13‏/11‏/2016

روح الإشتراكية 31

روح الإشتراكية 31



      إن عد السياسة فى أميركا أمرا تجاريا يوضح لنا السبب فى تأسيس نقابات لاستثمارها ويدلنا على القوة التى يتمتع بها أمثال جمعية ( تامانى هول ) النيويوركية الشهيرة المستثمرة لأموال نيويورك منذ خمسين سنة استثمارا كليا . 

فهذه الجمعية هى شبيهة بالجمعيات الماسونية وتعين موظفى البلدية والقضاة وشرط المدينة والملتزمين والمجهزين فيرتبط هؤلاء بها قلبا وقالبا وينقادون إلى رئيسها الأعظم انقياد العميان ولم يصبها الفشل فى حفظ مركزها سوى مرتين أى سنة 1894 وسنة 1901 . 

     فقد أسفر التفتيش الذى أجرته الحكومة عن وجود اختلاسات لا يصدقها العقل ، وبلغ ما وزع من هذه الاختلاسات على المشتركين أيام رئيسها المشهور " ويليام تويد " 800 مليون كما جاء فى تصريح لجنة التفتيش ، ثم لم تلبث الجمعية أن استردت قوتها التى خسرتها مرة ثانية ،

 ولقد أنفقت 35 مليونا فى الانتخابات السابقة ليتم تعيين مرشحها رئيسا لبلدية نيويورك ، غير أنه سهلرد هذا المبلغ إلى  المشتركين نظرا لتصرف هذا الرئيس فى ميزانية سنوية مقدارها 400 مليون . 

وأعمال مثل هذه تحدث فى غير الولايات المتحدة ارتباكا سريعا .

      لم يعم انحطاط الأخلاق فى أميركا حتى الآن سوى طبقة الساسة وبعض من التجار وأرباب الصناعة والذى يقلل تأثير هذا الانحطاط هو كون تدخل الحكومة فى الولايات المتحدة قليلا بدلا من أن يكون عظيما كما عند الأمم اللاتينية . 

      فالنظم الدموقراطية لا تفلح جيدا إلا عند الأمم المتصف أفرادها بشئ من ملكة الاعتماد على الذات والإرادة اتصافا يقدرون به على قيادة أنفسهم وإنجاز أعمالهم من غير أن تتدخل الحكومة ، ولا يكون لارتشاء الموظفين عواقب وخيمة إذا كان تأثير الحكومة محدودا . 

      فأشد أعداء الأنظمة الديمقراطية هم العوام لا النظم الارستقراطية ، لأن أقل ما تفكرالجماعات فيه عندما تتوجع من ارتباك قادتها وفسادهم هو تسليمها الأمور إلى حاكم مطلق ،

 والدليل على ذلك ما وقع فى الأدوار التاريخية المختلفة عند الأمم التى لم تكن متحلية بصفات تطيق بها الأناظيم الحرة .     
                 
فبعد ظهور ماريوس وسيللا والحروب الأهلية ، ظهر يوليوس قيصر وتيب ونيرون ، وبعد دور العهد ظهر نابليون بونابرت ، وبعد ثورة 1848 ظهر نابليون الثالث ،

 وكانت الجماعات تعبد جميع هؤلاء الظلمة المستبدين الذين هم أبناء التصويت العام ، والذين لولا تأييد الجماعات لهم لاستحال عليهم أن يظلوا ذوى حول وطول . 

        هذه هى منافع الأنظمة الدمقراطية ومضارها  ، فهى لا تلائم الشعوب المتصفة بشدة النشاط والتى اعتاد أفرادها الاعتماد على مجهوداتهم الشخصية فقط ، وهى ليست بمبدعة للارتقاء ولكنها تكون جوا ملائما لكل تقدم ، وليس ما يعادلها ولا ما يقدر على الحلول مكانها من هذه الجهة ، وما من نظام يمنح الأكفاء مجالا للرقى ونصيبا للتوفيق مثلها ،

 وهى بما تعطيه لكل امرئ من حرية ومساواة تستحسن الأفضليات ولا سيما أفضلية الذكاء أى التفوق الذى هو أساس كل تقدم .

    وهل تضع الحرية والمساواة فى مرتبة واحدة من ورثوا عن آبائهم عقولا راجحة والجموع ذات النفوس الضعيفة الذكاء والقابليات القليلة النمو . 

    قد يتوهم الناس إمكان قلب السنن الطبيعية والتضحية بالأقوياء الذين هم أقلية فى سبيل الضعفاء الذين هم أكثرية،وما أباطيل الاشتراكيين وأحلامهم غير تحقيق ذلك .
     

       فلنفرض أن هذه الأحلام تحققت وقتا قصيرا وأن الفرد سجن فى شبكة من الأنظمة والقيود التى يقترحها الاشتراكيون ولنقض على رءوس الأموال والمزاحمة والذكاء ولنضع الأمة حيث تكون تحت رحمة أول غارة يشنها العدو ونسأل هل تنال الجموع من وراء ذلك فائدة ؟

     واحسرتاه ! إنها لاتنال شيئا وتخسر على الفور كل شئ فالتقدم الذى يغنى عن العمال لا يتم إلا بتأثير أرباب النفوس السامية ولا تدور آلة الحضارة الحديثة المعقدة إلا بإرشاد هؤلاء ، فلولا العظماء لأصبحت الأمة العظيمة جسدا بلا روح ، 

ولولا المهندس الذى ينشئ المصنع ويديره لما استقام المصنع زمنا طويلا وكان مصيره كمصير السفينة بلا ربان أى حطاما تتقاذفه الأمواج عندما يصطدم بأول صخرة يلتقى بها ، فمستقبل الضعفاء والعاجزين يكون أسوأ إذا لم يكن على رأسهم أقوياء الناس وأكابرهم . 

      وفى الوقت الحاضر مخادعون يقنعون الجماعات بسهولة تحقيق هذه الأحلام ، ويعتقد هؤلاء الأنبياء الخطرون أن أجلهم سيمتد إلى أن يقتطفوا ثمار إغوائهم ، ولا يمتد حتى تكشف الحوادث خديعتهم فيصبحوا من الخاسرين . 

      إن الطريقة الوحيدة التى أوجدتها الطبيعة لتحسين الأنواع هو تكوينها ذوات حياة لا يكفيها ما فيها من طعام وإقامتها بينهم تنازعا أبديا لا يقدر على البقاء فيه سوى الأقوى والأصلح ، وهذا التنازع ليس قائما بن الأنواع فقط بل بين أفراد النوع الواحد أيضا ويكون فى الغالب أشد مما بين هؤلاء الأفراد . 

       المحل الذى لا يكون فيه تنازع لا يكون فيه تقدم بل يتقهقر سريعا . 

     الطبيعة منحت ذوات الحياة الضعيفة وسيلة للبقاء بتعاقب الأجيال على رغم أعدائها وهذه الوسيلة هى فيوض نسلها فيوضا يزيد على شهوات هؤلاء الأعداء .

     فيظهر لنا أن الطبيعة تعتنى بحفظ الأنواع الدنيا – كالحيوانات الطفيلية – عناية تعادل عنايتها بحفظ الأنواع العليا . 

      الحق لا يكون إلا إذا وجدت قوة قادرة على إلزام الناس احترامه ، ولا تقولن أن هذه القوة تغلب الحق ، فالحق والقوة أمران متحدان ذاتا ومعنى ولا حق حيث لا قوة ، فلتعلم الأمم اليوم أن حقوقها تقاس بما عندها من وسائل الدفاع . 

      هذا التنازع سيصبح أشد منه فى الماضى ، ولهذه الشدة المحتملة سببان :
 أولهما: اتساع الفروق بين الطبقات اتساعا متزايدا ، 
وثانيهما: القوة التى تنالها لطبقات من قواعد التضامن الحديثة للدفاع عن مطالبها .

      يكاد السبب الأول يكون أمرا مسلما لا ريب فيه ، فمن الأمور الجلية أن الاختلاف بين الطبقات أى بين العمال وأرباب العمال وبين الملاك والصعاليك أشد من الاختلاف الذى كان فى الماضى بين الصنوف أى بين العامة والأشراف حيث كان الناس يعدون حد النسب ممتنع التجاوز ، فلما كانوا ينظرون إلأيه أنه صادر عن الإرادة الآلهية رضوا به غير مجادلين 

 نعم كانت شدة المظالم تولد ثورات فى بعض الأحيان ولكنها كانت تشتعل ضد هذه المظالم لا ضد النظام السائد . 

      وأما اليوم فالثورات لا تشتعل ضد المظالم لأنها لم تكن أقل منها فى الوقت الحاضر ، بل كانت تشتعل ضد النظام الاجتماعى بأسره . 

0 التعليقات: