13‏/11‏/2016

روح الإشتراكية 28

روح الإشتراكية 28



 جاء فى كتاب ( دليل الإصدار ) الذى منه نسخة عند كل تاجر ألمانى بيانات أساسية كتبت حسب النمط الآتى : 

        " اعتاد الصينيون طبخ طعامهم فى أوعية من حديد رقيقة الجوانب ينضج الأرز فيها سريعا ، غير أن تلك الرقة تؤدى إلى خرق المرجل فى زمن قليل وتدعو إلى تبديله غالبا ، فلما رأى أحد بيوت انكلترا التجارية هذا الأمر أرسل إلى الصين مراجل حديدية ثخينة الجوانب متينة بأثمان رخيصة فاستهوت هذه المراجل أفئدة الصينيين فبدلوا ما عندهم ، ولكن عمر هذا النجاح كان قصيرا ، إذ لم يمض بضعة أيام حتى وقف البيع وعلة ذلك غلاء أثمان الوقود فى بلاد الصين ، 

فثخن المراجل الانكليزية ومتانتها أوجب بطؤ نضج الأرز ، ولما كان هذا البطؤ يؤدى إلى إحاق كثير من الوقود ظلت المراجل القديمة أرخص ثمنا من حيث النتيجة فعاد الصينيون إليها "
     والذى يجعلنا نفصل هذه الأمور هو حرصنا على بيان عوامل النجاح عند الأمم فى الوقت الحاضر ، وهذه العوامل هى قليلة الأهمية إذا نظر إلى كل واحد منها على حدته ، ولكنها تكون مهمة إذا نظر إليها فى مجموعها ، إن بحث الألمانى عن طريقة طبخ الأرز فى الصين لمما يحتقره اللاتينى الذى لا يعتنى إلا بالمسائل العظيمة كتعديل القانون الأساسى ، وفصل الحكومة عن الكنيسة ، وفائدة تعليم اللغة اليونانية الخ .  

فلقد حان الوقت الذى ينبغى أن يخيل فيه إلى اللاتين أن شأنهم فى العلم لا يلبث أن ينقضى إذا لم يجنحوا إلى ترك المجادلات ويسعوا فى حل المسائل العملية الصغيرة القائمة عليه حياة الأمم الآن ، ولا تستطيع حكومة أية حكومة أن تمنحهم ما يفتقرون إليه ، فعليهم عن المعين فى أنفسهم دون غيرهم . 

     إن الحوادث الاجتماعية وإن ظهرت بسيطة للغاية فهى فى الحقيقة معقدة جدا . نعم إن معالجة ما نقاسى آلامه من الأمراض تظهر أول وهلة سهلة ولكننا عندما نحاولها فعلا نرى أننا لا نستطيع أن نقوم إلا بأعمال محدودة لما يحدق بنا من مقتضيات الوقت ، فحياة الأمة فى مجموعها هى كناية عن نسيج من عقد كثيرة  لاتمس إحداها دون أن يؤثر ذلك فى العقد الأخرى . 

     لا يظهرما فى المشاكل الاجتماعية من تعقيد وما فى الأدوية التى يقترحها بسطاء النفوس من باطل إلا بالبحث عن المسائل الصغيرة التى تتألف منها تلك المشاكل .

      أولهما كون تطور العالم فى الصناعة والاقتصاد الآن يختلف عنه فى العصور الخالية ، وثانيهما إن بعض الشعوب لم تستفد من بعض قابلياتها الخاصة فى الماضى سوف ترتقى إلى الصف الأول بعدأن يصبح استعمال هذه القابليات ممكنا . 

      وهل بعض النظر إلى مقتضيات الاقتصاد فى الوقت الحاضر يصح أن يقال إن تكاثر السكان مفيد أو مضر ؟ يختلف الجواب عن ذلك بحسب الشعوب التى وقع عندها هذا الحادث . 

 إن لتكاثر السكان فوائد جلية فى البلدان الفسيحة الأملاك والقليلة السكان كالولايات التحدة وروسيا وانكلترا ذات المستعمرات الكبيرة .  

      فمنابع القوة فى الأمة ثلاثة : الزراعة والصناعة والتجارة لا الجيوش .

     ولماذا لا يكون فى ازدياد سكان البلدان الأخرى كانكلترا وألمانيا نظير تلك المحاذير ؟ لذلك سببان : إراقة هذه البلاد فى مستعمراتها ما يفيض من سكانها ، وثانيهما تهافت أبنائها على الهجرة ولو لم تكن ثمة ضرورة ترغمهم عليها مع إن الافرنسيين ينفرون منها .

     فالرغبة فى الهجرة والقدرة على تطبيقها هما اللذان تزيدان عدد الأمة ، إذ لا تلبث الرغبة فى الهجرة بعد صدورها عن ازدياد السكان أن تصبح  علة تحث على هذا الازدياد . 

     " ملتوس " فقد قال بوجود علاقة متينة بين سكان البلاد وما فيها من وسائل العيش فإذا زال التوازن بين هذين الطرفين ضربت المجاعة والحروب والأوبئة أطنابها على الأمة التى يزداد عددها فاتكة بها حتى يعود التوازن إلى ما كان عليه. 

     أورد الموسيو " كنتون " فى كتاب نشره حديثا مثالا مفيدا عما يوجبه تبديل الجو من تحول فقال :      
   
    " كلما تدرجت حرارة الأرض فى الخمود تجنح ذوتا الأعضاء إلى صيانة درجة الحرارة الجوية الأولى فى نسائدها الجثمانية ، وهذا الجنوح على جانب عظيم من الأهمية ، فهو يسبب فى أنواع ذوات الفقار تطورا فى جهاز التناسل والجهاز العظمى ثم يؤدى إلى تحويل جميع الأجهزة العضوية الأخرى إلى التطور ذاته . 

     " ويتضح لنا ذلك مما يلى : إذا تصورنا من الناحية التشريحية بنية ابتدائية حدث بعد تكوينها خمود فى حرارة الأرض فإننا نراها تجنح إلى صون درجة الحرارة السابقة فيها ، وهذا الصون لا يتيسر إلا بتوليد حرارة أى احتراث فى النسائج الجثمانية ، وبما أن كل احتراق يتطلب وقودا وشيئا من الأكسجين فقد اقتضى نمو جهازى الهضم والتنفس ، ثم نشأ عن ضرورة نقل تلك المواد إلى هذين الجهازين تطور جهاز الدورة الدموية ، وأدى نمو هذه الأجهزة الثلاثة ونمو جهاز التناسل إلى نمو الجهاز العصبى بحكم الضرورة ، 

غير أن توليد الحرارة أمر تمهيدى فيجب حفظها أيضا ، وهذا ما أدى إلى تطور جهاز الأغشية ، وكلما تدرجت الحرارة الأرضية فى الخمود وازداد فرق الحرارة بين الحدين البيئة والحيوان تطلب ذلك حرارة أشد وأعضاء أكمل وهكذا نرى – إزاء خمود حرارة الأرض – أن سعى الحياة فى حفظ حرارتها الأصلية ينشأ عنه تطور جميع الأجهزة العضوية وتدرجها نحو الكمال ، ويكفى فى إثبات هذه النظرية صف أنواع الحيوان حسب مراتب ظهورها على الكرة الأ رضية ، وتدقيق ما وقع من النمو الحقيقى فى كل جهاز من أجهزتها العضوية " 

        وما قيل عن البيئات الحسية  يقال مثله عن البيئات المعنوية ولا سيما البيئات الاجتماعية ، إذ أن ذوات الحياة تلئتم معها رويدا رويدا نظرا لجبروت الوراثة الذى يقاوم كل ميل إلى التحول ، ولهذا البطء نرى أن الأنواع لا تتغير عندما نتأمل فى دور صغير من أدوراها التاريخية ، فالأنواع من هذه الجهة كالمرء الذى لا ينظر إلا إلى ثانية واحدة من حياته مع إن السير البطئ الذى يسير به من الطفولة إلى الهرم فإلى الموت لا تعوقه تلك الثانية ويدرك أجله من غير أن يشعر بذلك .
     

إذا تتكيف ذوات الحياة بحسب البيئات حسية كانت أم معنوية ، فإذا كانت ذوات الحياة فى بيئات ذات تحول بطئ كالأقطار والأقاليم والمدنيات فإنها تجد لنفسها وقتا واسعا تلتئم به مع هذه البيئات ، وأما إذا حدث انقلاب جيولوجى أصبح به جو فرنسا معادلا لجو القطبين أو لجو خط الإستواء فإن أكثر سكان هذا القطر يهلكون بعد مرور جيلين أو ثلاثة ولا تبقى حضارته كما هى الآن . 

    على أن الأرض لا عهد لها بالانقلابات الفجائية ، وكل ما نعلمه هو أن أكثر التحولات التى وقعت على وجه الأرض تمت ببطء ، وليس أمر البيئات الاجتماعية غير ذلك . 

      لربما يكون الاختلاف الشديد بين ما أحدثته مخيلتنا من الأفكار النظرية فى العالم وبين ما أثبته العلم من الحقائق أكثر المعارك القادمة – التى أخذنا نشاهد حدوثها – وضوحا . 

0 التعليقات: