روح الإشتراكية 23
إن الشرق هو الذى يكسب من النزاع الاقتصادى المتفاقم ، وقد صار اشتباكنا
فى المزاحمة مع الشرق أصعب منه فى الماضى نظرا لهبوط قيمة الفضة فى الغرب ، إذ لما
كانت الفضة النقد الوحيد للشرق صان قيمتها يوم ضاعت نصفها فى أوربا ،
فإذا أرسل
تاجر هندى أو صينى إلى أوربا قمحا أو قطنا أو سلعة أخرى تعادل قيمتها ألف فر نك
فإنه يقبض هذا المبلغ ذهبا ثم يشترى به سبيكة فضية تعادل قيمتها ألفى فرنك فيحولها
فى الشرق إلى نقود فضية ليؤدى إلى عماله أجورهم ، ثم إن قيمة الألفين من الفرنكات
فى بلاده الشرقية ظلت كقيمتها قبل خمسة وعشرين سنة ، لأن نزول ثمن الفضة عندنا لم
يؤثر فى ثمنه فى الشرق الذى لم تتغير قيمة العمل فيه إلا قليلا .
يظهر أن مصير التجارة الأوربية
سيكون عما قليل عبارة عن مبادلة السلع – التى تقايض بالذهب وتساوى أثمانها فى
أوربا عشرة أمثال ما تياوى فى الشرق – بالمنتجات التى تقايض بالفضة وتعادل أثمانها
عشر ما تساوى فى الغرب ، ولكنه يستحيل أن تبقى المبادلة على هذه الصورة زمنا طويلا
بعد أن ينظم الشرق آلاته .
فستخسر أوربا مبتاعى سلعها فى
الشرق عما قليل مبتاعى سلعها فى الشرق كما خسرتهم فى أمريكا سابقا ، وسوف لا يقتصر
أمرها على هذا الخسران ، بل إنها لما كات لا تنتج ما يكفى لاطعام سكانها فستضطر
إلى شراء ما يلزمها من مشتريها الأقدمين دون أن تبيعهم شيئا ، وقد أدركت اليابان
هذا المصير فصرح وزير خارجيتها الموسيو" أوكوما " فى خطبة تناقلتها الصحف
بضع سنين " بأن علائم الهرم أخذت
تبدوعلى أوربا وأن العصر القادم سيشاهد تداعى بنيانهاوخراب دولها".
والخلاصة أن الاشتراكية لا
تكترث لمثل هذه المشاكل ، وسوف يكون اشتراك الأمم التى انتشرت بين أفرادها
الاشتراكية فى نزاعها التجارى مع الشرق أصعب وسحقها أسرع ، وأما الأمم التى يتصف
أفرادها باعتمادهم على أنفسهم فى إدارة صناعتهم وبقدرتهم على إتقان آلاتهم
وإفراغها فى شكل يلائم مقتضيات الزمن فهى التى تستطيع أن تدافع عن نفسها فى العراك
المذكور، ولن تستطيع الشيوعية بتطبيقها المساواة فى الأعمال والأجور أن تجهز العمال
بما يلزم من الوسائل ليقاوموا تيار منتجات الشرق .
ما دام النزاع بين الشرق
والغرب لم يقتصر على نزاع واقع بين أناس تفاوتت احتياجاتهم أيضا ، وقد جعل هذا
الأمر الأخير مزاحمة الأمريكيين للصينيين مستحيلة ، ولذلك اضطر أولئك إلى اقصاء
هؤلاء ، ولا تكون المزاحمة بين هذين الطرفين ممكنة إلا إذا إعتاد الصينيون الإسراف
مثل الأمريكيين ، غير أن صفاتهم الموروثة أبا عن جد تقيهم ذلك ، فلما كانوا لا
يحتاجون إلا إلى طاس من الشاى وحفنة من الأرز فإنهم يكتفون بأجور أقل جدا من
الأجور التى يتطلبها العمال الأمريكانيون .
أما نظام الحماية سهل
التطبيق فإن أمم أوربا وأمريكا تستعين به واحدة بعد الأخرى .
نعم قد تكون فيه فائدة وقتية ولكن نتائجه المشكورة لا تدوم ، فقد يمكن أمة
قليلة السكان ضيقة الأملاك أن تحيط نفسها بسور عال وأن لا تبالى بما يدور حولها ،
إلا أن مثل هذه الأمم مفقود فى الغرب ، فقد دلت الإحصاءات على عدم وجود بقاع فيه
تنتج طعاما يكفى أوربا المتزايد سكانها أكثر من ستة أشهر إلى فتحه لتبتاع ما تحتاج
إليه من القوت لكيلا تهلك جوعا ، ولكن بأى شئ تشترى ما تحتاج إليه وقتئذ من القمح
والمنتجات الغذائية ؟ إنها وإن كانت قد حصلت حتى الآن على الغلال الشرقية بما
تصدره من البضائع فإن الشرق لا يحتاج بعد قليل إلى السلع الأوربية لصنعه إياها
بأثمان أرخص .
وبما أن التجارة لا تقوم إلا على المقايضات
التى لم يكن النقد إلا رمزا إتفاقيا فيها فإن العلم إذا لم يقم بمكتشفات أخرى فإن
مستقبل أوربا ولا سيما أقطارها التى تعيش من التجارة يكون مظلما على ما يظهر .
0 التعليقات:
إرسال تعليق