قوانين الطبيعة البشرية 35
6
ارتفع بنظرتك
(قانون قصر النظر)
في الجزء الحیواني من طبیعة البشر تراهم یتأثرون بما یرونه ویسمعونه في الوقت الراهن؛ من آخر التقاریر الإخباریة والتوجهات السائدة، إلى أقوال وأفعال الناس من حولهم، إلى أي شيء تبدو فیه الإثارة، وهذا ما یجعلك تقع فریسة مكائد الإغواء التي تعدُك بالنتائج السریعة والكسب السهل؛ وهذا ما یجعلك أیضًا تبالغ في ردود أفعالك، وتهتاج مع الظروف الحالیة، فتفرط في بهجتك أو ذعرك إذا سارت الأحداث في اتجاه ما؛ فلتتعلم أن تقیس الناس بما عندهم من ضیق الرؤیة أو اتساعها؛ وتجنب توریط نفسك مع من لا یستطیعون رؤیة عواقب أفعالهم، الذین یكونون في وضع رد الفعل باستمرار، فأولئك ینقلون إلیك عدوى الطاقة التي عندهم، ولتكن عیناك مفتوحتین على التوجهات الكبیرة التي تحكم الأحداث، وعلى ما لا یمكن رؤیته على الفور، وإیاك أن تفقد رؤیتك لأهدافك البعیدة، فإذا ارتفعت بنظرتك فسیكون عندك من الصبر والوضوح ما یلزمك للوصول إلى أي هدف تریده تقریبًا.
لحظات من الجنون
طیلة فصل الصیف وأوائل الخریف في سنة 1719 ، كان النبیل الإنكلیزي جون بلانت
وهو واحد من المدیرین المقدَّمین في شركة البحر الجنوبي، كان یتتبَّع آخر الأخبار القادمة من باریس؛ بقلقٍ یزداد ، فقد كان الفرنسیون یعیشون في رخاء اقتصادي مذهل، یدعمه في المقام الأول نجاح شركة المسیسیبي؛ وهي شركة بدأت على ید المنفيِّ عن بلده (إنكلترا) النبیل الاسكتلندي (جون لُو)هدفها ،استغلال أموال الأثریاء في أراضي لویزیانا (في أمریكا) التي یحكمها الفرنسیون. وباع (جون لو) أسهمًا للشركة، وكانت أسعارها في ارتفاع مستمر، فكان النبلاء الفرنسیون
من جمیع طبقاتهم یجمعون الثروات من ذلك، وأصبحوا من أصحاب الثراء الفاحش، حتى إن كلمة ملیونیر صیغت في تلك الأشهر للإشارة إلى أولئك الأغنیاء حدیثي
الثروة.
لقد كانت تلك الأخبار تُشعِر جون بلانت بالغضب والحسد، فقد كان نبیلًا إنكلیزیا مخلص الولاء لبلده، ومع نجاح شركة المسیسیبي، كانت باریس تجتذب رؤوس الأموال الاستثماریة من كل أنحاء أوروبا، وإذا استمر ذلك فلن یمضي وقت طویل قبل أن تصبح فرنسا مركز رأس المال التمویلي في العالم؛ متفوقةً على أمستردام ولندن، وهذه القوة الناشئة حدیثًا في فرنسا لن تكون إلا مصدر كارثة تحل بإنكلترا عدوِّها اللدود؛ وبخاصة إذا اندلعت بینهما حرب جدیدة.
أما من الناحیة الشخصیة فكان جون بلانت رجلًا من أصحاب الطموحات الكبیرة؛ فقد كان ابن صانع أحذیة متواضع، ومنذ مقتبل عمره كان طموحه الصعود إلى أعلى مراتب المجتمع الإنكلیزي، وكان یعتقد أن وسیلته لبلوغ ذلك هي إحداث ثورة مالیة تكتسح أوروبا، عِمَادُها زیادة رواج الشركات المساهمة؛ على غرار شركة (جون لو)، وشركة (البحر الجنوبي)؛ فعلى نقیض جمع الثروات بالاعتماد على وسیلة امتلاك الأراضي التقلیدیة؛ وهي وسیلةٌ یتطلب الوصول إلیها تكالیف باهظة ناهیك عن ضرائبها المرتفعة؛ كانت هذه الوسیلة سهلة نسبیا لكسب المال عن طریق شراء الأسهم، وكانت أرباحها معفاةً من الضرائب، وكانت هذه الاستثمارات رائجة جدا في لندن، فخطَّط بلانت لجعل شركة البحر الجنوبي أضخم الشركات المساهمة، وأكثرها أرباحًا في أوروبا، إلا أن (لُو) استلب منه الأضواء بمشروعه المجازف الذي قدَّمت له الحكومة الفرنسیة كل دعمها، ولم یكن أمام بلانت إلا أن یأتي بشيء أضخم مما جاء به (لو)،
وأفضل منه؛ وذلك لمصلحته ولمستقبل إنكلترا.
وكانت شركة البحر الجنوبي قد أنشئت سنة 1710 ، لتكون شركةً تعالج جزءًا من الدیون الضخمة الواقعة على الحكومة الإنكلیزیة، وتعمل على إدارته؛ مقابل حصول الشركة على احتكار التجارة الإنكلیزیة كلها مع أمریكا الجنوبیة، وعلى مر السنین لم تقم الشركة بأي تجارة تقریبًا؛ بل كانت تعمل عمل مصرف غیر رسمي للحكومة، ونتیجة قیادة بلانت للشركة بنى لنفسه علاقات مع الصفوة من أصحاب الغنى والنفوذ بین النبلاء الإنكلیز،
وكان أبرزهم الملك جورج الأول ( 1660-1727)نفسه الذي أصبح واحدًا من أكبر المستثمرین في الشركة، وجرت تسمیته محافظًا للشركة، وكانت شعار بلانت في الحیاة دائمًا: الأفكار الكبیرة، وقد أفاد منه غایة الإفادة. وهكذا، ومع إعمال بلانت فكره لإیجاد طریقة للتفوق على الفرنسیین انتهى أخیرًا إلى رسم مشروع في شهر تشرین الأول/ أكتوبر سنة 1719 یحقق شعاره؛ ورأى فیه بلانت مشروعًا سیغیر مسار التاریخ لا محالة.
وكانت أعظم مشكلة تواجه الحكومة الإنكلیزیة التي یترأسها الملك هي الدیون الهائلة التي تجمعت علیها على مدار ثلاثین سنة من الحروب التي واجهت فیها فرنسا وإسبانیا؛
فقد تم تمویل تلك الحروب كلها بالاقتراض، وكان اقتراح بلانت بسیطًا وصاعقًا تمامًا؛ حیث تدفع شركة البحر الجنوبي رسومًا جیدة للحكومة مقابل أن تتحمل الشركة أمر معالجة دیونها التي تقدر بمبلغ 31 ملیون جنیه إسترلیني، ومقابل ذلك تأخذ الشركة فائدة سنویة على الدَّین، وتقوم الشركة بعد ذلك بخصخصة هذا الدَّین الضخم، وتبیعه وكأنه سلعة؛ على صورة أسهم في شركة البحر الجنوبي، وكل سهم یساوي 100 جنیه إسترلیني من الدَّین؛ فالذین أقرضوا الحكومة یمكنهم تحویل سندات دیونهم إلى ما یكافئها من أسهم في شركة البحر الجنوبي، وما یتبقى من أسهم بعد ذلك سیجري بیعه للعامة.
وبدأ سعر السهم الواحد من 100 جنیه إسترلیني؛ وكحال أسهم الشركات فإن سعر السهم معرض للارتفاع والهبوط، لكن في حالة هذه الأسهم -وإذا جرى ضبطها بصورة صحیحة- فإن سعر السهم سیكون معرضًا للارتفاع وحسب، وكان اسم شركة البحر الجنوبي اسمًا آسرًا یثیر الاهتمام؛ وكان یبشر بإمكانیة أن تبدأ الشركة أیضًا بالتجارة بالثروات الطائلة في أمریكا الجنوبیة، كذلك فقد كان الواجب الوطني یفرض على المقرضین الإنكلیز المشاركة في هذا المشروع؛ لأنهم بذلك یساعدون في إلغاء الدین عن الحكومة، مع احتمال جمعهم أموالًا أكثر من الفوائد السنویة التي كانت تدفعها الحكومة لهم، فإذا ما ارتفع سعر السهم، وهو أمر كان مؤكدًا تقریبًا فإن مِن المساهمین
مَن سیبیع أسهمه لیربح فیها، ومنهم من سیجتني حصصًا جیدة من الأرباح السنویة یتسنى للشركة أن تقدمها لهم، وبطریقة أشبه بالسحر، ستتحول الدیون إلى ثروات.
وسیكون في ذلك حل جمیع مشكلات الحكومة، وسیكفل لبلانت صِیتًا یدوم دوام الدهر.
وعندما سمع الملك جورج مقترَح بلانت لأول مرة في تشرین الثاني/نوفمبر 1719أصابه ارتباك شدید، فلم یستطع أن یفهم كیف أن یكون لمبلغ سلبي أي الدَّین أن یتحول من فوره إلى مبلغ إیجابي أي الأرباح، أضف إلى ذلك أنه لم یستوعب هذه اللغة المالیة الجدیدة على الإطلاق؛ إلا أن بلانت كان یتحدث باقتناع كبیر، وألفى نفسه منساقًا وراء حماسته، وفي نهایة الأمر وعد بأنه سیحل المشكلتین الكبیرتین اللتین یواجههما الملك جورج برمیة واحدة؛ فصعب على الملك جورج أن یضرب صفحًا عن ذلك الاحتمال.
ولم یكن الملك جورج محبوبًا كثیرًا بین شعبه؛ بل لعله من أقل ملوك إنكلترا شعبیةً في التاریخ، ولم یكن ذلك ذنبه تمامًا: فهو لم یولد على الأراضي الإنكلیزیة؛ بل ولد في الأراضي الألمانیة، وكان لقبه قبل أن یصبح ملكًا هو: دوق برونزویك وأمیر هانوفر
وعندما ماتت الملكة (آن) ملكة إنكلترا في سنة 1714 كان جورج أقرب أقربائها الأحیاء إلیها من أتباع المذهب البروتستانتي، لكنه في اللحظة التي اعتلى فیها العرش لم یرق لرعیته الجدیدة، فقد كان یتحدث اللغة الإنكلیزیة بلهجة مریعة؛ وكان سلوكه فظا جدا؛ وكان دائمًا یطمع بالمزید من الأموال، وعلى الرغم من تقدمه في العمر حیث كان في الرابعة والخمسین من عمره فقد كان یلاحق النساء باستمرار، ویترك زوجته، ولم تكن أيٌّ منهن ذات جاذبیة ممیزة، وفي السنوات الأولى لحكمه جرت بضع محاولات للإطاحة به، ولعل الناس كانوا سیرحبون بالتغییر الذي كان سیحصل لو نجحت تلك المحاولات.
وقد أراد جورج بشدة أن یثبت لرعایاه الجدد بأنه یمكن أن یكون ملكًا عظیمًا؛ بطریقته الخاصة، وكان أكثر ما یكرهه هو الدیون الساحقة التي تحملتها الحكومة قبل صعوده على العرش، فكان لدى جورج ما یشبه الاستجابة التحسسیة تجاه أي نوع من أنواع الدیون؛ فكان یراها كأنها تمتص دمه.
وها قد جاء بلانت إلیه الآن، وهو یعرض علیه فرصة إلغاء الدیون، وجلب الازدهار والرخاء لإنكلترا؛ فیزید بذلك قوة الحكم الملكي، وكان الأمر صعب التصدیق إلى حدٍّ بعید، لكن الملك رمى بثقله دعمًا لمقترح بلانت. وأسند إلى مستشار الخزانة (جون إیزلابي) مهمة تقدیم المقترح إلى البرلمان في كانون الثاني/ینایر 1720 ، وكان على البرلمان إقراره بصورة قانون، وعلى الفور تقریبًا، أثار مقترح بلانت اعتراضات حادة بین عدد من أعضاء البرلمان الذین رأى فیه بعضهم اقتراحًا یثیر السخریة، لكن في الأسابیع التي تلت خطاب إیزلابي في البرلمان بدا معارضو القانون مستائین مع تلاشي التأیید لهم شیئًا فشیئًا، وتم منح أسهم في المشروع مسبقًا قبل إقراره على صورة هدایًا للأثریاء وأصحاب النفوذ من النبلاء الإنكلیز، ومنهم أعضاء بارزون في البرلمان؛ وقد أعطوا موافقتهم على القانون نتیجة إحساسهم بالأرباح المتیقَّنة التي یمكنهم كسبها على الصعید الشخصي.
وبعد أن تم إقرار القانون في شهر نیسان/ أبریل من تلك السنة حضر الملك جورج بنفسه إلى مقر شركة البحر الجنوبي ودفع مبلغ مئة ألف جنیه إسترلیني مقابل أسهم في المشروع الجدید، فقد أراد أن یبدي ثقته بالمشروع؛ إلا أنه تكاد لا تكون ثمة حاجة إلى ذلك التحرك؛ لأن عملیة إقرار القانون أخذت بألباب الناس، وبلغت حمى اهتمامهم بأسهم شركة البحر الجنوبي آنذاك ذروتها، وكان مركز النشاط یقع في منطقة في مدینة لندن تدعى حي البورصة؛ حیث كانت جمیع أسهم الشركات تقریبًا تباع وتشترى هناك، وغدت الطرقات الضیقة في الحي، والطرق المحیطة به، تعج بازدحام شدید یزداد یومًا بعد یوم.
وفي البدایة، كانت غالبیة القادمین لشراء الأسهم من أصحاب الثروة والنفوذ؛ راكبین عرباتهم الفاخرة. وكان بین المشترین أیضًا فنانون ومفكرون، ومنهم: الشاعران جون غاي، وألكسندر بوب، والكاتب جوناثان سویفت، وما لبث عالم الفیزیاء والریاضیات
إسحق نیوتن أن شعر بالانجذاب إلى المشروع، واستثمر فیه قدرًا وافرًا من مدخراته؛ بلغ سبعة آلاف جنیه إسترلیني. لكنه بعد بضعة أسابیع أخذت تخامره الشكوك، فأسعار الأسهم كانت في ارتفاع، إلا أن ما یرتفع لا بد له من الهبوط، فأقدم على بیع أسهمه؛ وتضاعف بذلك المبلغ الأولي الذي كان استثمره.
وسرعان ما أخذت الشائعات تسري بأن الشركة توشك على بدء تجارتها في أمریكا الجنوبیة؛ حیث هناك كل أنواع الثروات مطمورة في الجبال، ولم یكن لهذه الشائعات إلا أن تزید حمى شراء الأسهم اشتعالًا؛ فتقاطر الناس من كل الفئات والطبقات إلى مدینة لندن لیشتروا أسهمًا في شركة البحر الجنوبي، وتواردت الأخبار بأن بلانت خیمیائي مالي اكتشف سر تحویل الدَّین إلى ثروة. واستخرج الفلاحون في الأریاف مدخرات حیاتهم من النقود من تحت أسِرَّتهم وأرسلوا أبناءهم وشباب عائلاتهم إلى العاصمة لیشتروا ما أمكنهم من الأسهم، وانتشرت الحمَّى بین النساء من الطبقات كافة، ولم یكن من شأنهنَّ عادة الاشتغال بهذه الأمور، فأضحت الممثلات من سوقة الشعب تزاحمن الدوقات كتفًا بكتف في حي البورصة، وكانت الأسعار في ذلك الوقت تستمر في الارتفاع، فتجاوز سعر السهم 300 جنیه إسترلیني، ثم وصلت إلى 400 جنیه إسترلیني.
وعلى نحو ما حصل في فرنسا قبل إنكلترا، باتت البلاد تقابل الیوم رخاء مذهلًا، وفي یوم 28 أیار/مایو احتفل الملك بعید میلاده الستین، وبالنسبة لشخص عرف عنه الاقتصاد في النفقات، بدت حفلته باذخة أكثر من أي حفلة مرت على الحاضرین، وكانت فیها أحواض ضخمة تفیض بأصناف الخمور، وتبخترت إحدى نساء الحفلة بثروتها الجدیدة، وقد تسربل ثوبها بجواهر تتجاوز قیمتها خمسة آلاف جنیه إسترلیني، وفي كل أنحاء لندن أخذ الأغنیاء یهدمون قصورهم المتواضعة، لیستبدلوها بقصور أكبر منها وأكثر فخامة، وأخذ الحمَّالون والخدم یهجرون أعمالهم، لیشتروا العربات باهظة الثمن، ویستأجروا حمَّالین وخدمًا لأنفسهم، وجمعت إحدى الممثلات ثروة كبیرة، فقررت أن تعتزل عملها؛ واستأجرت مسرحًا بأكمله لتودیع معجبیها المغرمین بها، ودهشت إحدى سیدات النبلاء في إحدى الأمسیات في الأوبرا وهي ترى خادمتها السابقة تجلس في مقصورة في المسرح أكثر تكلفة من تكلفة المقصورة التي تجلس هي فیها، وكتب الكاتب جوناثان سویفت رسالة إلى صدیق له، یقول فیها لقد استعلمت من بعض من أتوا من لندن عن دِینهم هناك في هذه الأیام؟ فأخبروني بأن دِینهم بات أسهم شركة البحر الجنوبي، وسألتهم عن السیاسة المتبعة في إنكلترا؟ فأجابوني الجواب نفسه، وسألتهم فما هي تجارتكم؟ فلم یزیدوا كلمة على قولهم: شركة البحر الجنوبي أیضًا، فما هي الأعمال التي تدیرونها؟ ولم یكن جوابهم أیضًا إلا: شركة البحر الجنوبي.
ووسط هذا الانغماس في عملیات الشراء والبیع المحمومة كان جون بلانت یبذل ما بوسعه لإنجاح المشروع، فیقوم بأي شيء یستطیعه لتحفیز الاستثمار في أسهم شركة البحر الجنوبي، ویحافظ على تصاعد أسعارها، فكان یبیع الأسهم بطرق اكتتاب متنوعة، مقدمًا شروطًا مغریة للدفع، فكان أحیانًا لا یطلب إلا % 20 دفعة مقدَّمة، للدخول في عِداد المساهمین؛ فلكل استثمار بمبلغ 400 جنیه إسترلیني، كان بلانت یقرض صاحب الاستثمار 300 جنیه إسترلیني؛ فقد أراد أن یحافظ على الطلب على الأسهم عالیًا، ویجعل الناس یعتقدون بأنه قد تفوتهم فرصتهم الوحیدة لتحقیق الغنى والثراء، وما أسرع أن تجاوز سعر السهم قیمة 500 جنیه إسترلیني، واستمر في الارتفاع.
وفي 15 حزیران/یونیو، وضع قیمة ضخمة للاكتتاب على الأسهم قدرها ألف جنیه إسترلیني للسهم الواحد، مع دفع % 10 فقط من قیمة الأسهم دفعة مقدمة، ودفع % 10 بصورة أقساط موزعة على 4 سنوات. وقلةٌ من الناس یستطیعون رفض هذه الشروط السخیة، وفي ذلك الشهر نفسه كرَّم الملك جورج بلانت، فمنحه لقبًا من ألقاب النبلاء.
وأضحى البارونِت السِّیر جون بلانت یقف عند قمة المجتمع الإنكلیزي؛ مع أنه كان كریه الطلعة ومتعجرفًا للغایة، إلا أنه جعل كثرةً كاثرةً من الناس تجمع ثروة هائلة، بحیث أصبح الیوم مفخرة إنكلترا بحق.
ومع استعداد أصحاب الثروة والنفوذ لمغادرة لندن في أشهر الصیف لقضاء إجازاتهم كان المزاج السائد تعتریه الخفة والطیش، فقد نشر بلانت أجواء من الثقة والطمأنینة؛ إلا أنه بدأ یشعر وراءها بمشاعر القلق، أو حتى الذعر؛ فقد كانت هناك أشیاء كثیرة فاته التنبؤ بها؛ فعن غیر قصد منه أثار سلسلة من مشروعات المضاربة الجدیدة، بعضها كان منطقیا، وبعضها كان سخیفًا للغایة؛ من قبیل تطویر عجَلة تدور بلا توقف؛ فقد تسللت تلك الحمى إلى نفوس الناس، فباتوا ینفقون بعض نقودهم في هذه الشركات المساهمة الجدیدة؛ إلا أن كل جنیه إسترلیني كان ینفق في تلك الشركات الجدیدة كان یعني انخفاض ما ینفقه الناس على شركة البحر الجنوبي بمقدار جنیه إسترلیني واحد، وكانت تلك مشكلةً تتعاظم؛ وذلك لأنه لم یكن ثمة نقود كثیرة في إنكلترا، وكانت هناك حدود للمدى الذي یمكن أن یمضي فیه بتقدیم خدمات الائتمان حیث یأتمنه الناس على نقودهم (أو بالأحرى یقرضونه إیاها مقابل أوراق مالیة، وعلى نحو مشابه، بدأ الناس یضعون أموالهم في شراء الأراضي، فهم یرون فیها استثمارًا آمنًا للمستقبل، وكانوا لهذا
الغرض یبیعون عادةً أسهمهم في شركة البحر الجنوبي لیشتروا الأراضي، وكان بلانت نفسُه یفعل الشيء ذاته، دون علم العامة.
وما زاد الأمر سوءًا أن الفرنسیین فقدوا ثقتهم بشركة المسیسیبي، وأخذوا یسحبون أموالهم منها؛ فأصبحت النقود نادرة، وسقط الاقتصاد الفرنسي في وحل الكساد فجأةً، ولا محالة أن ذلك سیؤثر في مزاج الناس في لندن، فكان على بلانت التصرف حیال تلك المشكلة المتفاقمة
قبل أن یعود الناس من إجازاتهم الصیفیة.
ونتیجة عمله مع البرلمان صدر مرسوم (الفقاعة) لسنة 1720 ؛ الذي یحرِّم التعامل في جمیع بورصات الشركات المساهمة غیر المرخصة بالقوانین الملكیة، وكان لذلك أن ینهي تفشِّي المضاربات، إلا أن هذا الحل نجمت عنه عواقب لم یحسب حسابها؛ فهناك آلاف من الناس الذین وضعوا مدخراتهم في تلك الشركات الجدیدة، وبما أن هذه الشركات باتت خارج القانون فلم یعد بوسع أولئك استرجاع نقودهم؛ فكان المورِد الوحید المتبقي لهم هو بیع أسهمهم في شركة البحر الجنوبي، وكثیر من الذین استخدموا خدمات الائتمان الاقتراض لشراء أسهم شركة البحر الجنوبي وجدوا أنفسهم یواجهون أقساطًا لم یعد بإمكانهم أداؤها، فحاولوا أن یبیعوا أسهمهم كذلك، وبدأت قیمة أسهم شركة البحر الجنوبي بالهبوط، وفي شهر آب/أغسطس كانت أفواج من الناس تتجمع خارج مقر الشركة بعد أن یئس الناس من بیع أسهمهم.
وقبیل نهایة شهر آب/ أغسطس أصاب الیأس بلانت نفسه؛ فقرر أن یطلق الاكتتاب النقدي الرابع، وكان أیضًا بقیمة ألف جنیه إسترلیني، وأصبحت الشروط أكثر سخاءً من ذي قبل، وكان أفضلها یعِدُ بحصة أرباح ضخمة یجتنیها المساهمون في عید المیلاد في 25 كانون الأول/دیسمبر بنسبة % 30 من قیمة أسهمهم، یتبعها حصة أرباح سنویة تبلغ 50% من قیمة الأسهم، فعاد بعض الناس إلى المشروع بهذه الشروط المغریة، ومنهم إسحق نیوتن نفسه، إلا أن الآخرین الذین كانوا كأنهم أفاقوا من حلم أخذوا یتساءلون عن الأمر برُمَّته: فكیف یمكن لشركة لم تتاجر بأي شيء بعد في أمریكا الجنوبیة، وأصولها الملموسة الوحیدة هي الفائدة التي دفعتها لها الحكومة بسبب الدَّین، كیف یمكن لها أن تستطیع تقدیم أرباح ضخمة من ذلك القبیل؟! وبات ما كان یبدو أشبه بالخیمیاء أو السحر بات یبدو خدعة قاسیة نزلت بالناس، وفي بدایة شهر أیلول/ سبتمبر تحول بیع الأسهم إلى حالة من الذعر بعد أن هرول معظم الناس إلى تحویل أسهمهم على الورق إلى شيء حقیقي من النقود أو المعادن من أي صنف كان.
ومع تعاظم فزع الناس إلى النقود قارب مصرف إنكلترا على الانهیار، فكان على وشك أن یفلس من النقود، وخسر كثیرون ثرواتهم ومدخرات حیاتهم في هذا الانهیار المفاجئ، وخسر إسحق نیوتن نفسه حوالي عشرین ألف جنیه إسترلیني؛ فأضحى بعد ذلك یسقط مریضًا طریح الفراش من مجرد ذكر شركات المال أو المصارف أمامه، وكان الناس یحاولون بیع أي شيء یقدرون على بیعه، وما لبثت أن ظهرت موجة من عملیات الانتحار، وكان منها انتحار تشارلز بلانت، ابن أخي جون بلانت، الذي شقَّ حنجرته بمدیةٍ عندما علم المقدار الحقیقي لخسائره.
وحتى جون بلانت نفسه طورد في الشوارع والطرقات، وكاد یقتل على ید قاتل مأجور، واضطر إلى الهرب من لندن على عجل، وأمضى بقیة حیاته في بلدة (باث)، یعیش بإمكانیات محدودة للغایة بقیت له بعد أن استولى البرلمان على كل أمواله تقریبًا التي كسبها من مشروع شركة البحر الجنوبي، ولعله في عزلته هذه تسنى له التفكر فیما كان من سخریة القدر في كل ما حصل، لقد غیَّرَ مسار التاریخ فعلًا وكفل لنفسه بقاء الصیت؛ بأنه الرجل الذي استجلب واحدًا من أكثر المشروعات سخفًا وتدمیرًا، ابتُدِع في تاریخ التجارة وإدارة الأعمال.
0 التعليقات:
إرسال تعليق