قوانين الطبيعة البشرية 36
التفسیر: كان جون بلانت رجل أعمال واقعیا بارعًا، وكانت له غایة وحید؛ هي أن یصنع ثروة لنفسه ولعائلته لا تزول، لكن في صیف سنة 1719 كان هذا الرجل الواقعي للغایة یصاب بحمى من نوع ما، فعندما بدأ یقرأ عما یجري في باریس أدهشته إثارةُ ما حصل فیها، فقد قرأ قصصًا زاهیة عن نبلاء فرنسیین من أوسطهم حالًا أصبحوا من أصحاب الثروات، ولم یدر بخلده قبل ذلك أن الاستثمار في الشركات المساهمة یمكن أن یثمر عن نتائج سریعة كتلك التي حصلت في فرنسا، إلا أن البرهان الساطع الذي رآه في فرنسا كان حجة لا مراء فیها، فأراد أن یجلب على إنكلترا ثروات وخیرات مشابهة، وبنى خطته طبعًا على تقلید كثیر من سمات مشروع (لو)، وزاد في مداه.
لكن ما یصدمك هنا أن هناك سؤالًا واضحًا جدا بدا أنه لم یخطر له على بال؛ فمشروعه یعتمد على زیادة أسعار الأسهم؛ فإذا توجب على من حولوا دیونهم للحكومة إلى أسهم أن یدفعوا 200 جنیه إسترلیني سعرًا للسهم الواحد بدلًا من 100 جنیه إسترلیني فستنقص حصتهم من الأسهم؛ وبذلك یزداد عدد الأسهم التي یمكن لشركة البحر الجنوبي بیعها للعامة وكسب أرباح جیدة منها، ولو أن الأسهم بیعت بسعر 200 جنیه إسترلیني للسهم الواحد لاستمرت أسعارها بالارتفاع وكانت قیمتها أكبر منها في حالة بیع السهم الواحد ب 100 جنیه إسترلیني، فتباع في مرحلة لاحقة، وسیزداد عدد المؤتمِنین عندما یرون الأسعار ترتفع، وسیحوِّلون الأسهم إلى نقود، وسیأتي المزید من الناس لشراء الأسهم. والجمیع رابح إذا استمرت الأسعار بالصعود، لكن كیف یمكن للأسعار أن تستمر بالارتفاع، ولیس ثمة ما تعتمد علیه من أصول حقیقیة؛ من قبیل التجارة مثلًا؟
فإذا أخذت الأسعار بالهبوط، وهو أمر حتمي، فسیسود الذعر ولا ریب؛ لأن الناس سیفقدون الثقة بالمشروع، وسیطلق ذلك سلسلة ردود أفعال من عملیات البیع، فكیف لم یتنبأ بلانت بذلك؟!
والجواب هنا بسیط: لقد تقلص الأفق الزمني في ذهن بلانت، إلى درجة فقد فیها القدرة على رؤیة أحداث الأشهر القادمة، وفقد القدرة على حساب العواقب. فافتتانُه بالأحداث الجاریة في فرنسا، وتخیُّلُه للثروة والنفوذ اللذین كان یوشك على الوصول إلیهما، جعلاه یضع اهتمامه في اللحظة الآنیة وحسب، فیحرص على إطلاق المشروع بصورة ناجحة، وبناءً على نجاحه المبدئي وحسب، تخیل أن الأمر سیسیر على هذا النحو لوقت طویل.
ومع تقدم المشروع لا شك أنه فهم أن علیه أن یجعل الأسعار ترتفع بصورة أسرع وأسرع، وكانت الوسیلة الوحیدة لتحقیق ذلك هي إغواء المستثمرین، عن طریق شروط الائتمان السخیة، إلا أن ذلك زاد في ترنُّح مشروعه، فقد كان ذلك حلا واحدًا تتبعه أخطار جدیدة، وكان لمرسوم الفقاعة والأرباح السخیة على الأسهم، أخطار آنیة أعظم من كل ما سبقها، لكن أفقه الزمني كان قد تقلص إلى بضعة أیام لا أكثر، فكان یرى أنه لو یستطیع أن یبقي السفینة عائمة أي یبقي المشروع مستمرا أسبوعًا آخر فإنه سیجد حلا جدیدًا. وفي النهایة، نفد منه الوقت كله.
فعندما یفقد الإنسان الرابط بین تصرفاته وعواقبها فإنه یخسر إدراكه للواقع، وكلما أوغل في ذلك كان أمره أشبه بالجنون، والجنون الذي سیطر على بلانت سرعان ما انتقل بالعدوى إلى الملك، والبرلمان، ووصل في النهایة إلى أمَّةٍ بأكملها من المواطنین الذین عرفوا بسلامة التفكیر؛ فحالما رأى الإنكلیز منافسیهم یجمعون مبالغ ضخمة من المال، أصبح نجاح المشروع في نظرهم حقیقة لا مراء فیها، كذلك فقدوا القدرة على النظر في الأشهر القلیلة المقبلة، وانظر إلى ما جرى مع إسحق نیوتن، القدوة في العقلانیة؛ ففي البدایة انتقلت إلیه حمَّى المشروع، لكنه بعد أسبوع استطاع عقله المنطقي أن یرى ثغرات في المشروع، فباع أسهمه فیه. ثم شاهد الآخرین یجمعون من المال أكثر من المبلغ الزهید الذي جمعه؛ 14 ألف جنیه إسترلیني؛ فأزعجه ذلك. وفي شهر آب/أغسطس كان لزامًا علیه في نظره أن یعود إلى المشروع مع أن ذلك الوقت كان حتمًا أسوأ وقت للعودة إلى الاستثمار في المشروع. فحتى إسحق نیوتن نفسه، فقدَ القدرة على التفكیر فیما سیأتي وراء یومه. ویصف ما جرى مصرفيٌّ هولندي، راقب المشهد في حي البورصة فقال إنه أشبه بفرار المجانین من مستشفى المجانین، في لحظة واحدة.
الاستنتاج: یمیل البشر إلى أن یعیشوا اللحظة الآنیة التي هم فیها، وذلك هو الجزء الحیواني من طبیعتهم، فیستجیبون أول ما یستجیبون إلى ما یرونه ویسمعونه، إلى ما فیه إثارة كبیرة في الأحداث الجاریة، إلا أنهم لیسوا مجرد حیوانات مقیدة بالزمن الحاضر؛ بل یشمل الواقع عند البشر الماضي أیضًا؛ فكل حدث یرتبط بشيء حدث آنفًا في سلسلة لا تنتهي من السببیة التاریخیة.
وأي مشكلة في الزمن الحاضر لها جذور عمیقة في الماضي ویشمل الواقع عند البشر أیضًا المستقبل؛ فأي شيء یفعله البشر له عواقب تمتد إلى سنوات مقبلة.
وعندما یحدُّ البشر تفكیرهم بما تقدمه لهم إحساساتهم، أي بما هو آني یجري في اللحظة التي یعیشونها فإنهم ینحدرون إلى مستوًى حیواني بحتٍ، تلغى فیه قدراتهم على الاستدلال والمنطق، ولا یعودون یدركون لماذا تحدث الأشیاء، ولا كیف تحدث.
ویتصورون أن مشروعًا ناجحًا دام لبضعة أشهر، لن یكون مصیره إلا المزید من النجاح. ولا یعودون یفكرون في العواقب المحتملة لأي شيء یتورطون فیه؛ بل هم یستجیبون لمعطیات اللحظة الآنیة؛ معتمدین على قطعة صغیرة من الصورة الكبیرة؛ وستقودهم أعمالهم بصورة طبیعیة إلى عواقب لم تكن في حسبانهم، أو حتى إلى كوارث ماحقة؛ ككارثة انهیار شركة البحر الجنوبي؛ وحدیثًا كارثة الانهیار المالي في سنة 2008.
ومما یزید الأمور تعقیدًا أننا محاطون بآخرین یدأبون على الاستجابة برد الفعل، فیزیدون في جذبنا إلى الزمن الحاضر، ویستغل موظفو المبیعات، ومثیرو الدهماء (الدیماغوجیون)نقطة الضعف هذه في الطبیعة البشریة؛ لیخدعونا بالأمل في مكاسب سهلة وترضیات فوریة. والتریاق الوحید أمامنا، هو أن ندرب أنفسنا على النأي باستمرار عن الاندفاع الآني للأحداث، ونرتفع بنظرتنا؛ فبدلًا من مجرد الاتكاء على ردود الأفعال، علینا التریث والنظر في السیاق الواسع للأحداث، وعلینا أن نأخذ في حسباننا العواقب المختلفة المحتملة لأي تصرف نقوم به، وعلینا ألا ننسى أهدافنا البعیدة؛ فإذا ارتفعنا بنظرتنا، فإننا غالبًا ما نقرر أن الأفضل ألا نفعل شیئًا، ألا نستجیب برد فعل، ونتركَ الوقت یمضي، وننظرَ فیما یتكشف عنه؛ فلو أن بلانت انتظر بضعة أشهر وحسب، لرأى مشروع (لُو) یتداعى، ولتجنبت إنكلترا الخراب الذي حصل عقبه، ولا یتأتى هذا السداد والاتزان للمرء بصورة طبیعیة؛ فالسداد والاتزان قوتان لا نظفر بهما إلا ببذل جهد عظیم، وتمثلان قمة حكمة الإنسان.
یمكنني أن أحسب حركة الأجسام الثقیلة، لكن لا یمكنني أن أحسب جنون الناس.
إسحق نیوتن
0 التعليقات:
إرسال تعليق