روح الإشتراكية 20
ايطاليا وفرنسا
أتت ايطاليا بأشد التجارب
ضررا عندما جمعت تحت راية واحدة سكانا
متابينين كالبيامونت واللومبارد والصقليين .
يفرط الايطالى فى استخراج
النتائج من اللاتينية أكثر من الفرنسى ، ويزيد عليه فى تعظيم شأن الحكومة ، فلا
يوجد بلد مثل ايطاليا انتشر فيه المبدأ القائل بأن الحكومة قادرة على كل شئ
وبضرورة تدخلها فى التجارة والصناعة وغيرهما من الأمور المؤدية حتما إلى تكثير عدد
الموظفين وإلى عجز الأفراد عن إدارة أعمالهم بنفسهم .
ومن القضايا المحزنة التى
وقعت فى مدينتى " بالرم " و " نابولى " وثبت منها أن جميع موظفى الحكومة كانوا يطلقون
لأنفسهم منذ عهد بعيد الأعنة لنهب بيت المال .
ويظهر أنه سيقع فى
ايطاليا ثورات ، وأنها ستجتاز الأدوار المقدرة التى بيناها مرات كثيرة ، وهى دور
الاشتراكية ، فدور القياصرة ، فدور الانحلال ، ثم دوراستيلاء الأجنبى عليها ،وقد
نشأ عن ميل الأمة الايطالية إلى تقليد الأمم الموسرة فى ترفيه عيشها ترفيها لا
يناسب فقرها مشكلة يصعب حلها .
قال الموسيو " غولغيامو فيريرو " :
" أوجدت أكثرية الشعب الايطالى لنفسها احتياجات جديدة وتاقت إلى زخرفة حياتها
بشئ من الترف والتهذيب غير ناظرة إلى وسائلها التى لا تكفى لذلك ، ولا يقدر
الايطالى أن يرى شيئا مهما عظم دون أن يريد التمتع به،وما أشد خيبة آمال الذين
يعيشون على تلك الصورة وما أعظم غمهم كل يوم ! ومن يلاحظ مقدار ما يتراكم من سرعة
الغضب فى الشعب يسهل عليه إدراك تقلبه المخيف .
وتختلف ايطاليا عن أسبانيا من جهة ميلها إلى
الكماليات والتلذذ والتجمل .
قادة الرأى عند
أكثرالشعوب اللاتنية هم وحدهم الذين يرغبون فى التلذذ بالحضارة ، حقا إن الرغبة
ممدوحة إذا كان الراغب ذو نشاط وذكاء يستطيع بهما أن ينال ما يتطلبه من نعيم ،
ولكنها تكون خلاف ذلك إذا كان الراغب عاطلا من نشاط وذكاء يقدر بهما على كسب ما يفى بمبتغاه ،
فأراد
الناس أن يجمعوا مالا ولم يكونوا أكفاء لنيله فإنهم لا يلتقتون إلى طرق تحصيله
وحينئذ عندهم ملكة الصدق والأمانة ويعم بينهم فساد الأخلاق ، هذا هو الواقع عند
عند قادة أكثر الشعوب اللاتنية ، فإذا أنعمنا النظر نرى أن أخلاق هؤلاء هى فى
الغالب دون أخلاق العوام وذلك من أشد علائم الانقراض خطرا ، فإذا كان أبناء
الطبقات العليا هم الذين يقومون بالحضارة فإن زوالها يتم على يدهم أيضا .
إن كلمة الأخلاق الذى أقصد
بها هنا هو الصدق والأمانة واعتياد المرء على احترام العهود وحب الواجب أى المعنى
الذى قصده المؤلف .
إن الإفلاس المالى ميزان
لا يدل على إلا على مرحلة نهائية تقدمتها مراحل أخرى ، فعلى من يريد أن يقف وقوفا
أساسيا على حقيقة الأمر أن ينفذ إلى أعماق الحياة عند كل أمة وأن يبحث عن إدارة
شركاتها المالية وعاداتها التجارية ونزاهة محاكمها وارتشائها وصدق كتاب العدل
عندها وأمانة موظيفها وغير ذلك من الأمور التى لا يطلع عليها إلا بالمشاهدة ولا
تبحث عنها الكتب ،
وإذا أراد الباحث أن يطلع على أخلاق الشعوب دون أن يتجشم عناء
التوغل فى الاستقرار فليحادث أرباب الحرف كالبنائين وأرباب العمل وغيرهم من ذوى
العلائق بتجار كثير من البلدان وإدارتها ومحاكمها ، فرب العمل الذى مد فى أقطار
عديدة خطوطا حديدية وأسلاكا للترام وأنارها بالكهرباء والغاز إلخ يخبره عن البلاد
التى يشترى فيها جميع الوزراء والقضاة والموظفين ،
والبلاد التى لا يشترى فيها أحد
، ويخبره عن البلاد التى امتازت بصدق المعاملة فى التجارة والبلاد التى ليست من
صدق المعاملة فى شئ ، فإذا اتفقت المعلومات التى يستقيها من منابع مختلفة أمكنه
الجزم بصحتها .
إن فرنسا وإن لم تزل تذب
الانقراض عن نفسها فهى مزعزعة الآن ، فقد عرفت فى عصر واحد كل ما يمكن أمة أن
تعرفه من ثورات دامية وعز وجاه ونكبات وحروب أهلية واستيلاء أجنبى وراحة قليلة ،
وأكثر ما تعانيه اليوم هو التعب وعدم الامبالاة اللذان يلوح للناظر انهما يسيران
بها نحو الأفول ، وإذا نظرنا إلى الظواهر نرى أن الناموس الحياتى القائل بأن "
سقوط الجنس يكون على نسبة رفعته " سينطبق عليها .
نقلت مجلة فرنسا الخارجية
هذه الكلمات :
" إننا إذا قايسنا بين طبقات فرنسا الوسطى وبين نظير هذه
الطبقات فى انجلترا وألمانيا نرى أن مثل هذه الطبقات الوسطى فى فرنسا مثل الرجل
الطاعن فى السن ، فقد تناقصت فيها ملكة الاستنباط الذاتية وأصيبت همتها فى القيام
بمشاريع بالفالج ،
وازداد ميلها إلى الراحة ونزوعها إلى الاشتغال بالأعمال الهينة
واكتتابها بالقروض الحكومية وعدد من يوظف منها ، أى أن الأموال والعقول والكفاءات
فى فرنسا أخذت تنفصل عن الأشغال ، ولذلك قل فيها الدخل والخرج والنسل والنشاط
والاعتناء بالمنافع العامة ، وكترت نفقاتها وزادت وارداتها على صادراتها وكثرت
هجرة الأجانب إليها " .
قال الموسيو " فوييه " : درست اللغة الفرنسوية بجانب
اللغة اليونانية ، وتلائم الروح اليونانية روحنا وآدابنا وفنوننا وتربيتنا أكثر من
ملائمتها لروح أية أمة أخرى " .
ولما كانت هذه التربية النظرية
قائمة على ممارسة الكتب فإنها لا تصوغ سوى موظفين وأساتذة ومحامين ، وعلى نسبة
تأخر صناعة البلاد اليونانية وفلاحتها يزداد عدد خريجى المدارس فيها ، ولا يرغب
هؤلاء إلا فى وظائف الحكومة .
قال الموسيو " بوليتس
" : " يعتقد اليونانى أنه يجب على الحكومة أن تمنحه أو تمنح واحدا من أفراد
أسرته وظيفته " ، وإذا لم ينل ذلك يصبح اشتراكيا متمردا .
ولم يخل التعليم اليونانى
من تعصبه الدينى فقد دهش العالم المتمدن عندما رأى فى أوائل القرن العشرين قيام
بعض الطلاب بثورة غايتها حرم الكتاب الذين ترجموا الأناجيل حرما دينيا ، وقد أدت
هذه الثورة إلى سقوط الوزارة .
وينشأ ما هو شائع فى
البلاد اليونانية من المحسوبية وقلة النظام والارتباك عن طرق التربية اللاتينية
التى طبقت على الشبيبة اليونانية وبعد مرور جيلين على تطبيق تلك التربية مالت
البلاد اليونانية إلى الخراب وعم فيها فساد الأخلاق ، ولم تتبدد أوهام رجال القلم
الذين ينظرون إلى هذه البلاد من خلال خواطر " بريكليس " الزاهر إلا حين
ألغى ساستها بوقاحة ديونها الأجنبية برفضهم دفع فوائدها وباستيلائهم على واردات
الدولة المخصصة لضمان أموال الغرماء
.
وقد تجلى لأوربا سقوط البلاد
اليونانية وما لرجالها المتشدقين من القيمة القليلة عندما اطلعت على أدوار حربها
الأخيرة مع الأتراك وشاهدت الذعر الذى كان مستحوذا على جنودها وتشتت هؤلاء الجنود
وقتما كانوا يرون من بعيد ثلة من الجنود العثمانية ،
ولولا تدخل أوربا لانقرض
اليونانى فى هذه المرة أيضا ، ولأدرك الناس ماذا ينطوى تحت طلاء الحضارة الخادع من
الحقائق ، ولنال خريجو جامعاتنا معارف نفسية عن بعض الشعوب أقرب فى الحقيقة من
المعارف التى يستنبطونها من الكتب .
0 التعليقات:
إرسال تعليق