15‏/03‏/2021

تأمل يوما بعد يوم 9

 تأمل يوما بعد يوم 9


الفصل السابع


أن نُدرِّب انتباهَنا كي نزيد حدَّة وعْيِنا

حافِظ على جسدك ساكنًا.

حافِظ على الصمت.

لا تلجم أفكارك؛ دعها تأتي.

ودع وعيك يتحرر.

في حال من الاسترخاء الكامل.

بوصولك إلى هذه النقطة، يختفي تعلُّقك بالتأمل، أو بعدَم التأمل.

ولا تصير الروح المُتحرِّرة من كل التوجيهات العقلية سوى وعي صافٍ، واسع وشفَّاف.

 

الوعي

لتبسيط الأمر نقول إنه تُوجَد ثلاثة مستويات من الوعي.

الأول: هو ما ندعوه بالوعي الأوَّلي، الذي هو مجموع انطباعاتنا وأحاسيسنا.

إنه نوع من الوعي الحيواني (وَعْي ما قبل النُّطق عند الطفل)، الذي يُساعِدنا على التأقلُم مع العالم المُحيط. على سبيل المثال، إنه ذلك الوعي الذي يجعلك تُدرِك، في ذات الوقت الذي تقرأ فيه هذه السطور، جسدَك، والأصوات التي تصل إليك، والحركات المحيطة بك، إلى آخره.

المستوى الثاني :هو وَعْي الهوية الذي يُعبِّر عن وعينا لذواتنا نتيجةً عن انطباعاتها.

إنه الوعي الذي يُساعِدنا على إجراء تحليلٍ شمولي لما نعيشه، وإدراك أن كل هذه الأحاسيس

هي عائدة لنا.

المستوى الثالث: هو ذلك الوعي الرُّؤيوي القادر على أخْذ مسافة عن هذه  الذات ومراقبة آلياتها. إنه الوعي الذي يُساعِدنا على الفهم والتفكير؛ إنه هو الذي يقودنا لكي نُدرِك أنَّنا كنَّا أنانيِّين جدٍّا، أو أنَّنا بدأنا نغضب أو أنَّنا نقلق.

 

ماذا عن الوعي الكامل؟ أين موقعه من كلِّ هذا؟

 لنقُل إن ممارستَهُ تدمج  المستويات الثلاثة بشكلٍ كامل؛ الوعي الأوَّلي ذو الأهمية البالِغة لأنه يُؤمِّن لنا شكلًا من الإدراك والتأقلُم مع الظواهر الجسدية والعاطفية، والوعي الذاتي الذي هو نقطة الانطلاق لمراقبة تسلسُل أفكارنا، والوعي الرُّؤيوي الذي يسمح لأذهاننا أن تنفصِل وتتحرَّر من حركية العقل الذاتية.

الانتباه

يقول ويليام جيمس( أحد مُؤسِّسي علم النفس الحديث، والذي كان رائدًا في دراسة الوعي والانتباه) : الانتباه :هو استحواذ الذهن، بشكلٍ واضح وفعَّال، على شيءٍ أو على فكرة من

مجموعة أفكار حاضرة في ذات الوقت إنه يقوم بإبعاد مواضيع مُعيَّنة بهدف معالجة

مواضيع أخرى بشكلٍ أكثر فعالية

الانتباه هو الأداة الأساسية للوعي؛ لا انتباه يعني لا وعي. هذا بلا شك هو السبب

الذي يجعل الجملة التي يُكرِّرها مُرشِدو التأمُّل كثيرًا هي الآن، ركِّزوا بهدوءٍ انتباهَكم علي...

ولكن الانتباه والوعي هما كيانان مُختلفان. في الانتباه نحن نستبعِد ما لا يُهمُّنا، بينما في الوعي، نحن نتلقي.  يقوم الانتباه بعملية استبعاد، بينما الوعي يقوم باحتواء.

إنها على سبيل المثال مشكلة القلق والكآبة، اللذَين هما بشكل من الأشكال من اضطرابات الانتباه؛ فنحن لا نُعِير انتباهنا سوى لِمصادر همومنا، ونستبعِد الباقي. لذلك سيُوفِّر لنا استدعاء الوعي الكامل حلٍّا مُمكِنًا من أجل معالجة هذا الانتباه المريض؛ بأن نُوسِّع حقل انتباهنا في اللحظات التي نشعُر فيها بالحزن أو القلق.

 

 

 

نوعية الانتباه

الوعي التحليلي: هو ذلك الوعي الذي نستخدمه عندما نُركِّز على حلِّ مشكلةٍ ما، رياضية.

يعمل عندها ذكاؤنا بطاقته القصوى، وتتسلسل أفكارنا، وتتطوَّر مُحاكمتنا، ونقوم بتحليل أسباب ونتائج المشكلة بدقة.

أما الانتباه المغمور فإنه يكون في مستوًى آخر؛ إنه يجعلنا ننسى ما نُفكِّر به أو ما نفعله. الانتباه المغمور يمكن أن يتعلق بأنشطةٍ بسيطة؛ أن نكون مأخوذين بفيلم مُثير، أو بإيقاع خطواتنا أثناء الجري. ولكنه يتعلق أيضا بأمورٍ أكثر تعقيدًا؛ هبوطُ منحدرِ تزلُّج، العزف على آلة موسيقية، أو الاستغراق في مسألةٍ فكرية. في كلِّ هذه الحالات، نكون مُنتبِهين بشكلٍ كامل إلى ما نقوم به وإلا سوف نسقُط، أو نعزف نغمةً خاطئة، أو سنكون بشكلٍ دائم مُشتَّتين عمَّا نقوم به. حين نكون

في حالةٍ من الانتباه الذي ندعوه مغمورًا نكون حاضرين بشدَّة لما نقوم به حيث نكون ، داخله بشكلٍ كامل، دون الحاجة إلى التفكير أو تحليل ما يحدُث.

كلما ازداد اتِّساع انتباهنا وانغماره، اقتربنا من حالة الوعي الكامل؛ إنه حضور مُكثَّف ومُنفتِح، ليس ذهنيٍّا فقط وإنما عامٍّا (مُحتويًا كامل جسدنا) للتجربة التي نعيشها لحظةً بلحظة.

 

تدريب الانتباه للحفاظ على الوعي

 

إن القُدرة على إعادة توجيه انتباهنا الذي يتشتَّت طوال الوقت، بشكل طَوعي، تُشكِّل أساس الحكم، والشخصية والإرادة.

لا يكتمل الشخص الذي لا يملك هذه القُدرة

إن هذه القدرة على جعل انتباهنا حاضرًا هي في الحقيقة قاعدة أساسية لفعاليتنا العقلية كما لصحَّتِنا النفسية، خصوصًا أن طُرُق حياتنا المُعاصرة تنحو إلى إضعافها وإفقارها؛ إننا نتطوَّر أكثر فأكثر في بيئاتٍ مسمومة نفسيٍّا إنها تُشتِّت انتباهنا عن طريق فرْض مُؤثِّرات مُتعدِّدة (إعلانات الراديو أو التلفزيون أو التدفُّق المُستمِر للبريد الإلكتروني أو الرسائل القصيرة)، ومن خلال تقديم مُغرِيات كثيرة وجذَّابة (التزايد الخطير، مثلًا، في السينما كما في التلفزيون، في عدد الصور في الدقيقة الواحدة).

المشكلة هي أن عقلَنا يميل أصلًا إلى هذا الاتجاه، نحو التسلية والتشتُّت. إن أرواحنا تُؤخَذ

بالصخب والسهولة، كما تميل أذواقنا نحوَ الطعم الحلو أو المالح فقط.

 

الدرس السابع

إن تدريب انتباهنا لهو في صميم ممارسة الوعي الكامل. اجلِسوا، ركِّزوا على تنفُّسكم، راقِبوا كيف تُغادِر أفكاركم بعيدًا، وعُودوا إذن بانتباهكم إلى تنفُّسكم. مرة، عشر مرات، مئات المرات. لقد احتجتُم إلى المئات من الخطوات قبل أن تتعلموا المشي، وأنتم تقومون الآن بمئات الخطوات للحفاظ على هذه القدرة. إنه ذات الأمر فيما يخصُّ قدرات الانتباه؛ فإذا كنتم تعيشون في حالة تشتُّت وتستمتعون بالاستجابة للمُغرِيات، أو المُضِيِّ هنا وهناك، تاركين انتباهكم يتبَع كلَّ ما يُضيء وكلَّ ما يُصدِر صوتًا، ستصير قدراتكم فقيرةً جدٍّا.

0 التعليقات: