03‏/03‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 38

 قوانين الطبيعة البشرية 38


الاستنتاج: إن أي ظاهرة تحدث في العالم تكون بطبیعتها معقدة، والناس الذین تتعامل معهم تجد التعقید ساریًا فیهم أیضًا، وأي فعل یحدث سیطلق سلسلة لا حدود لها من ردود الأفعال؛ فالأمر لیس بسیطًا مطلقًا؛ بمثل بساطة أن(أ) تؤدي إلى (ب)، فلا بد أن (ب) ستؤدي إلى (ج)؛ وسنصل إلى (د)؛ وما هو أبعد من ذلك.

وهناك فاعلون آخرون تجتذبهم الحالة، ومن الصعب التنبؤ بدوافعهم واستجاباتهم، ولعلك لا تستطیع أن تحدد تفاصیل هذه السلاسل من ردود الأفعال، أو قد لا تستطیع السیطرة الكاملة على عواقب الأمور، لكنك عندما تجعل تفكیرك تفكیرًا سببیا یأخذ بالعواقب فإنه بإمكانك على الأقل

أن تدرك العواقب السلبیة بالغة الوضوح التي یمكن أن تنشأ؛ وهذا ما یحدد في أغلب الأحیان الفارق بین النجاح والسقوط، فعلیك بإمعان التفكیر، والذهاب في درجات متعددة من تصوُّر الاحتمالات؛ بقدر ما یستطیعه ذهنك.

 

والغالب أن ذهابك في متسلسلة التفكیر هذه سیقنعك بالحكمة في عدم القیام بشيء، والحكمةِ في الانتظار؛ فمن یدري ما الذي كان یمكن أن یحدث لو أن المتآمرین على قیصر انتهوا في تفكیرهم إلى هذه النتیجة، فانتَظروا حتى یموت قیصر موتًا طبیعیا، أو  یقضي في بعض حروبه.

 

ومع أن هذه الطریقة في التفكیر لها أهمیتها بالنسبة للأفراد من الناس، إلا أن أهمیتها تعظم بالنسبة للمنظمات الكبیرة؛ حیث تكون هناك أخطار كبیرة لعدد كبیر من الناس، فإذا كنتَ رئیسًا في أي مجموعة أو فرقة (فرقة عمل) اجعل أحد أفرادها مسؤولًا عن حساب جمیع العواقب المحتملة لمخططٍ ما، أو تسلسلٍ للعمل؛ ویفضَّل أن یكون شخصًا یتمتع بإطار ذهني شدید الحرص والتشكك، ولن تستطیع مطلقًا المضي بعیدًا في هذه العملیة، ولكن ما تنفقه من وقت ومال في ذلك سیعودان علیك بتجنیبك الكوارث المحتملة، وتطویرك خططًا أخرى أكثر تماسكًا.

 

1-  الجحیم التكتیكي: تجد نفسك متورطًا في جملةٍ من النزاعات والمعارك. ویبدو أنك لست بخارج منها؛ إلا أنك تشعر بأنك أنفقت الكثیر من الوقت والطاقة؛ وبذلك فإنك ستخسر الكثیر إذا استسلمت، والواقع أنك فقدتَ رؤیتك لأهدافك البعیدة؛ تلك الأهداف التي تقاتل من أجلها في حقیقة الأمر.

لكن بدلًا من ذلك، تحول الأمر إلى تأكید الأنا عندك، وإثبات أنك على حق، وغالبًا ما نرى هذه العملیة المتأرجحة (الدینامیكیة) في المشاحنات بین الأزواج؛ فلا یعود الهدف عند الزوجین إصلاح العلاقة بینهما؛ بل فرض وجهة نظر أحدهما على الآخر، وفي بعض الأحیان -وأنت عالق في هذه المعارك- تشعر بأنك في موقف دفاعي وتافه، وتجد روحك تنساق إلى الهاویة، ویكاد یكون ذلك علامة أكیدة على أنك تهبط إلى الجحیم التكتیكي بتخطیطك لأهداف قریبة

تكتیكیة، بدلًا من تلك البعیدة الإستراتیجیة، وعقولنا مصمَّمةٌ للقیام بالتخطیط الإستراتیجي؛ فهي تحسب جملة تحركات للتقدم إلى أهدافنا، وفي الجحیم التكتیكي لا تستطیع أبدًا الارتفاع بنظرتك بما یكفي للتفكیر بتلك الطریقة في التخطیط الإستراتیجي؛  بل تراك تستجیب باستمرارٍ بردود أفعالك على فلان وفلان، لتورِّطك في حالاتهم وعواطفهم، فتدور في حلقات مفرغة.

 

والحل الوحید للخروج من تلك الدوامة هو أن تنتشل نفسك بصورة مؤقتة أو دائمة من تلك المعارك، وبخاصة إذا كانت معاركك تحدث على جبهات مختلفة، فأنت بحاجة إلى شيء من النأي والتبصر، وهدِّئ من الأنا داخلك، وذكِّر نفسك بأن فوزك في جدال، أو إثبات وجهة نظرك، لا یخرجك من حیث أنت على المدى البعید، فلیكن فوزك معتمدًا على أفعالك، لا على كلماتك، وعد إلى التفكیر من جدید بأهدافك البعیدة، واصنع سلَّمًا للقیم والأولویات في حیاتك، مذكِّرًا نفسك بما هو مهمٌّ فعلًا بالنسبة لك، فإذا توصلت إلى أن إحدى المعارك مهمة بحق، فبإمكانك بزیادة إحساسك بالنأي عنها، أن تخطط لاستجابة إستراتیجیة بعیدة الغور فیها.

 

وفي كثیر من الأحیان ستدرك أن بعض معاركك لا تستحق جهدك في نهایة المطاف؛ بل هي مضیعة لطاقة ووقت ثمینین، وینبغي أن یكون ذلك من عدم إضاعة الطاقة والوقت في مرتبة عالیة من قیمك؛ فمن الأفضل لك دائمًا الابتعاد عن معركة دائریة تدور في حلقة مفرغة، مهما كنت تشعر أنك متورط فیها شخصیا إلى حدٍّ بعید؛ فطاقتك وروحك لهما وزن مهم في حساباتك؛ والشعور بالتفاهة والإحباط یمكن أن تنجم عنه عواقب وخيمة؛ على قدراتك في التفكیر الإستراتیجي ، والوصول إلى أهدافك، ومضیُّك في الإجراءات التي بینَّاها في الفقرة السابقة (مفاتیح للطبیعة البشریة) سیرتفع بنظرتك بصورة طبیعیة، وسیجعل ذهنك یحلق في التفكیر الإستراتیجي، والحال في الحیاة یشبه الحال في الحروب، فأصحاب التفكیر الإستراتیجي، هم من ینتصرون دائمًا على أصحاب التفكیر التكتیكي.

 

2-  حمَّى شریط الأسعار: في الآونة التي سبقت انهیار بورصة وُول ستریت (سوق المال في نیویورك) سنة 1929 ، غدا كثیر من الناس مدمنین على الدخول في سوق الأسهم، وكان في هذا الإدمان عنصر فیزیائي؛ وهو صوت شریط ورق الأسعار الذي یسجل إلكترونیا كل تغییر یطرأ في أسعار الأسهم، فكان سماع ضجیج الطقطقة (على الشریط) یشیر إلى أن شیئًا ما یحدث، فأحدهم یعقد صفقة ویجتني ثروة.

وشعر كثیرون بالانجذاب إلى ذلك الصوت بذاته، وكأنه كان صوت نبض القلب لبورصة سوق المال، ولم یعد هناك شریط ورق لطباعةأسعار التغیرات في البورصات، وبدلًا من ذلك أضحى

كثیرون منا مدمنین على دورة الأخبار دقیقة بدقیقة، ومدمنین على التوجه السائد، ومدمنین على التغریدة أو المنشور الأكثر انتشارًا في وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهي تصلنا مصحوبةً برنَّةٍ موسیقیة لها تأثیر المخدِّر فینا، فنشعر بأننا متصلون بتیار الحیاة نفسه، وبالأحداث وهي تتغیر في الزمن الحقیقي، وبالناس الذین یتابعون الأخبار العاجلة نفسها.

وهذه الحاجة إلى معرفة الأمور على عجل لها قوة دافعة مدمجة، فعندما نتوقع الحصول على شيء من الأخبار بسرعة فلن نستطیع العودة إلى السرعة الأبطأ من سرعة الیوم في الحصول على الأخبار، ولا حتى قبل سنة واحدة من الآن؛ فالحق أننا نشعر بالحاجة إلى المزید من المعلومات، وبسرعة أكبر، ویغلُب أن یتجلى نفاد الصبر هذا في جوانب أخرى من حیاتنا -في قیادة السیارة، وفي قراءة الكتب، وفي مشاهدة الأفلام السینمائیة-؛ فیتضاءل مدى الانتباه عندنا مثلما یتضاءل تحمُّلُنا لأي عقبات تعترض سبیلنا.

 

وبوسعنا جمیعًا أن ندرك علامات نفاد الصبر الانفعالي هذا في حیاتنا الخاصة، إلا أن ما لا ندركه هو تأثیره في تشویه تفكیرنا، فتوجهات اللحظة الآنیة -في عوالم الأعمال والسیاسة- مدمجة في توجهات أكبر منها تجري في أسابیع وشهور؛ وهذه النطاقات الزمنیة الأكبر تنحو إلى كشف نقاط الضعف والقوة النسبیة في استثمار ما، أو في فكرة إستراتیجیة، أو في فریق ریاضي، أو في مرشح سیاسي؛ وهي غالبًا تكون على النقیض مما نشاهده في التوجهات الصغرى في اللحظة الآنیة. ولا تخبرنا استطلاعات الرأي وأسعار الأسهم الكثیر بمعزلها، عن نقاط القوة والضعف هذه؛ بل هي تعطینا انطباعًا مضلِّلًا بأن ما ینكشف في الزمن الحاضر سیزداد بروزًا وحسب بمرور الزمن. ومن الطبیعي أن ترغب في متابعة آخر الأخبار؛ لكن بناءك أي نوع من القرارات على هذه اللقطات للَّحظة الآنیة یجعلك في عرضة لخطر إساءة فهم الصورة الكبیرة.

 

وفضلًا عن ذلك، نرى الناس یمیلون إلى رد الفعل، والمبالغة في رد الفعل، على أي تغییر سلبي أو إیجابي؛ فتتضاعف عندهم صعوبة مقاومة استبداد الذعر أو الحماس بهم.

 

وانظر إلى ما واجهه أبراهام لینكولن في عصر التكنولوجیا البسیطة، فعند اندلاع الحرب الأهلیة الأمریكیة، نظر لینكولن إلى الصورة الكبیرة فوفقًا لتوقعاته: لا بد أن تنتصر قوات الشمال؛ لأن جیشها أكثر عدیدًا، ومواردها أكثر وفرة، وما من خطر یواجهها إلا الوقت، فیحتاج لینكولن إلى الوقت لیطور جیش الاتحاد(قوات الشمال)لیكون قوةً مقاتلة ذات بأس؛ كذلك كان بحاجة إلى الوقت لیجد الضباط المناسبین الذین یسیرون بالحرب وفق ما یبتغي. لكن إذا مر وقت طویل جدا دون تحقیق انتصارات كبیرة، فإن الرأي العام یمكن أن ینقلب على مجهوداته، وإذا انقسمت قوات الشمال على نفسها، فستصبح مهمة لینكولن مستحیلة، لقد كان بحاجة إلى الصبر، لكن مع تحقیق الانتصارات أیضًا في ساحات المعارك.

وفي السنة الأولى من الحرب، واجهت قوات الشمال هزیمة كبیرة في (بُلْرَن)جنوب غرب واشنطن، وبات الجمیع فجأة یشككون في كفاءة الرئیس لینكولن؛ فحتى أصحاب التفكیر الرصین من أهل الشمال من أمثال الكاتب الصحفي المشهور (هوریس غریلي)، أخذوا یحثُّون الرئیس على الشروع في مفاوضات السلام، وحثَّه آخرون على أن یلقي بكل ثقلِ ولایات الشمال في ضربة عاجلة، تسحق قوات الجنوب؛ حتى لو كان جیش الشمال غیر مهیأ لشن هذه الضربة.

ومع استمرار حث الرئیس على ذینك الأمرین المتضاربین، استمر الضغط یزداد علیه بسبب إخفاق قوات الشمال بتحقیق أي نصر قوي، إلى أن جاء أخیرًا اللواء في الجیش أولیسس غرانت ففك الحصار عن مدینة فیكسبورغ سنة 1863 ، وسرعان ما تلا ذلك انتصار آخر في مدینة غیتیسبورغ تحت قیادة اللواء جورج مید، والآن، أضحى لینكولن فجأة ینادى بالعبقري، لكن بعد نحو ستة أشهر؛ ومع عجز غرانتعن مطاردة جیش الجنوب بقیادة اللواء روبرت لي؛ وازدیاد الخسائر في جیشه؛ عاد الإحساس بالهلع لیخیم على معسكر الشمال، وعمد غریلي إلى حث الرئیس من جدید لیجري مفاوضات سلام مع ولایات الجنوب، وبدت إعادة انتخاب الرئیس في تلك السنة ضربًا من المحال، وفقد الرئیس شعبیته بصورة كبیرة، فقد استغرقت الحرب وقتًا

طویلًا، ونتیجة شعور لینكولن باشتداد وطأة  كل ذلك علیه أعدَّ لینكولن في آخر المطاف رسالة سطَّرها في أواخر شهر آب/أغسطس سنة 1864 ، یعلن فیها شروطه للسلام الذي یعرضه على ولایات الجنوب؛ لكنه في تلك اللیلة نفسها، شعر بالخزي من فقدانه تصمیمه، وأخفى الرسالة التي أعدَّها في درج مكتبه؛ فقد شعر أنه لا بد من أن یتغیر مسار الحرب، وتدور الدائرة على قوات الجنوب. وبعد أسبوع واحد من ذلك، تقدم اللواء في جیش الشمال ویلیام شیرمان إلى ولایة أطلنطا، وتلاشت فجأة وإلى الأبد كل الشكوك التي حامت حول لینكولن.

 

فعن طریق التفكیر بعید الأفق قام لینكولن بقیاس صائب لنقاط القوة والضعف عند طرفي الحرب، وعرف الاتجاه الذي ستؤول إلیه الحرب في النهایة، أما الآخرون جمیعًا فكانوا عالقین في الأخبار الیومیة عن سیر الحرب، فأراد بعضهم الاتجاه إلى مفاوضات السلام، وأراد غیرهم الاتجاه إلى زیادة مفاجئة في المجهود الحربي؛ لكنهم جمیعًا كانوا یعتمدون في حساباتهم على تقلبات الحظ الخاطفة، ولو جاء محل لینكولن رئیس ضعیف لاستسلم لتلك الضغوط، ولانتهت الحرب بصورة مختلفة جدا. وقد كتب الكاتب هاریت بیتشربعد ذلك عن لینكولن، وكان قد زاره في سنة 1864 ، فقال كان لینكولن محاطًا بكل أصناف الدعوات المتناقضة، محاطًا بالخونة، والجبناء خائري العزیمة، ورجال من الولایات الحدودیة ورجال من الولایات الحرة التي حررت العبید في الشمال، وبدعاة إلغاء الرق والمحافظین؛ وكان یستمع إلى أولئك جمیعًا؛ ویزن كلماتهم جمیعًا؛ وینتظر؛ ویراقب؛ ویخضع لهذا أو ذاك، لكنه لم یفارق المبادئ الأساسیة

للوصول إلى هدف صادق ثابت، متقدمًا بسفینة الوطن إلیه لقد قدم لینكولن نموذجًا لنا جمیعًا، فیه تریاق الحمَّى (حمَّى ردود الأفعال على الأحداث الآنیة)؛

 

 فعلینا في المقام الأول: أن نطور صبرنا؛ فصبرنا یشبه عضلة تحتاج إلى التدریب، وتكرار التدریب، لتصبح أكثر قوة. لقد كان لینكولن رجلًا فائق الصبر، وعندما یواجهنا أي نوع من المشكلات أو العقبات، فإن علینا أولًا أن نسیر على منهجه ومثاله، ونبذل جهدنا لتهدئة الأمور، ونتریث وننتظر یومًا أو یومین قبل أن نبادر إلى الفعل.

 

وثانیًا: عندما تواجهنا قضایا مهمة فلا بد من أن یكون عندنا إحساس واضح بأهدافنا البعیدة، وكیفیة الوصول إلیها، ومن ذلك تقییمنا لنقاط القوة والضعف النسبیة للأطراف المشتركة في القضیة. فهذا الوضوح، هو ما یمكِّننا من مقاومة ردود الأفعال المفرطة، والعاطفیة، والمستمرة، التي تظهر على مَن حولنا، وفي النهایة، فإن من الأهمیة بمكان، أنْ نؤمِن بأن الزمن سیثبت لنا في النهایة صوابنا، وأنْ نثبت على تصمیمنا وعزیمتنا.

0 التعليقات: