إمبراطورية الثروة ج2-22
لقد شعر كينز بأن الحكومة – إن تعمدت إحداث
عجز فى أوقات تراجع الطلب (او خفض الضرائب) وزادت عرض النقد – يمكنها الحيلولة دون
وقوع الكساد .
وبالمثل فإن انتهاج مسار معاكس – أى تحقيق فوائض تتزامن مع رفع
أسعار الفائدة – يتيح للحكومات التحكم فى فترات الطفرات الأقتصادية . وتقبل علماء
الاقتصاد أفكار كينز من دون تردد .
كانت هذه الأفكار – من ناحية – تنم عن نظرة
ثاقبة مدهشة , وتبدو كأداة فعالة فى كبح تلك الكوارث الاقتصادية التى عايشها اولئك
جميعا .
وبالطبع , أكسبت الكينزية علماء الاقتصاد
مكانة مرموقة لم يرتقوا اليها من قبل .
إذ لم يكن السياسيون قبل كينز فى حاجه إلى
اقتصاديين يساعدونهم على إدارة شؤون السياسة , بأكثر مما كانوا فى حاجة الى علماء
الفلك . وبعد كينز صار لعلماء الاقتصاد منزلتهم الرفيعة , ومن هنا جاء انشاء مجلس
المستشارين الاقتصاديين للرئيس , على الرغم من أن دقة وتجانس المشورة لم يكونا
مؤكدين تماما . وقد روى عن ترومان – وهو أول رئيس يلجأ الى هذه الاستشارات
الاقتصادية – أنه طلب , على سبيل الدعابة , أن يعمل لديه اقتصادى بذراع واحدة ,
لأن كل الاقتصاديين العاملين لديه دأبوا دائما على القول : ( هذا من ناحية أولى
... أما من الناحية الثانية ... ) .
المال هو بالطبع حليب الأم الذى تتغذى
عليه السياسة .
ووفق نظرية كينز فإن زيادة التضخم لا يمكن
أن تتزامن مع ارتفاع نسبة البطالة , وهكذا اشتقت كلمة جديدة فى عام 1970 لتوصف هذه
الحالة التى لا سابق لها : الكساد التضخمى .
صار سعر الدولار يتجاوز قيمته الفعلية
مقابل العملات الأخرى بسبب التضخم غير المسبوق فى تاريخ الاقتصاد الأمريكى زمن
السلم , وسياسة تخفيض سعر الفائدة (سياسة النقد الميسر) التى انتهجها الاحتياطى
الفدرالى . وهذا ما جعل السلع الأمريكية تبدو أعلى سعرا من تلك المقومة بعملات
أخرى . كما باتت السلع الأجنبية أقل ثمنا بالنسبة إلى الأمريكيين .
وقد انكمش
الميزان التجارى – وهذا أمر لا مفر منه – بعد تعافى الاقتصادات الأجنبية , ولطالما
كان الميزان التجارى الأمريكى رابحا جدا فى السنوات التى أعقبت الحرب العالمية
الثانية . وفى عام 1959 عانى الميزان التجارى عجزا طفيفا . لكنه بدأ بالتدهور
سريعا فى أواخر الستينيات , وفى عام 1971 وقع مرة أخرى فى العجز وظل فى طور تراجع
من ذلك الحين .
ولان الدولار كان عملة التجارة العالمية
, وكان بموجب اتفاقية بريتون وودز قابلا للتحويل الى ذهب بسعر ثابت قدره 35 دولار
للأوقية , فقد تراكم الدولار فى خزائن المصارف المركزية للدول الأجنبية ومؤسساتها
المالية . وكان الدولار يخرج من الولايات المتحدة , بدت أرصدة (اليورو دولار )
متذبذبة , وبدأ الذهب بالتدفق الى الخارج بكميات كبيرة لأول مرة منذ مطلع
الثلاثينيات . وبدأت أعمال المضاربة على الدولار فى سوق العملات الدولية التى باتت
قوة متنامية فى الاقتصاد العالمى .
وفى 15 أغسطس 1971 حسم الرئيس نيكسون
المسألة – وما جانب الحكمة فى ذلك – لحل المشكلات الاقتصادية المتعاظمة التى واجهتها
البلاد . إذ عمل أولا على إبطال إتفاقية بريتون وودز , وقطع الارتباط بين الدولار
والذهب . ومنذ ذلك الحين ستتحدد قيمة الدولار بالعرض والطلب , وانقضى بذلك عهد
معيار الذهب – بعد 150 عاما – من دون رجعة . وجمد ثانيا الأجور وبدلات الإيجار و
الأسعار جميعا لمدة تسعين يوما تتبعها ضوابطها صارمة على الأجور و الأسعار .
إن لضوابط الأجور و الأسعار ( أو أنظمة
الرقابة عليها ) تاريخا طويلا , لكنه غير محمود معظمه . ففى ظل سوق حرة , تعكس
الأسعار – ملايين الأسعار – الاحتياجات التى يجب أن توجه اليها الموارد الاقتصادية
ومكامن الفرص الاقتصادية , أى ما ندر من الموارد وما كان وفيرا , مما يسمح للأفراد
تعديل سلوكهم الاقتصادى وفقا لذلك .
وعندما تثبت الأسعار – مع ذلك – تنشأ على
الفور – وبصورة حتمية – حالات عجز وفائض . وهذا يفسر النقص الدائم فى الوحدات
السكنية حيثما وجدت الضوابط على بدل الإيجار . كما أن ضوابط السعر تحرم السوق
الحرة (أى الأفراد) من مصدر قوتها وتجعلها رهنا بيد السياسيين .
والسياسيون –
بالطبع – منساقون أبدا وراء إغراء توظيف هذه القوة لما فيه مصلحة الفئات المقربة ,
أما غير المقربين فيواصلون السعى وراء مصلحتهم الذاتية عبر ألية السوق السوداء .
كما كان شأن جميع المحاولات المتعاقبة
لاتخاذ القانون ضابطا للأسعار بدلا من أن يترك تحديدها لملايين الأفراد فى معرض
سعيهم الى تحقيق مصالحهم الذاتية , فقد باءت تلك المحاولة بفشل ذريع , على الرغم
من التطبيق المتهاون لعقوبة الإعدام وسيلة لإنقاذ ذلك الأمر .
فقد أخفيت البضائع
وكان تبادلها يتم على أساس المقايضة أو خارج نطاق القانون من قبل جماعات لديها
مصلحة ذاتية مشتركة فى إخفاء الأمر عن السلطات .
0 التعليقات:
إرسال تعليق