقهم الإرثية
بتربية تختلف عن تربيتنا فهم لا يبالون بتثقيف العقول بالكتب ويعتنون بكل ما يقوم
الأخلاق ، و اذا نظرت الى المدارس العالية والمدارس الثانوية و الجامعات فى
انجلترا فأنك تراها قليلة ويتخرج فيها المهندس والزارع والقانونى – محاسبا كان أم
قاضيا – على المصانع ودواوين المحاكم ، فالتدرب العملى فى انجلترا يبرز على
التعليم بالكتب ، ويعد الناس فيها الدروس التى يتلقاها الطالب قبل أن يتجاوز السنة
الخامسة عشرة من عمره فى المدارس الأهلية كافية وافية .
يتم الطالب علومه الثانوية أحيانا فى بيت
ابيه مستعينا بدروس يتلقاها ليلا و أحيانا فى كليات أقيمت فى الأرياف غير مشابهة
لمدراسنا ، فالقسم المتعلق منها بالأشغال الذهنية صغير ، و أما ما يتعلق بالأعمال
اليدوية كالنجارة والعمارة وفلاحة الحدائق و حراثة الاطيان الخ فكبير الى الغاية ،
هنالك أيضا مدارس يتعلم فيها الطلاب الذين يُعدون أنفسهم لسكنى المستعمرات تربية
الحيوانات والفلاحة والبناء وضع كل ما يحتاج اليه المستعمر فى بلاد مقفرة ، ولا
يفتح الانجليز فى مدارسهم بابا للمسابقات بين الطلاب ولا يوزعون عليهم الجوائز
لاعتبارهم ذلك خطرا موجبا للحسد ، نعم إنهم يدرسون اللغات والتاريخ الطبيعى
والفلسفة الطبيعية ولكن على طريقة عملية ، فيتعلمون اللغات بالمحادثة والعلوم
بمزاولة الآلات وصنعها ، وعندما يبلغ الطالب السنة الخامسة عشرة من عمره يترك
المدرسة ويسيح فى الأرض ليتعاطى أحدى المهن .
لا يحرم هذا التعليم الوجيز فى ظاهرة
الانجليز ان يكون عندهم صفوة من العلماء ونخبة من المفكرين يضاهون بها ما عند الأمم
الأخرى الحافلة بالمدارس ، غير ان هؤلاء العلماء الذين تخرجوا على غير الجامعات
والمسابقات يتصفون بملكة الابتكار التى لا ينالها إلا العصاميون الذين يبدو منهم
ما لا يبدو ممن صبوا فى قالب واحد على مقاعد المدارس .
وهذه الملكة تتناول ما يضعونه من المؤلفات حتى التى يلوح
للناظر انها لا تنفذ اليها إلا قليلا ، فإذا قايسنا بين مؤلفات تندال وتيت وكلفين
وغيرهم فى الفلسفة الطبيعية مثلا وبين المؤلفات التى وضعها اساتذتنا فى هذا الباب
نرى ان ما ملكة الابتكار والايضاح البليغ المؤثر تتجلى فى كل صفحة من مؤلفات أولئك
وان مؤلفات هؤلاء المصححة الباردة نسجت على منوال واحد بحيث ان من يطالع واحدا
منها يستغنى عن قراءة الأخرى ، لأن مؤلفيها لم يتوخوا فى تأليفها العلم ذاته بل
تهيئة التلميذ لتأدية الفحص ، وهم يشيرون الى ذلك على دفتيها .
والخلاصة ان الانجليزى يسعى فى تدريب أولاده
ليكونوا قادرين على المناضلة فى الحياة مستعدين للسير وحدهم مستغنين عن الوصاية
التى يعجز اللاتين عن التحرر منها ، وهذه التربية تجعل وازع الانجليزى من نفسه أى
تمنحه أدبا باطنيا ، وهذا الأدب هو فضيلة انجلترا القومية ويكفى وحده لتوطيد
عمرانها وتثبيت سلطانها .
إن المبادئ التى تقدم ذكرها نتيجة لمشاعر
تتكون روح الانجليز من مجموعها ، ولذلك تبدو للناظر فى جميع البلدان التى يسكنونها
ولا سيما فى أميركا ، واليك ما قاله أحد المنصفين أعنى الموسيو (شاسلوب لوبا) :
(( ان الوجه الذى يدرك به الاميركيون شأن
التعليم الاجتماعى هو سبب من أسباب الثبات فى أنظمتهم ، فإذا استثنينا المعرفة
الصغيرة التى يعطونها تلامذة المدارس الابتدائية فإنهم يرون ان التربية هى التى
يجب ان تكون غاية المدارس لا العلوم ، وعندهم ان التربية الجسمانية والعقلية
والأدبية أى كل ما ينمى الشهامة و الأناة فى الجسم والعقل والسعى وراء النجاح
والتمرن عل تكرير المساعى نحو غرض معين لمزايا لا تثمن لكونها تطبق فى أى وقت وعلى
أى عمل ، وأما العلم فيجب بالعكس تبديله حسب الاحوال والافعال التى ينكب عليها ))
.
من إعداد الناس الى الحياة لا الى نيل
الشهادات يتكون مثل الاميركيين الأعلى وينالون من وراء ذلك إنماء قوة الاستنباط
وقوة الارادة و الاعتياد على الاستقلال الفكرى فيهم .
لا قياس بين الجرائد الفرنسية التافهة
التى لا يقرأها أحد خلف (المانش) وبين الجرائد الانجليزية الحافلة بالأخبار
الصحيحة ، فقراء الجرائد التى تبحث عن مخترعات الآلات كجريدة (الاينجيرينغ) هم
العمال على الخصوص ، وتكون هذه الصحف العامية المحلية محشوة بحوادث العالم
الاقتصادية والصناعية .
يواجه العمال حقائق الأمور كل يوم
ويتعلمون كيف يبتدعون من الأوهام والمستحيلات . كتب الموسيو (دوروزيه) : (( ان
بريطانيا العظمى – نظرا لما عندها من شركات التعاون ونقابات المهن وجمعيات مقاومة
المسكرات والمتصدقات وهلم جرا – تهئ أجيالا قديرة على العمل وتتطور تطورا سياسيا
غير ملتجئة الى ثورات عنيفة )) .
لما كان العامل الانجليزى واقفا على
مقتضيات الاقتصاد فانه يعلم كيف يدافع عن مصالحه إزاء رب العمل وكيف يعتصب عليه
عند الحاجه ، ولكنه لا يحسده ولا يبغضه لإنه لا ينظر اليه انه خلق من جبلة غير
جبلته ، وهو يعرف ماذا يربح رب العمل وماذا يستطيع ان يعطى ، ولهذا لا يُقدم على
الاعتصاب إلا بعد ان يرى ان الفرق بين فائدة رأس المال وبين أجرة العمل كبير جدا .
هنالك لا يعولون على الحكومة فى شئ ولا
يطالبونها بتمديد الخطوط الحديدية وضع المرافئ و إنشاء الجامعات الخ .
يعد الناس فى الولايات المتحدة تمديد
الخطوط الحديدية من الصناعات ولذلك تقوم بأمورها هنالك شركات مخصوصة لا تقول أن من
واجبات الحكومة ان تعنى كما هو الأمر فى فرنسا بوقاية المساهمين من الخسارة ،
فتكتفى هذه الشركات بادئ الأمر بتمديد جزء من الخطوط الكبيرة تحديدا للخسارة فإذا
لاح النجاح تم مدها كلها .
على هذه الطريقة تكاثرت الخطوط الاميريكية تكاثرا لم
يتيسر لأية أمة أوروبية .
الأمور تجرى بسرعة والمسائل تحل فى يوم
واحد وكل منهم مكب على أعماله الصعبة و يشتغل كل يوم تسع ساعات .
إذا نظرت الى شركة (شيكاغو برلنغطن وكونسى)
العظيمة التى تدير فى غرب البلاد عشرة آلاف كيلومتر من الخطوط الحديدية ترى أنها
قليلة الموظفين و الأمكنة ولا تنتفع إلا بدور واحد من عماراتها فى شارع شيكاغو .
يدلنا هذا البيان على نجاح مبادئ
الاشتراكية الحكومية الضعيفة عند الانغلوسكسونيين خلافا للأمم اللاتينية ، فالشعب
الانجليزى يرى ان سر قوته فى إنماء مزية الاستقلال الذاتى وفى تحديد شأن الحكومة
فيعاكس بسيره الاشتراكية ولا يفلح بغير هذا .
0 التعليقات:
إرسال تعليق