22‏/07‏/2019

القانون الخمسون 31

القانون الخمسون 31

الاتجاه الجريء:


 لا يستطيع معظم الناس التعامل مع الملل . ھذا يعني أنه لا يمكنھم الاستمرار على شيء واحد إلى أن يتقنوه ، ثم يتساءلون لماذا ھم غير سعداء .
50 سنت
كانت الحياة بالنسبة لأغلب اسلافنا البدائيين عبارة عن صراع مستمر ، حيث تستلزم عملا لا نھاية له من أجل توفير المأكل والملبس . إذا كان ھناك أي وقت من الفراغ ، فإنه يخصص عموما للطقوس التعبدية التي تعطي معنى لھذه الحياة الشاقة.
وبمرور آلاف السنوات من الحضارة ، أصبحت الحياة بالتدريج أكثر سھولة للكثيرين ومعھا أتى المزيد فالمزيد من وقت الفراغ . ليست ھناك حاجة في مثل ھذه اللحظات إلى العمل في الحقول أو القلق بشأن الأعداء أو الموارد ، فھي مجرد فسحة من الساعات لملؤھا بطريقة أو بأخرى . وفجأة
ولدت عاطفة جديدة في ھذا العالم ، وھي الملل.
يكون العقل أثناء العمل أو التعبد مملوءا بمھمات متعددة لإنجازھا ، ولكن عند وجود الفرد بمفرده في المنزل ، فإن وقت الفراغ ھذا يسمح للذھن أن يتجول أينما شاء . وھو ينجذب ازاء ھذه الحرية إلى التفكير في الأمور المقلقة بشأن المستقبل والمشاكل المحتملة والأخطار . ھذا الوقت الفارغ
يعكس بصوت خافت الفراغ الأبدي للموت نفسه . لذلك فإن ھذه العاطفة الجديدة التي ھاجمت أسلافنا ، وصلت إلينا كرغبة تطاردنا إلى يومنا ھذا للھروب من الملل بأي ثمن من أجل إبعاد أنفسنا عن القلق. تشمل الوسائل الرئيسية للإلھاء بشكل عام جميع أنواع الترفيه  ، والمخدرات ، و الكحول والأنشطة الإجتماعية . إلا أن لتلك الملھيات أثر سريع الزوال كالمخدرات ، حيث نعشق الأشياء الجديدة والسريعة التي تخرجنا من أنفسنا وتبعدنا عن الوقائع القاسية للحياة وتسلل الملل . حضارة روما القديمة انھارت بأكملھا تحت ضغط ھذه الحاجة والعاطفة الجديدة ، إذ أصبح اقتصادھا مقيدا بابتكار الأنواع المستحدثة من الكماليات والترفيه التي استنزفت أرواح مواطنيھا ، ولم يتبق إلا القليل ممن لديه استعداد للتضحية بمتعتھم في سبيل العمل الجاد أو للمصلحة العامة.
ھذا ھو النمط الذي خلقه الملل للكائن الإنساني منذ ذلك الحين ،ننظر لما ھو خارج أنفسنا من أجل الملھيات ونغدو معتمدين عليھا . تتمتع ھذه الملھيات بسرعة ذات وتيرة أكبر من الوقت الذي نمضيه في العمل ، فبالتالي يختبر العمل كشيء ممل ، بطيء و متكرر . كما أن أي شيء آخر يشكل تحديا أو يتطلب جھدا ، ينظر إليه بذات الطريقة فھو ليس ممتعا ولا سريعا.
إذا مضينا في ھذا الاتجاه بعيدا بما فيه الكفاية ، سنجد أن اكتساب الصبر لتحمل العمل الجاد اللازم لإتقان أي نوع من الحرف ، يصبح صعبا على نحو متزايد . و يصعب كذلك إمضاء الوقت وحيدا ، وتنقسم الحياة بين ما ھو ضرور ي( وقت العمل) و ما ھو ممتع( الملھيات والتسلية ) .
في الماضي ، كانت الحالات الشديدة من الملل تصيب غالبا أولئك الذين في الطبقات العليا للمجتمع ، أما الآن فھو شيء يعاني منه معظمنا.
ومع ذلك ، فھناك علاقة أخرى مرتبطة بالملل و وقت الفراغ ، تتمثل في الشخص الجريء الراغب في تحقيق نتائج مختلفة جدا عن الإحباط والھروب  إذ يكون كالآتي : لديك ھدف كبير تتمنى إنجازه في حياتك ، شيء تشعر أنه مقدر لك القيام به.
إذا بلغت ھذا الھدف ، سيجلب لك مستوى من الإشباع أعمق بكثير من الرعشات الزائلة الناتجة عن الملھيات الخارجية.
لتفعل ھذا يجب أن تتعلم حرفة ما ، تعلم ذاتك وتطور المھارات الملاءمة ، حيث تتضمن جميع النشاطات الإنسانية تطورا طبيعيا من الاتقان . عليك أن تتعلم الخطوات المختلفة والإجراءات التي تحتويھا ، و تتقدم إلى المستويات الأعلى فالأعلى من الإحتراف . الأمر الذي يتطلب الانضباط ، المثابرة ، القدرة على تحمل الأنشطة المتكررة ، و البطء والقلق المتأتي من تحد كھذا.
حينما تبدأ بالمضي في ھذا المسار ، سيحدث شيئين : الأول: إن امتلاكك لھدف أكبر سيجعل عقلك خارج نطاق الوقت ويساعدك على تحمل العمل الجاد والكدح .
والثاني:أنه كلما أصبحت أفضل في ھذه المھمة أو المھنة ، سيكون الأمر ممتعا بشكل متزايد . حيث ترى تطورك ، وتطلع على العلاقات والاحتمالات التي لم تلاحظھا من قبل ويصبح عقلك منغمسا في إتقانھا أكثر  في خضم ھذا الانغماس ستنسى مشاكلك ، مخاوفك من المستقبل وألعاب الناس المقرفة . ولكن بخلاف الملھيات الآتية من مصادر خارجية ، فھذه تنبثق من الداخل.
أنت تطور مھارة لمدى الحياة ، نوع من الانضباط الذھني الذي سيشكل قاعدة لقوتك. لتفعل ذلك، عليك أن تختار مھنة أو حرفة تشعرك بالبھجة
بشكل عميق، بحيث لا تضع فاصلا بين العمل والمتعة . يجب أن تأتي متعتك من إتقان عملية التعلم ذاتھا والانغماس العقلي الذي تتطلبه.
كانت معظم الأعمال المتاحة في منطقة الجوار ذات مردود منخفض ونوع من العمل المتواضع الذي لا يؤدي إلى مھارات حقيقية . حتى الاحتيال ھو في الواقع عمل مضجر ولا يعتبر طريقا ذو مستقبل . ازاء ھذا الواقع ، يتجه الناس إلى أحد طريقين ، أما أن يتطلعوا للھروب من ھذا الوضع من خلال المخدرات ، الكحول ، أنشطة العصابات ، و كل ما يمكنه أن
يوفر المتعة الفورية . أو قد يستطيعوا الخروج من ھذه الدائرة عن طريق تطوير عمل مكثف ، منضبط و ذو مصداقية.
النوع الذي يسير في الاتجاه الثاني لديه جوع عميق للقوة وحس الاستعجال  ان القفز على أعقابھم في كل الحالات يشكل احتمالا لحياة من الأعمال الوضيعة أو الملھيات الخطرة ، لذا فھم يعلمون أنفسھم الصبر والتدرب على شيء ما . إذ إنھم تعلموا في وقت مبكر من خلال أعمالھم أو من الاحتيال ، أن يتحملوا الوقت الطويل الممل واللازم لإتقان عمل ما . فھم لا
يعاقرون الخمر أو يبحثون عن الھروب من ھذا الواقع ، بل يرونه كوسيلة نحو الحرية.
أولئك منا الذين لم ينشأوا في مثل ھذه البيئة ، لا يشعرون بھذه العلاقة الھامة بين الانضباط والقوة. فأعمالنا ليست مملة جدا  ، وقد تقودنا يوما ما إلى شيء جيد فعلا أو ھذا ما نعتقده . كما نمينا في أنفسنا بعض الانضباط في المدرسة أو العمل وھو بالنسبة لنا كاف . إلا أننا في الحقيقة نخدع أنفسنا ، فأعمالنا في معظم الأحيان ھي شيء نتحمله ، حيث نعيش من أجل أوقاتنا
خارج العمل ونحلم بالمستقبل . فنحن لسنا مرتبطين بالنشاط اليومي في العمل بكامل قوانا الذھنية ، لأنه ليس ممتعا كالحياة خارجه . و نبدي تحملا أقل فأقل للحظات الملل والأنشطة المتكررة . إذا حدث أن خسرنا وظائفنا أو رغبنا في شيء آخر ، نواجه فجأة حقيقة أننا لا نمتلك الصبر اللازم لصنع التغيير الملائم . قبل أن يفوت الأوان ، علينا أن نستيقظ وندرك أن القوة الحقيقية والنجاح يتحققان من خلال إتقان عملية التعلم ، والتي تستند إلى قاعدة من الصبر الذي يجب أن نقويه باستمرا ر.
تمارس الشخصيات الجريئة في التاريخ لا محالة في حياتھا صبرا أعلى من معظمنا على المھمات المملة والمتكررة ، مما يتيح لھم الإبداع في مجالاتھم وإتقان مھنھم . يأتي بعض ذلك من رؤيتھم مبكرا النتائج الملموسة المترتبة على ھذه الصرامة والصبر في الحياة . في ھذا السياق ، توضح لنا قصة إسحاق نيوتن بشكل خاص ھذا الأمر . في بداية عام 1665 كان طالبا في جامعة كمبردج في الثالثة والعشرين من عمره وعلى وشك أداء إمتحاناته ليكون عالم رياضيات ، حينھا تفشى الطاعون فجأة في لندن . كانت الوفيات مروعة وتتضاعف يوميا ، و ھرب الكثير من سكان لندن إلى الريف حيث نشروا الوباء على نطاق أطول وأوسع . بحلول الصيف ، أجبرت كمبردج
على الإغلاق وانتشر طلابھا في كل مكان من أجل سلامتھم. بالنسبة لھؤلاء الطلاب ، لا شيء يمكن أن يكون أسوأ من ذلك .إذ ارغموا على العيش في قرى متفرقة و اختبار الخوف الشديد والعزلة طوال العشرين شھرا التالية . وباشتداد الطاعون في أنحاء انجلترا ، لم يعد لدى عقولھم النشطة شيء
لتتعلمه والعديد منھم كادوا يصابون بالجنون بسبب الملل . أما نيوتن فقد أظھرت له أشھر الطاعون على الرغم من ذلك شيئا مختلفا كليا . حيث عاد إلى منزل والدته في وولسثورب لينكولنشاير . كان قد انشغل في كامبردج بسلسلة من المشكلات الرياضية التي لم تزعجه ھو فقط ، بل كذلك أساتذته. لھذا السبب حمل معه عددا كبيرا من كتب الرياضيات التي جمعھا  ، وقرر أن يدرسھا بالتفصيل الدقيق . أخذ يراجع ذات المشكلات يوما بعد آخر ، مالئا دفاتر الملاحظات بحسابات لا حصر لھا.
عندما تصبح السماء صافية ، كان يتجول في الخارج ويواصل ھذه التأملات أثناء جلوسه في بساتين التفاح المحيطة بالمنزل .أخذ ينظر إلى تفاحة معلقة بغصن ، حجمھا في عينيه كان مساويا للقمر في الأعلى ، وتأمل العلاقة بين الإثنين ، الشيء الذي يحمل الأولى على الشجرة و يحمل الآخر في مدار الأرض ، مما قاده إلى أفكار بشأن الجاذبية . حدق في الشمس وتأثيرھا البصري على كل شيء حوله ، وبدأ يقوم بتجاربه الخاصة على الحركة وعلى خصائص الضوء ذاته . عندئذ تدفق عقله تلقائيا بمشكلات علم الھندسة وعلاقتھا كلھا بالحركة والميكانيكا.
كلما تعمق أكثر في ھذه الدراسات ، استطاع رؤية العلاقات بشكل أوضح وتكونت لديه انطباعات مفاجئة . قام بحل المشكلة تلو الأخرى ، وكان حماسه و دافعيته يتسارعان عند إدراكه للقوى التي يطلقھا بداخله . بينما كان الآخرين عاجزين بسبب الخوف والملل ، أمضى ھو العشرين شھرا بأكملھا دون فكرة عن الطاعون أو قلق بشأن المستقبل . كما وضع في ھذا
الوقت أيضا أساس الرياضيات الحديثة ، الميكانيكا والبصريات .
تعتبر الفترة المذكورة ، ھي الأكثر غزارة وتركيزا من التفكير العلمي في تاريخ البشرية . يمتلك إسحاق نيوتن بالطبع عقلا فريدا ، ولكن لم يشك أحد في كامبردج من قبل بوجود ھذه القوى الذھنية عنده . لقد استغرق ھذه المدة من العزلة الاجبارية والعمل المتكرر من أجل تحويل نفسه إلى عبقري.
عندما ننظر إلى أولئك الذين برزوا في التاريخ ، نميل إلى التركيز على إنجازاتھم ، حيث يسھل لنا من ھذه الزاوية أن نكون مبھورين ونرى أن نجاحھم ناتج عن عبقرية أو ربما بعض العوامل الإجتماعية . أنھم موھوبين ، ويصعب علينا بلوغ مستواھم أو ھذا ما نعتقده . ولكننا نختار تجاھل الفترات الصعبة في حياتھم ، عندما خضع كل واحد منھم لفترة تدريب
قاسية و مملة في مجالاتھم . ما جعلھم يستمرون ھو القوة التي اكتشفوھا سريعا من خلال إتقان خطوات معينة . كما ترد إلى اذھانھم انطباعات مفاجئة تبدو كالعبقرية بالنسبة لنا ، إلا أنھا في الواقع جزء من أي عملية تعلم مكثفة.
إذا اقتصرنا على دراسة ذلك الجزء من حياتھم و المعاكس للأسطورة التي يكونوا عليھا لاحقا ، سندرك أنه باستطاعتنا نحن أيضا الحصول على بعض أو كل تلك القوة بواسطة الانغماس البطيء في أي حقل للدراسة . لا يمكن للكثير من الناس التعامل مع الملل الذي يستتبع ھذه العملية ، فھم يخشون البدء بھذه العملية المضنية مفضلين عليھا ملھياتھم ، أحلامھم ، و أوھامھم ، غير واعين بالمتعة العليا الموجودة ھناك لأولئك الذين اختاروا إتقان أنفسھم ومھنھم.

0 التعليقات: