ثروة الأمم 22
أولا -
اللامساواة الناشئة
عن طبيعة أصناف العمل نفسها
الشروط الخمسة التالية هى الشروط
الأساسية التى تتيح ، حسبما استطعت أن ألاحظ ، ربحا صغيرا فى بعض الأصناف من
الأعمال ، وتعاوض ربحا عظيما فى البعض الآخر :
أولا :هل هذا الصنف من الأعمال
سائغ ومقبول ، أو ممجوج ومرفوض .
ثانيا : سهولة ورخص اكتساب هذا الصنف من العمل أو
صعوبته ، وغلاء كلفة تعلمه .
ثالثا : ديمومة العمل فيه أو عدم ديمومته ،
رابعا :
الثقة القليلة أو الكثيرة التى يجب أن يتحلى بها القائمون بهذا العمل ،
خامسا :
احتمال النجاح فى هذا العمل أو عدم احتمال النجاح فيه .
والتدرب فى الفنون البداعية
والمهن الحرة أكثر إملالا وكلفة .
ولذلك كان ينبغى لمكافأة الرسامين والنحاتين ،
والمحامين والأطباء ، أن تكون أسخى من غيرها ، وهى على هذه الحال لهذا السبب .
أما أرباح رأس المال فتبدو أقل
تأثرا بسهولة تعلم التجارة التى يستثمر فيها المال أو صعوبته، فكل الطرق المختلفة
التى يستثمر رأس المال فيها ضمن المدن الكبرى تبدو، فى الواقع ، متساوية من حيث
صعوبة تعلمها أو سهولته .
إن إمكانية أن يصبح أى شخص مؤهلا
لمزاولة العمل الذى تدرب على القيام به تختلف باختلاف الأعمال ، فالنجاح فى القسم
الأكبر من أعمال الصنائع الميكانيكية يكاد يكون مضمونا ، ولكنك إذا ما أرسلته
ليتعلم القانون ، فثمة على الأقل عشرون فرصة للفشل مقابل فرصة واحدة للنجاح فى
اكتساب الكفاءة التى تمكنه من كسب معيشته من تلك المهنة .
فى سحب لليانصيب منصف
تماما ، ينبغى للذين يسحبون الجوائز أن يكسبوا كل ما يخسره الذين يسحبون الأوراق
البيض .
مع ذلك ، نجد كل النفوس الكريمة
والشريفة تتزاحم على مزاولتها .
ويساهم سببان مختلفان فى تزكية هذه المهن .
أولا :
الرغبة فى الشهرة التى تصاحب التميز الفائق فى أى منها ،
وثانيا : طبيعة الثقة
الطبيعية التى يمتلكها كل إنسان ، بدرجة متفاوتة ، لا فى قدراته الشخصية الخاصة ،
بل وفى صعود حظه .
إن الامتياز فى أية مهنة هو
العلامة الحاسمة على ما يسمى بالعبقرية أو المواهب الفائقة ، فإعجاب الجمهور
المصاحب لهذه القدرات المتميزة يعتبر دائما جزءا مكونا لمكافأتهم ، وهو متفاوت
النسبة وفقا لكونه أعلى درجة أو أدنى ، إنه جزء عظيم من المكافأة فى مهنة الطب ،
وهو ربما كان أعظم فى مهنة القانون ، وهو يكاد يكون كل شئ فى الشعر والفلسفة .
ثمة بعض المواهب الرائقة
والجميلة التى يسبب امتلاكها نوعا من الاعجاب ، ولكن مزاولتها من أجل الربح تعتبر
جراء العقل أو التعصب ، نزعا من امتهان النفس العلانى .
فالمكافآت الباهظة التى
يتقاضاها الممثلون ، ومغنو الأوبرا ، وراقصوا الأوبرا ، ومن شاكلهم إنما تستند إلى
هذين المبدأين ، ندرة هذه المواهب وجمالها ، والشين المقترن بمزوالتها لهذا الغرض ،
ويبدو من العبثى للوهلة الأولى أن نحتقر أشخاصهم بينما نكافئ مواهبهم بهذا السخاء
المفرط ،
ولكن علينا إذ نقدم على أحد الأمرين أن نقوم حتما بالأمر الآخر ، ولئن
قيض للرأى العام أو التعصب أن يتغيرا بالنسبة إلى هذه الأعمال ، فإن مكافأتها
المالية سوف تتدنى بسرعة .
مدى عجز قلة الخوف من الشقاء عن
أن توازن الأمل فى سعود الحظ فيبدو فى إقدام العوام على التطوع فى سلك الجندية ،
أو الانخراط فى البحرية ، بأوضح مما يبدو فى إقدام الأشخاص الأحسن حالا على اعتناق
المهن الحرة .
وعلى الرغم من قلة حظوظهم فى
الترقى ، فإنهم يزينون لأنفسهم ، فى غمرة أوهامهم اليافعة ، ألف فرصة للفوز
بالتشريف والامتياز ،لا يتحقق منها شئ قط ، هذه الآمال الرومنتيكية هى الثمن
الكامل لدمائهم ، أما راتبهم فأقل من راتب عماة العمال ، ونصيبهم فى الخدمة
الفعلية أعظم من تعب هؤلاء بكثير .
ويتفاوت ارتفاع نسبة الربح
العادية دائما مع ارتفاع نسبة المخاطر . فالصنعة المحفوفة بأكبر المخاطر على
الاطلاق ، صنعة التهريب ، هى الطريق المضمون إلى الإفلاس ، وإن كانت هى الأوفر
ربحا أيضا متى نجحت المغامرة .
الفرق بين الربح الظاهرى المجتنى
من تجارة المفرق وتجارة الجملة أقل بكثير فى العاصمة مما هو فى البلديات الصغيرة
والقرى الريفية .
فإن ثروات طائلة كثيرا ما تجنى
من بدايات صغيرة فى الأولى ، بينما لا تكاد تجنى أبدا فى الثانية ، ففى المدن
الصغيرة والقرى الريفية لا يمكن للتجارة أن تتوسع بتوسع رأس المال نظرا إلى ضيق
السوق .
لذلك ، فعلى الرغم من أن نسبة أرباح شخص ما قد تكون مرتفعة جدا ، فإن
مجموعها أو مقدارها لا يمكن أن يكون كبيرا جدا ، ولا تراكمه السنوى تاليا .
والحق أن الثروات الطائلة
المفاجئة إنما تجنى أحيانا فى أماكن كهذه ، جراء ما يطلق عليه منهة المضاربة ،
فالتاجر المضارب لا يزاول أى فرع نظامى ، راسخ ، أو معروف من التجارات ، فهو تاجر
ذرة هذه السنة ، وتاجر خمور فى السنة التالية ، وتاجر سكر ، أو تبغ ، أو شاى فى
السنة التى تليها ، وهو يدخل فى أية تجارة يتوقع أن يكون احتمالية الربح فيها أعلى
مما هو معتاد ، ويتركها عندما يتوقع أن يعود احتمال الربح فيه إلى مستوى التجارات
الأخرى .
ومن شأن مغامر مقدام أن يجنى
ثروة طائلة من مضاربتين ناجحتين أو ثلاث ، ولكنه ربما خسر ثروة طائلة بمضاربتين
غير ناجحتين أو ثلاث . ولا يمكن لهذه المهنة أن تزاول إلا فى المدن الكبرى .
فلا
يمكن أن تحصل المعلومات الضرورية لها إلا فى أماكن المعاملات والمراسلات الأوسع
نطاقا .
لكى تحصل على هذه المساواة فى كامل مزاياها أو معايبها ، لابد من ثلاثة
أشياء حتى حيث تتاح الحرية التامة القصوى .
أولا : يجب أن تكون الأشغال مشهورة
وقديمة العهد فى الحى والجوار،
ثانيا : يجب أن تكون فى حالتها المعتادة ، أو ما
يمكن تسميته بحالتها الطبيعية ،
ثالثا : يجب أن تكون الأشغال الوحيدة أو الرئيسية
للمشتغلين فيها .
تكون الأجور عامة أعلى فى المهن
الحديثة مما تكون فى المهن القديمة .
عندما يقوم صاحب مشروع بإنشاء مشغل جديد ،
لابد له من أن يغرى عماله ليصرفهم عن الوظائف الأخرى بأجور أعلى مما يستطيعون كسبه
فى مهنهم الخاصة ، أو مما تقتضيه طبيعة عمله عادة ، ولا بد من مرور زمن لا يستهان
به قبل أن يجازف بتخفيضها إلى المستوى المألوف .
إن إنشاء أى مشغل جديد ، أو فرع
جديد من التجارة ، أو مباشرة أية ممارسة جديدة فى الزراعة إنما هو دائما نوع من
المضاربة يتوخى منه صاحب المشروع أرباحا فائقة للعادة ، وتكون هذه الأرباح كبيرة
جدا أحيانا ، وربكا كانت فى أحسن الأحيان على غير هذا النحو ، ولكنها على وجه
الإجمال لا تتقايس بانتظام مع الأرباح فى سائر المهن الراسخة الأخرى فى الحى أو
الجوار .
إذا نجح المشروع تكون هذه الأرباح أول الأمر كبيرة جدا فى العادة ، فإذا
ترسخت المهنة أو الممارسة وصارت معروفة تماما فإن من شأن التنافس أن يخفضها إلى
مستوى المهن الأخرى .
والطلب على كل نوع تقريبا من
أنواع العمل المختلفة يزداد أحيان عن المعتاد وأحيان ينقص ، فالطلب على العمل
الريفى فى موسم الحصاد وموسم الجنى أعلى مما يكون عليه خلال القسم الأكبر من السنة
، وترتفع الأجور بازدياد الطلب ، وفى أزمنة الحرب ، يوم يكره أربعون أو خمسون ألف
بحار على ترك الخدمة التجارية للالتحاق بخدمة الملك ، يزداد الطلب على البحارة
للسفن التجارية ازديادا ضروريا مع ندرتهم
.
كما أن أجورهم فى حالات كهذه
ترتفع من جنيه وسبعة وعشرين شيلنغ إلى أربعين شيلنغ وثلاثة باوندات شهريا ، وعلى
العكس من ذلك ، ففى مشغل تتردى حاله تدريجيا يرضى العمال بأجور أدنى مما يلائم
طبيعة عملهم بدلا من ترك مهمتهم القديمة .
تتفاوت أرباح رأس المال بتفاوت
أسعار السلع التى يستثمر فيها .
فمع ارتفاع سعر أية سلعة فوق السعر المتوسط
المألوف ، ترتفع أرباح جزء على الأقل من رأس المال المستثمر لإيصال تلك
السلع إلى السوق ، فوق مستواها المخصوص ، وتتدنى كثيرا تحت هذا المستوى مع
انخفاضها .
كل السلع معرضة لتقلب الأسعار إلى حد ما ، ولكن بعضها أكثر عرضة لذلك
من بعضها الآخر .
وفى كل السلع التى ينتجها الجهد البشرى تنتظم كمية من الجهد
المبذول سنويا انتظاما ضروريا بالطلب السنوى ، بحيث إن متوسط الناتج السنوى قد
يكون أقرب ما يمكن من متوسط الاستهلاك السنوى .
ولكن ثمة أشغالا أخرى لا تنتج
فيها كمية الجهد نفسها دائما كمية السلع نفسها .
الكمية نفسها من الجهد تنتج فى
سنوات مختلفة كميات مختلفة من الذرة ، والخمر ، وحشيشة الدينار ، والسكر ، والتبغ ،
مثلا ، ولذلك يتقلب سعر أمثال هذه السلع ، لا مع تفاوت الطلب ، بل ومع التغيرات
الكبرى والأكثر تواترا فى الكمية المنتجة ، وهو عرضة لتقلبات كبيرة ، ولكن لا بد
لربح بعض تجار الجملة من أن يتقلب بالضرورة بتقلب أسعار السلع .
فعمليات التاجر
المضارب إنما تستهدف أساسا سلعا كهذه .
وهو يجتهد فى شرائها عندما يتوقع أن ترتفع
أسعارها ، ويبيعها عندما يرجح هبوط تلك الأسعار .
عندما يكسب شخص معيشته من شغل
معين لا يشغل القسم الأكبر من وقته ، فمن الأرجح أن يكون على استعداد لأن يعمل فى
أوقات فراغه بأجور أدنى مما قد يناسب طبيعة شغله عادة .
إنهم على استعداد لأن يمنحوا وقت
فراغهم لقاء مكافأة صغيرة جدا لأى كان ، وإنهم كانوا يعملون لقاء أجور أدنى من
سائر العمال الآخرين .
0 التعليقات:
إرسال تعليق