روح الإشتراكية 29
كانت العلوم الحديثة
غير مكونة عندما أيد زعماء الثورة الفرنسوية مبادئ الانسانية مهتدين بأحلام
الفلاسفة ونقشوا على مقدم الأبنية ألفاظ الحرية والمساواة والإخاء التى هى خلاصة
هذه الأحلام ، ولذلك كانوا قادرين على الاستنجاد بمبدأ الحالة الفطرية ،
ومبدأ
ًإصلاح الرجل الفطرى ، والمبدأ القائل أن المجتمع أفسده من غير أن يصطدموا بشئ آخر
، وكانوا قادرين على التصرف فى المجتمعات كأنها شئ صناعى يستطيع المشترعون أن
يجددوا بناءه .
ولكن نشأت بعدئذ علوم أثبتت
بطلان مثل هذه النظريات ، وكان لمذهب النشوء والإرتقاء الباع الطويل فى زعزعتها
حينكما دل على وجود تنازع مستمر فى الكون يهلك فيه الضعفاء ، نعم إن هذا الناموس
سفاك للدماء ، إلا أنه منبع كل تقدم ورقى ، ولولاه ما خرج البشر من طور الهمجية
الأولى إلى أجمل حضارة .
سوف تتجلى لنا فى صحة ذلك عند
بحثنا عن الدموقراطية الأفضليات ومنها الحسب على رغم الظواهر فهى أريسطوقراطية
أيضا أى معزة لصفوة من الناس كما كانت الحكومات السابقة تعزهم ولا تناقض بينها
وبين سنن التطور .
أخذ القول بوجود اختلاف
بين المبادئ الدموقراطية والعلم يتسرب فيما يضعه أساتذة الجامعة من المؤلفات
التعليمية ، وإليك ما قاله الموسيو " لا فيس " الذى اشتهر بمؤلفاته
الذائعة : " لا يذر فلاسفة العصر الماضى بين الناس عواطف الإخاء والانسانية ،
وأما اليوم فأكثر الأفكار الفلسفية شيوعا هى التى خاضت غمار العلوم ، وقالت بضرورة
التنازع فى الحياة وبمشروعية الانتخاب النوعى المؤدى إلى القضاء على الضعيف .
"
لنطرح فى بياننا الكلمات
المعرفة للدموقراطية جانبا ونبحث عن روحها :
أشار الموسيو "
بورجيه " إلى روحها قائلا :
" إذا
أردنا أن نعرف الاريسطوقراطية والدموقراطية نرى الأولى كناية عن عادات تؤدى إلى
إظهار عدد يسير من العظماء ، والثانية كناية عن عادات ترمى إلى تثقيف جمهور الناس
وترقيه عيشتهم ، ومن ثم تسعى الاريسطوقراطية إلى إيجاد جماعة من الخواص هم خلاصة
ألوف من النفوس المسخرة للذب عنهم ، وتسعى
الدموقراطية إلى إيجاد مجتمع يجزأ فيه النعيم والعمل إلى أجزاء موزعة على
عدد كبير من الناس ، والاطلاع على كون العالم عموما وفرنسا خصوصا يسير نحو المنحنى
الثانى لا يقتضى تدقيقا كبيرا ، فالحوادث التى يمتاز بها المجتمع الحديث هى حلول
الجمع المنظم مكان ملكة الاستنباط الفردية وسلطان الجماعات واختفاء ما عند خيرة
الرجال من نفوذ أو نقصانه . "
هذه هى منازع الدموقراطية
نظريا . فلنر هل توافق الحقيقة :
إن مبدأ الدموقراطية الأساسى هو المساواة فى
الحقوق وحرية المزاحمة ، ولكن من يظفر بهذه المزاحمة غير الأقوياء أى الأشخاص
الحائزين على قابليات انتقلت إليهم بالإرث وعززتها التربية والثروة ؟
اليوم نغض الطرف عن عن حقوق الحسب وحسنا ما نفعل ، غير أن لهذه لحقوق الآن
من الوجهة العملية سلطانا أعظم من سلطانها السابق نظرا لأن ضم حرية المزاحمة إلى
المواهب العقلية المتنقلة بالإرث يجعل الانتخاب الإرثى أكثر بروزا ، فالدموقراطية
هى فى الحقيقة نظام مؤد إلى التباين الاجتماعي أكثر من جميع الأنظمة ،
والاريسطوقراطية هى أقل تأدية إلى ذلك التباين ولا تفعل غير تثبيت ما هو موجود .
إذا
فالنظم الدموقراطية هى أنفع لخيار الناس وما على هؤلاء الخيار إلا الدفاع عنها
وتفضيلها على جميع النظم الأخرى .
إذا وجب الاعتراف بأن شأن
الدموقراطية فى تكوين الطبقات كشأن الاريسطوقراطية ، وما الفرق الظاهرى بينهما سوى
أن باب الانتساب إلى الطبقات غير مغلق فى الدموقراطية ، فالكل قادر على الولوج منه
، أو يظن أنه قادر عليه ، ولكن كيف يستطيع المرء أن يدخل منه إذا لم يكن متحليا
بقابليات نفسية إرثية تحدث لمن يملكهاتفوقا تاما على أقرانه العاطلين منها ؟
إن أول هذه الأخطار هو كون
الدموقراطية تقتضى ثمنا غاليا ، بين " ليون سى " أن نظام الدموقراطية
سيكون أغلى من جميع الأنظمة ، وقد أجادت إحدى الصحف حديثا فى تفصيل هذا الأمر
بالكلمات الآتية :
" كان الرأى العام
يغضب بالحق على تبذير الحكومة الملكية وعلى بطانة الملك التى تغريه بالإسراف ليمطر
عليها وابل النعم والرواتب ، ولكن هل زالت البطانة من الوجود منذ أن أصبح الشعب
ملكا ؟ ألم يزدد عددها بحسب أهواء الرؤساء غير المسئولين ؟ لم يبق بطانة فى قصور
فرساى التاريخية التى كانت تسع جميع بطانة الملك الذهبية ،
وإنما تتكاثر البطانة
اليوم فى مدننا وأريافنا وكورنا وفى كل مكان يتصرف فيه التصويت العام بشئ من الأمر
ويستطيع منح شئ من القوة ، وتحمل البطانة معها أينما وجدت بشرى الكرم المفقر
وأحداث الوظائف الزائدة وتوسيع الأشغال والخدم العامة التى لا طائل تحتها ووسائل
النفوذ عند الشعب والمزايدات الانتخابية ، وتصبح البطانة فى البرلمان موزعة لما
كانت تعد به من النعم ، مجهزة مديرياتها على حساب الميزانية العامة ، فهذا هو
انتصار المطاليب المحلية على منافع الدولة ، وظفر المديرية على فرنسا . "
وما كانت مطالب المصوتين مفرطة
فى بعض الأحيان وجب على المشترع الذى يود تجديد انتخابه أن يحترمها ، وما أكثر
المرات التى يرى المشترع نفسه فيها مرغما على الانقياد إلى أوامر باعة الخمر وصغار
التجار وضعفاء العقول الذين انتخبوه .
وما ينتج عن تدخل الجموع فى
أمور الحكومات والدموقراطية ليس زيادة الإنفاق فقط بل ينتج عنه أيضا ظن الناس
بإمكان معالجة الأمراض الاجتماعية بالقوانين والأنظمة العديدة التى لا ينظر أحد
إلى ما ينشأ عنها والتى لا تفعل سوى تقييد حرية الأفراد بألف قيد وزيادة ما تعالجه
من الأمراض شدة وحدة .
كتب العالم الاقتصادى الايطالى الموسيو لوزاتى : " إن ما تسنه
الحكومة من النظم لا يقدر على تغيير شئ من جبلتنا التعسة أو منح نفوسنا ما تحتاج
إليه من الفضائل أو رفع الأجور ليصبح الإثراء والادخار ممكنا ، وهذا شئ ناشئ عن
خضوعنا لسنن الاقتصاد القومى العامة القاسية . "
يعد الفلاسفة هذا الكلام من
الأوليات ولكن الجمهور لا يفهمه إلا بعد حروب تمتد مئة سنة وإنفاق المليارات
والقيام بثورات دامية ، فأكثر الحقائق الأولية لا ترسخ فى النفوس إلا بمثل هذا
الثمن .
0 التعليقات:
إرسال تعليق