روح الإشتراكية 30
وينشأ عن الأنظمة الديمقراطية
تغيير كبير فى الوزارات ، غيرأنه بجانب محاذير هذا التغيير منافع معادلة لها ،
فالتغيير المذكور يوجب وضع السلط الحقيقية فى قبضة إدارات يقوم بأمورها وزير لا
يتيسر له وقت كاف يبدل فيه النظام القديم والتقاليد التى هى سر قوة هذه الإدارات ،
ثم لما كان كل وزير يعلم أن مدته ستكون قليلة وكان يرغب فى أثر يتركه فإنه يتقيل
كثيرا من الاقتراحات الشريفة بقبول حسن ، ولولا تبديل الوزراء فى فرنسا تبديلا
مستمرا لاستحال القيام فيها بكثير من المشروعات المهمة .
أضف إلى ذلك كون هذه السهولة – فى تبديل الحكومات – الناشئة عن الأنظمة
الدموقراطية تجعل الثورات أمرا نادرا ، وفى هذا نفع كبير للشعوب اللاتينية .
للنظام الديمقراطى محذور أشد
من المحاذير التى ذكرناها وهو تسهيله على قليلى الذكاء تولى الأحكام ، فهؤلاء
لايحتاجون إلا إلى صفة جوهرية واحدة وهى القدرة على الكلام فورا عن أى شئ كان وعلى
الإتيان بالأدلة الكافية لإسكات خصومهم ،
وأما أرباب النفوس السامية التى تميل
بطبيعتها إلى التأمل قبل الكلام فلا مكان لها فى المجالس النيابية ولو كانت حاملة
لروح باسكال أو نيوطن ، فضرورة الكلام من غير روية تطرح من البرلمانات كثيرا من
أولى القيم الثابتة والعقول الراجحة .
ويوجد أسباب أخرى تدعو إلى
طرحهم من البرلمانات : أهمها كون النظام الديمقراطى لا يتحمل وجود تفوق كبير عند
القابضين على زمام الأمور ، فالنواب لا يكونون ذوى حظوة عند الجموع إلا باطنابهم
فى مدح أهوائها وأوطارها ، وبوعدهم الوعود البعيدة الاحتمال ،
وبما أن من طبائع
البشر الغريزية ميلهم إلى من يماثلهم فإن الجموع تجنح إلى أرباب انفوس المختالة أو
القليلة الذكاءوتدنيهم بالتدريج إلى التربع على صدر الحكومات الدموقراطية .
جاء فى المجل السياسية والنيابية : " إن
الجموع تفضل أرباب النفوس الخاملة على أرباب النفوس الراقية ، وتميل إلى شديدى
الشغب والثرثرة أكثر مما إلى المفكريين الهادئين ، وتعرض عن هؤلاء مدعية إن
إفصاحهم عن رأيهم وانتخابهم متعذر ،
وهكذا فإن المستوى ينحط فى الأمور التى تعرض
وفى الأحكام التى تبت وفى الأعمال التى يتصدى لها وفى الأشخاص الذين يهتف لهم وفى
العوامل التى تعينهم .
تلازم النقائص المذكورة
الأنظمة الديمقراطية على ما يظهر غير ناشئة عن صفات شعبنا ، والدليل على ذلك
ظهورها فى الولايات المتحدة الأمريكية على شكل أشد مما هى عليه فى فرنسا ، فانحطاط
المستوى العقلى والأدبى عند الساسة فى الجمهورية الأمريكية يشتد اشتدادا كبيرا ،
ومن علل هذا الانحطاط ازدراء الأكفاء فيها وعدهم غير أهل لتقلد المناصب السياسية ،
غير أنه ليس منه محذور كبير فى أميركا كما فى أوروبا نظرا لما للساسة فيها من
القيمة الصغيرة الناشئة عن ضعف شأن الحكومة .
ثم ‘ن الناظر يرى أن أشد
الأخطار تهديدا للنظم الدموقراطية فى أميركا هو الارتشاء الذى لم ينتشر فى مملكة
انتشاره فى الولايات المتحدة ، إذ يشمل فيها جميع الوظائف العامة شمولا أصبح نيل
كل تصويت أو رخصة أو امتياز ممكنا بالنقود .
جاء فى مقالة نشرتها ( المجلة
العصرية ) أن انتخاب رئيس الجمهوية فى الولايات المتحدة يكلف 200 مليون يدفعها
الأغنياء ، والحزب الذى يظفر يعوض بأكثر مما دفع ، فأول شئ يشرع به هو عزل
الموظفين جزافا ليحل مكانهم منتخبو الحزب الجديد .
لا مبرر لهذه العادات
السياسية السائدة الولايات المتحدة إذا حكم عليه حسب المبادئ الأوربية ، وهى تلصق
العار بالقطر الشائعة فيه ، ولكن لما اعتادها الأميركيون ولا يرون فيها ما يشين
أصبحت مطابقة لمنيتهم الخاصة التى يجب الاطلاع عليها
.
حقا لم تكن الرغبة
فى المال فى أوروبا أقل مما هى فى أميركا ولكن فى أوربا تقاليد قديمة تدفع الناس
إلى احتقار ذوى العيوب من الماليين وعدهم لصوصا سعداء مع حسدهم إياهم إذا كلل
عملهم بالنجاح ، ولا يخطر ببال الناس فى أوروبا أن يقيسوا هؤلاء الماليين بالعلماء
وأرباب الفن ورجال الحرب والبحر أى بذوى المهن التى يتطلب القيام بها شيئا من سمو
الأفكاروالمشاعر العاطل من مثلها أكثرالمضاربين .
يتفاوت الناس فى أميركا بالمال فقط ، إذ أنها
عاطلة من التاليد منقطعة إلى التجارة والصناعة خالية من الطبقات الاجتماعية لا
يقوم بوظائفها المهمة كالقضاء سوى مستخدمين لا مكانة لهم أكثر من أصغر الباعة
.
فالدولار فيها هو المقياس الذى تقاس به قيمة
الرجل أى مركزه الاجتماعى ، والسعى وراء الدولار هو مثل الأميركيين الأعلى الوحيد
وجميع الوسائل فى سبيل نيله حسنة عندهم ، وما أهمية وظائفهم الحكومية إلا بما تعود
علي القائم بأمورها من المال ،
ولا ينظرون إلى السياسة إلا كحرفة يجب أن تجزل
الأجرة لمن يتعاطاها ، ومع أن هذا المبدأ خطر منحط فإن الجمهور الأميركى راض عنه
ويصوت لأكثر الساسة اشتهارا بالنهب والسلب .
0 التعليقات:
إرسال تعليق