13‏/11‏/2016

روح الإشتراكية 22

روح الإشتراكية 22



    قال الفيلسوف الانجليزى " مين " : " ربما أجاب الناس إذا تساءلواعن أشد المصائب التى تقع على سكان أحد الأقطار بأن الحرب الدامية والمخمصة المتلفة والأوبئة الفاتكة هى أشدها ، 

والواقع أن هذه النكبات لا تولد آلاما عظيمة مستمرة مثل ثورة الأزياء التى تفرض على النساء أن لا يستعملن سوى نسيج واحد أو لون واحد فى ثيابهن ، إذ أن ذلك يؤدى إلى إفلاس كثير من البلدان الأوربية والأمريكية الزاهرة وإلى خرابها وهكذا تكون البلية أعظم من المخمصة والوباء . "

        إن طرق حياتنا تتبدل بها كل يوم تبدلا فجائيا يجعل المجتمعات مكرهة على أن تتطور تطورا سريعا لا يلائم مزاج أفرادها النفسى المتكون بالتوارث ولذلك فقد عقب التقلب الثبات فى كل مكان .   

 لا تبقى أفكارنا وطرق حياتنا التى ورثناها عن الماضى على حالها إزاء ما بنشأ عن العلم والصناعة من التحول ، والصعوبة التى نلقاها فى امتزاجنا بمقتضيات الوقت المذكورة وتنشأ عن تحول مشاعرنا وعاداتنا البطئ وعن تحول العوارض الخارجية السريع ،

 ولا يستطيع أحد أن يخبر العالم عن الطور الاجتماعى الذى سوف ينتج عن ذلك ، وكل ما نشاهده الآن هو أن أهم العوامل فى حياة الدول وأسباب تقدمها يتفلت شيئا فشيئا من إرادة هذه الدول المضطرة إلى السير حسب مقتضيات  الاقتصاد والصناعة 

       تبين مما تقدم أن الخرق بين مطالب الاشتراكيين وبين التطور الاقتصادى يتسع يوما فيوم ، فعلى الاشتراكيين أن يخضعوا له كما يخضعون للمقادير الطبيعية التى يجرى الانسان على سننها ، وسيتضح لنا ذلك على شكل أتم كلما تقدمنا فى ذلك الكتاب . 

       يظهر من مطالب الاشتراكيين وأحلامهم أنهم يجهلون ما يسود العالم من مقتضيات الزمن الحاضر جهلا تاما ، فينظرون إلى العالم على أنه مقتصر على البلاد التى يعيشون فيها وكأن ما يجرى فى باقى العالم لا تأثير له فى البيئات التى ينشرون فيها مذاهبهم ، وكأن الأمة التى تسلك طرقهم لا تقضى على علائقها بالأمم الأخرى .

 نعم كان الانفراد ممكنا منذ بضعة عصور ولكن الأمر قد تحول الآن ، إذ أن شأن القابضين على زمام الأمم أخذ يتقيد بمقتضيات المستقلة عن تأثيرهم وأصبح فن السياسة قائما على عوامل خارجية لا تأثير لعزائم الأفراد فيها . 

لا ريب فى أن يتكون من كل قطر وطن ولكنه لا يتكون من عالم العلم والصناعة والعلائق الاقتصادية إلا عالم واحد له سنن خاصة تفرضها الضرورة لا الشريعة ، ولا توجد الآن أمة تقدرعلى السير فى العالم الاقتصادى والصناعى حسب ما تريد ، فاللتطور الصناعى والتجارى والزراعى تأثير كبير فى جميع الامم ، وترغم مقتضيات الاقتصا والصناعة الشعوب على تغيير زراعتها ومناهجها الصناعية وعاداتها التجارية وأناظيمها وقوانينها . 

     توضح المسألة التى سنبحث عنها فى هذا الفصل ما تقدم بأجلى بيان وتثبت عقم ما يبديه الاشتراكيون من الآراء فى حل مشكلة السعادة ، وهذه المسألة التى كنا أول من نبه إليها منذ كثير من السنين هى مسألة النزاع الاقتصادى بين الشرق والغرب . 

   فقد أوجب تقريب البخار للمسافات وتطور الصناعة صيرورة الشرق على أبواب الغرب وتحويل سكانه إلى مزاحمين له ، وقد شرع هؤلاء المزاحمون الذين كنا نصدر لهم منتجاتنا فى الماضى يصنعون مثل هذه المنتجات بعد حيازتهم على آلات نظير آلاتنا وصاروا يبيعوننا إياها بدلا من اشترائها منا ، ولما كانوا ذوى احتياجات قليلة وكانت نفقة الأشياء التى يصنعونها أقل من نفقتها فى أوربا فإنهم لم يلاقوا فى نجاحهم أقل صعوبة. 

 حقا إن العامل الشرقى يعيش كل يوم بأقل من نصف فرنك مع إن العامل الاوربى لا يعيش إلا بأربعة أو خمسة فرنكات ، وبما أن قيم الأفعال هى الناظمة لقيمة السلع وأن قيمة السلع فى الأسواق تكون بحسب قيمتها فى السوق التى يتم إنتاجها فيها بأبخس الأثمان فإن أرباب المصانع الأوربية يرون أن المزاحمين الذين ينتجون منتجات معادلة لمنتجاتهم بأسعارأرخص منها عشرات المرات يهددون صناعاتهم . 

  فقد دخل أهل الهند واليابان والصين فى الطورالذى كنا أنبأنا بقرب حدوثه سابقا ، وتتقدم هذه البلاد كل يوم مسرعة فى المضمار المذكور وعلى نسبة ذلك نزداد مقادير المنتحات الأجنبية التى تستوردها أوربا يوما فيوم مع إن مقدار ما تصدره من المنتجات يقل بالتدريج ، ولذلك وجب الخوف من غارة منتجات الشرقيين وحدها لا من غارتهم الحربية كما يدعى الناس . 

 فكيلو الصوف الذى كان ثمنه فرنكين سنة 1882 أصبح يساوى فرنكا واحدا بعد عشرين سنة ،  وكذلك الشحم فقد هبط ثمنه من 95 إلى 42فرنكا إلخ..

     ويعد كثير من علماء الاقتصاد هذا الهبوط نافعا لأن الجمهور هو الذى يستفيد منه فى نهاية الأمر ، ولكنه يعترض على ذلك بأن يقال أنه يضع الفلاحة فى حال مذبذبة غير ثابتة ويؤدى إلى عدول بعض البلاد عنها . 

    وليس القول بأن الأقطار تضطر إلى العدول عن الزراعة وهما بل أخذ يتحقق فى انكلترا ، فإنها إذ لم تستطع أن تقاوم تيار القمح الهندى والأمريكى عدلت بالتدريج عن زرعه مع كمال طرقها التى يمكن الحصول بها على 29 هكتوليتر من كل هكتاروهبط ما تنتجه كل سنة إلى 23 مليون هكتو ليتر مع إنها تستهلك 85 مليونا ،

 ولذلك فهى مكرهة على ابتياع ستين مليونا من الخارج ، فلو حصر الانكليز فى جزيرتهم أو لم يكن عندهم ما يشترون به هذا الفرق لهلك أكثرهم . 

    والشرق الذى دخل حديثا فى المعمعة لم يسبب انقراض الزراعة الأوربية ، وإنما الذى أوجب ذلك هو غلال أمريكا التى لاقيمة للأرض فيها . 

 غير أنه لما وجدت أمريكا بلادا مزاحمة لها كالهند – حيث لا قيمة للأرض ولا للعمل – حاكت انجلترا فى مصيرها وأصبحت زراعتها مهددة بالانقراض . 

     وقد تناول النزاع الواقع بين الشرق والغرب المنتجات الصناعية أيضا وعلة ذلك كون الأجور فى أقطار الشرق رخيصة إلى الغاية ، فإذا نظرنا إلى الهند واليابان مثلا نرى أن أجرة العامل اليومية فى مصانعهما  لا تتجاوز نصف فرنك وأن أجرة رؤساء العمال أكثر من ذلك بكثير . 

    وهذا الأنتاج الكثير ساق اليابانيين إلى زيادة ما يروجون به سلعهم من الوسائل فاشتروا سفنا لكيلا لا يستعينوا بالملاحة الأوربية ، ثم أخذوا يصنعون ما يحتاجون إليه منها بأيديهم فصار لهم سفن كبيرة منارة يالكهرباء ومصنوعة حسب الطراز الأخير . 

        ومع إن أهل الصين يفوقون اليابان من وجوه عديدة – إذا استثنينا الوجهة الحربية – فإن الصين لم تدخل بعد فى العراك الصناعى وإن قرب اشتراكها فيه ، ويمكننا أن نستدل بكثرة سكانها وقلة حاجاتهم وبكنوز فحمها الجيرى المطمورة التى لا تفنى على أنها ستكون عن قريب مركز العالم التجارى وناظمة لأسواقه وعلى أن مصفق " بكين " وحده هو الذى سوف يقدر أثمان السلع فى باقى المعمور

 كما أننا نستطيع أن نقدر أهمية هذا العراك إذا علمنا بأن الأمريكيين لما أيقنوا بعجزهم عن مزاحمة الصين لم يجدوا لهم وسيلة سوى منع الصينيين عن الدخول إلى أمريكا ، والوقت الذى يندر أن تخوض فيه باخرة حاملة بضائع أوربية فى بلاد الشرق ليس ببعيد . 

0 التعليقات: