15‏/03‏/2021

تأمل يوما بعد يوم 10

 تأمل يوما بعد يوم 10











الفصل الثامن

 

 

أن نكون حاضرين في اللحظة الحالية 

تُذكِّر أنك ستموت يومًا. لكن لا تخشَ الموت. تذكَّر أنَّ الحياة على هذه الأرض قصيرة، هشَّة، ودون جدوى، وتذكَّر أنَّ كلَّ ما هو أساسي وجوهري لا يسكنان هذه الحياة الفانية.

لكن تذكَّر أيضًا أنه يُوجَد سبيل آخر لعيشها وهو أن تعِيَها.

 

الخشوع

 

الخشوع ضروري في تأمُّل الوعي الكامل. إنه يعني هنا العودة إلى الذات؛ أن نسكُن ذاتنا من جديد، وأن نتواصل مع أنفسنا.

تُساعِد بعض الأماكن على الوصول إلى حالة الخشوع هذه، كالمساجد وأماكن الصلاة مثلًا. يحدُث أحيانًا أن يكون لديَّ بعض الوقت قبل موعدٍ ما، أذهبُ حينها إلى إحدى المساجد لأمنح نفسي بعض الوقتِ للتأمُّل. لا يهمُّ أن تكون خارج المدينة؛ يكفي أن تكون على بُعد خطوة من ضجيج المدينة، وشُحنتها الزائدة من التنبيهات. والطبيعة بالتأكيد، تُعزِّز لحظات الخشوع. وأعتقد أنَّ هذا الأمر هو من الأسباب الرئيسية التي تجعل التردُّد المُتكرِّر على الطبيعة من الأنشطة التي تُحسِّن حالتنا الصحية، كما تُظهِر كثيرٌ من الدراسات الحديثة.

إنَّ التواصُل مع الطبيعة يُساعِدنا على إيجاد الهدوء، والبطء، والاستمرارية. إنه غذاء لرُوحنا، يُمكِّننا من الوصول إلى حالة الوعي الكامل.

 

يمكن أيضًا الاستفادة من اللحظات التي تسبق الفعل أو النشاط الذي نتهيَّأ للقيام به، كأن نبقى واقفين عدةَ ثوانٍ، نشعُر بتنفُّسنا، ثم نجلس إلى مكتبنا مُحاوِلين التواصل، دون كلام أو هدف، مع المدلول العميق لعملنا؛ وأيضًا قبل العودة إلى المنزل مساءً، أو قبل الذهاب لزيارة صديق، أو استقبال المرضى إذا كنَّا نعمل في المجال الصحي. لقد وُجدَت هذه اللحظات سابقًا؛ الصلاة أو الدعاء قبل قطْع الخبز على طاولة الطعام.

أين ذهبت لحظات الخشوع هذه في حياتنا الحديثة؟

وحالة الخشوع تدفعنا في معظم الوقت نحو التجرُّد، ليس لزيادة فقرِنا الرُّوحي، وإنما لنَصير أكثر خفَّة.

 

التجرُّد

التجرُّد هو الضرورة الثانية لحالة الوعي الكامل. وليس من الضرورة أن نتجرَّد من ثيابنا أو ماضينا ، وإنما من بعض عاداتنا النفسية.

من الخطوات الهامَّة بهذا الاتجاه، تخفيف أفكارنا التلقائية، وأيضًا توقُّعاتنا وأفكارنا المُسبَقة. وهنا نجد أربعة أمورٍ مهمَّة في الوعي الكامل؛ ألَّا نُطلِق أحكامًا، وألَّا نقوم بالانتقاء، وألَّا نتعلق

بشيء، وألَّا ننتظر شيئًا.

إنها أربعة أشكال من السلوك علينا أن نُعزِّزها في تمارين التأمُّل بالوعي الكامل، وبنفس الوقت نكون بصدد القيام بأربعة أشكالٍ من العُدول.

العدول عن إطلاق الأحكام: مثلًا عدم الحُكم على تمرين التأمل الذي قُمنا به بأنه نجح أو فشل. هل هذه مسألة صعبة؟ هذا صحيح ألا نُطلِق أحكامًا بالأحرى هو ألَّانستسلِم للأحكام التي تصِل حتمًا إلى وعينا؛ ألَّا نترُك لها كل القدرة، أو ألَّا نتوقَّف عندها دائمًا؛ كي لا تحتلَّ كل المكان.

العدول عن الانتقاء: يتعلق الأمر بالسماح لأحاسيسنا الجسدية، ولأفكارنا، ولمشاعرنا (حتى غير المُريحة منها) أن تكون حاضرة معنا. مثلًا، علينا أن نتخلَّى عن الأمل بتوقُّف الضجيج حولنا بينما نقوم بجلسة التأمل. علينا قبول الأمور المُزعِجة، ولكن أيضًا وبالتأكيد تلقِّي وقبول ما هو جيِّد ومُريح. هذا يعني ألا نتبع طريق تعذيب الذات أو مذهب المُتعة فقط، وإنما أن نكون في حالةٍ من الوعي المُنفتِح والفضولي، الذي يتلقَّى كلَّ شيء، لكنه لا يذهب إلَّا حيث يريد.

 

 

العدول عن التشبُّث: علينا ألَّا نبحث دومًا عمَّا هو مُبهِج؛ لأنه تصرُّف تلقائي لدَينا.

وعلينا ألَّا نُحاوِل طوال الوقت أن نستخدم تنفُّسنا وسيلةً للحفاظ على حالة عاطفية جيِّدة. بماذا ينفعنا هذا السلوك؟ بدلًا من التمنِّي بأن تدوم هذه الحالة، علينا أن نتمرَّن على ألا نقلق من عدم استمراريتها. علينا أن نتجاوز الأمل أرجو أن يدوم ذلك طوال الوقت.

والتحرُّر من قلقِنا الموجود بالفطرة، ذلك الذي يتشبَّث بكلِّ ما هو مُريح.

العدول عن الانتظار: إنه من دون شكٍّ الجزء الأكثر إثارة للحيرة لدى المُتمرِّنين الجُدد؛ يجب ألا ننتظر شيئًا، ألا نأمل أن تكون جلسة التأمل مصدرًا للمزيد من الجلاء والراحة.

 

الصدق

إن الأمر الأخير هو الأصعب. يجب ألا يكون الانتظار فخٍّا نصبناه لأنفُسنا (كأن نتظاهر بعدم الانتظار، مُخبِّئين هذا السرَّ في قلوبنا)، وألا يكون حالة من جَلْد الذات (بأن نكون غير مُهتمِّين بالسعادة). إننا نقوم هكذا بكل بساطة بعملية التفافٍ على أنفسنا.

إنَّ ما نستطيع الوصول إليه أو بناءه بجهودنا وإرادتنا هو ما قد وصلنا إليه وما قد بنَيناه مُسبَقًا. ولكن هناك كثير من الأشياء، خاصة على الصعيد العاطفي، تُقاوِم جهودَنا للتحكم بها أو إخضاعها لإرادتنا، وعلينا أن نُحاوِل العدول عن الرغبة في إيجاد حل.

نستطيع حينها اختبار شيءٍ آخر؛ إنه القَبول المجبول بالحفاوة لما هو موجود أصلًا، والذي يتلخَّص بعدَم الرغبة في شيءٍ آخر غير وعي اللحظة الحاضرة. إن التأمُّل بالوعي الكامل هو كل تلك اللحظات التي أشعُر فيها، وبشكلٍ عميق، أنَّني وصلتُ إلى حيث أريد؛ أن أكون هنا والآن!

 

حضورٌ محض، وانتباه إلى لاشيء

في البداية تكون لحظات من النعمة التي تأتينا من السماء، أو هي جسورٌ تأتي إلينا بالصُّدفة. هي لحظات يكون فيها كلُّ شيء كامل البهاء دون أي تدخُّل منَّا. وبالتدرُّج سنعرف كيفية استدعائها، لحظات الحضور المحض هذه.

 

إنها حالة بسيطة التعريف:( أن نكون هنا والآن) لكن استدعاءها يبقى صعبًا ما دُمنا لا نستطيع أن نكون كذلك؛ لأننا نتدخَّل، نفعل، نُوجِّه اللحظة، نُحاوِل فرضَها. كل ذلك يقضُّ مضجعنا، والقيام بكل ذلك يُريحنا.

الفِعل، إنه نقطة قوة الإنسان ونقطة ضَعفه في ذات الوقت. لكننا نعرف الآن كيف نتوقَّف عن الفعل، ونتخلَّص من طريقة عيشنا السطحية. إنَّنا نفعل ذلك بأن نضع جانبًا ماضينا ومشاريعنا المستقبلية، كي نلِجَ للحظةٍ إلى اللانهائي، إلى أبدية عابرة؛ تلك الحالة التي تُغطِّيها أفعالنا وأفكارنا. وسيكون كلُّ شيء بها جميلًا ومُؤثِّرًا في نفس الوقت. إنه اضطرابٌ هادئ.

الدرس الثامن

علينا أن نستدعي الخشوع، أن نفتح روحنا بشكلٍ مُتكرِّر لما نعيشه كلَّ يوم. وعلينا أن نتجاوز الكلام، والأفكار، والأشياء والأفعال. يجب أن نترك الفعل للوصول إلى الحضور وأن نستطيع عزل أنفسنا عندما يكون هناك كثير من البلبلة حولنا أو داخلنا، والتخلُّص من كلِّ أشكال الرغبة والفعل علينا ألا نريد شيئًا. وعلينا أن نتوقَّف عن البحث؛ إنه نوع من العدول عن كلِّ شكلٍ من أشكال التفكير أو الفعل ولو للحظات.

يجب ألا نفعل شيئًا غير أن نكون هنا والآن، وأن نعِيَ فقط أنَّنا هنا تملؤنا الحياة.

0 التعليقات: