قوانين الطبيعة البشرية 37
مفاتیح للطبیعة البشریة
لا بد أن معظمنا یمر به شيء من الحالات الآتیة: قد یكون هناك امرؤٌ نحتاجه، أو نعتمد علیه لكنه لا یولینا الاهتمام المناسب، أو لا یستجیب لدعواتنا؛ ونتیجة شعورنا بالإحباط نعبر له عن مشاعرنا، أو نضاعف جهودنا للحصول على استجابة منه، أو قد تصادفنا مشكلة، أو مشروع لا یسیر على ما یرام، فنقرر خطة مناسبة، ونتخذ الإجراء المناسب، أو قد تظهر امرأة جدیدة في حیاة أحدنا، فتأسره بطاقتها المتوقدة، وجاذبیتها
الخلَّابة، ویصبحان من الأصدقاء.
وتمضي أسابیع بعد ذلك، ونضطر إلى إعادة تقییم ما حصل، وإعادةِ تقییم استجابتنا،
وتتكشف لنا معلومات جدیدة؛ فذلك الذي لم یكن یستجیب لنا كان هو نفسه غارقًا في عمله، ولو أننا انتظرنا فقط ولم نكن عجولین جدا لكان بوسعنا تجنُّب إبعاد حلیف ثمین لنا؛ وأما المشكلة التي حاولنا أن نحلها فهي مشكلة لم تكن ملحة بالفعل، وقد زدناها سوءًا باندفاعنا للحصول على ثمرة منها، فكان یلزمنا أن نزید معرفتنا قبل أن نبادر بالتصرف. وتلك الصدیقة الجدیدة ینتهي بنا الأمر إلى أن نراها لیست بالجاذبیة الكبیرة التي كنا نراها بها؛ والحق أن الزمن یكشفها لنا امرأةً هدامةً معتلة اجتماعیا، نحتاج إلى سنوات للتعافي من صداقتها، وكان یمكن لمسافة تفصلنا بعض الشيء عن الأحداث أن تمكِّننا من رؤیة إشارات الخطر قبل أن یفوت الأمان.
وإذا نظرنا فیما مضى من حیاتنا فسنرى أن لدینا میلًا إلى الطیش والإفراط في رد الفعل؛ فنلاحظ أنماطًا من السلوك تمتد على فترات طویلة من الزمن، تجعلنا عالقین في اللحظة الآنیة التي نعیشها؛ لكنها لا تتضح لنا إلا فیما بعد.
وهذا یعني أننا في اللحظة الآنیة، تعوزنا النظرة البعیدة. وبمرور الزمن، تزداد معلوماتنا، ونرى جزءًا أكبر من الحقیقة؛ فما لم یكن بادیًا لنا في اللحظة الآنیة، أضحى واضحًا إذا أعدنا النظر فیما جرى، فالزمن هو أعظم معلم لنا، إنه یكشف لنا الواقع الحقیقي.
ویمكننا أن نقارنه بالظاهرة الواضحة الآتیة: عند قاعدة الجبل، وفي الغابة الكثیفة، تنعدم قدرتنا على معرفة الاتجاهات، والاهتداء للخروج من الوسط الذي نحن فیه، فنحن لا نرى إلا ما یقابل أعیننا، فإذا أخذنا بالصعود في جانب الجبل، فإن بوسعنا أن نزداد معرفةً بالوسط الذي یحیط بنا، وكیف یرتبط بأجزاء أخرى من المعالم الأرضیة، وكلما ازددنا ارتفاعًا في صعودنا زاد إدراكنا بأن ما كنا نظنه هناك في الأسفل لم یكن صائبًا تمامًا، فقد كان یعتمد على نظرة مشوهة بعض الشيء. أما عند أعلى الجبل فیكون لدینا مشهد واضح شامل، وجلاء كامل لصفحة الأرض.
فبالنسبة لنا نحن البشر -وعندما نكون حبیسي اللحظة الآنیة-
یبدو الأمر وكأننا نعیش عند قاعدة الجبل، وما هو واضح أمام أعیننا – من أناس آخرین وغابة محیطة بنا –یعطینا نظرةً مشوهة ومحدودة للواقع الذي حولنا، ومرور الزمن علینا أشبه بصعودنا ببطء إلى أعلى الجبل. والعواطف التي نشعر بها في الزمن الحاضر لا تعود قویة كما كانت؛ فبات بوسعنا النأي بأنفسنا لرؤیة الأشیاء بوضوح، وكلما صعدنا بمرور الزمن ازدادت المعلومات؛ التي نضیفها إلى الصورة التي نراها، وما نراه بعد حصول أمرٍ ما ببضعة أشهر، لن یكون هو نفسه بالضبط إذا رأیناه بعد سنة كاملة.
لذلك یبدو أن الراجح في الحكمة أن تأتینا متأخرة جدا؛ وغالبًا عندما نعید التفكر فیما جرى. لكن الحق أن هناك طریقة لنا نحن البشر لصناعة تأثیر الزمن لنعطي أنفسنا نظرة واسعة في الزمن الحاضر، ولنا أن ندعوها(النظرة الثاقبة)، وهي تتطلب منا القیام بالإجراءات الآتیة:
أولًا: إذا واجهتنا مشكلة، أو نزاع، أو فرصة مثیرة، علینا أن ندرب أنفسنا على النأي بأنفسنا عن حمَّى اللحظة الآنیَّة، فنعمل على تهدئة إثارتنا أو خوفنا، ونبتعد عن الحدث بعض الشيء.
وبعد ذلك، نبدأ في تعمیق نظرتنا وتوسیعها؛ فعندما ننظر في طبیعة المشكلة التي نواجهها لا نكتفي بانتزاع تفسیر فوري لها؛ بل نزید إمعان النظر؛ مع التفكیر بالاحتمالات الأخرى، والدوافع الأخرى المحتملة للناس الذین لهم ید فیها، فعلینا أن نجبر أنفسنا على النظر في السیاق العام للحدث، ولا نكتفي بمجرد النظر فیما یلفت انتباهنا إلیه فورًا، ونتصورُ قدر ما یسعنا التصور العواقبَ السلبیة للمخططات المختلفة التي نعتزم تنفیذها، وعلینا أن نفكر في أن المشكلة أو الفرصة البادیة، ربما تنجلي من تلقاء نفسها بمرور الزمن، ونفكر في أن مشكلاتٍ أو مسائل أخرى، غیر ظاهرة لنا في اللحظة الآنیة، ربما تظهر فجأة أضخمَ من المشكلة التي تواجهنا الآن، فعلینا التركیز على أهدافنا بعیدة المدى، مع إعادة ترتیب أولویاتنا في الزمن الحاضر لتتوافق معها.
وبعبارة أخرى فإن هذه الإجراءات اللازمة للوصول إلى النظرة الثاقبة تتضمن الابتعاد بقدَرٍ عن الزمن الحاضر، والنظر بإمعان في مصدر المشكلة، والنظرة الواسعة إلى السیاق العام للحالة، والنظرة البعیدة إلى المستقبل، ویدخل في ذلك النظر في عواقب أفعالنا، والنظرُ في أولویاتنا بعیدة المدى.
فإذا سرنا في هذه الإجراءات فستظهر لنا خیارات وتفسیرات أكثر منطقیة وواقعیة من تلك التي حصلنا علیها في اللحظة الآنیة، ونضیف إلیها الدروس التي تعلمناها من سنین عمرنا، فیما یخص أنماط سلوكیاتنا، ومع أننا لا نستطیع صنع كامل التأثیر الذي یصنعه الزمن في تفكیرنا، إلا أننا بهذه الطریقة نقترب منه، ففي أكثر الأحیان یزید مرور الشهور في معلوماتنا، ویكشف لنا خیارات أفضل نأخذ بها. لكننا نصنع هذا التأثیر في الزمن الحاضر، عن طریق توسیع حساباتنا، وتفتیح أبواب عقولنا. فترانا نصعَد الجبل، ویمكن لارتفاعنا بنظرتنا أن یهدئنا، ویسهل علینا المحافظة على حضور الذهن في الأحداث التي تنجلي لنا.
ومع أن هذه النظرة الثاقبة هي نموذج أمثل لنا إلا أنه لا بد لنا من أن نعترف بأنها نادرة بیننا نحن البشر، ویبدو الأمر وكأنه یتطلب منا جهدًا نكاد لا نطاله، والسبب في ذلك بسیط: فالتفكیر قصیر الأمد، متصل اتصالًا راسخًا بطبیعتنا؛ فترانا في أصل خلقتنا نستجیب لما هو فوري، ونبحث عن ترضیات فوریة. وعند أسلاف البشر الأوائل، كان یلفت انتباههم ما یُحتمَل خطره في بیئتهم، أو ما كان یُحتمَل أن یكون غذاءً لهم، فعندما تطور العقل البشري على قول (دعاة التطور) لم یكن مصمَّمًا لسبر الصورة الكاملة لحدثٍ ما، والسیاق العام له؛ بل كان مصمَّمًا للاتجاه إلى أكثر الصفات إثارةً فیه، وكان ذلك ناجحًا في بیئة بسیطة نسبیا، وفي تنظیم القبیلة الاجتماعي البسیط، إلا أنه لا یناسب العالم المعقد الذي نعیش فیه، وذلك ما یجعلنا نلاحظ أكثر ما نلاحظ ما یحفز حواسنا وعواطفنا، ولا نلتفت إلى الصورة الكبیرة فیما یواجهنا.
ولهذا الأمر أثر واضح على كیفیة نظرنا إلى المتعة أو الألم المحتمَلین في حالة ما، فلقد صمِّمت عقولنا لتجعلنا نلاحظ ما یحتمَل أن یؤذینا فورًا؛ مما یحیط بنا دون أن نولي عنایة كبیرة بالأخطار الأخرى التي تلوح لنا في المستقبل، ونراها أخطارًا نظریة، وهذا هو السبب الذي یجعلنا نمیل إلى إیلاء اهتمام كبیر جدا بشيء من قبیل الإرهاب فهو ألم فوري، وهو أمر یستحق منا البحث فیه ولا شك. لكن یأتي دونه في اهتماماتنا الاحتباس الحراري فهو ألم بعید؛ والواقع أنه أشد خطرًا من الإرهاب؛ لأنه یجعل بقاء الحیاة على هذا الكوكب في خطر، إلا أن ذلك الخطر یبدو لنا خطرًا نظریا في الزمن الحاضر، ومع مرور الزمن نراه لا یعود نظریا مطلقًا، إلا أنه ربما یكون قد فات الأوان آنذاك، كذلك فإننا نمیل إلى الحصول على أشیاء تقدم لنا متعة فوریة، حتى لو كنا نعلم عواقبها السلبیة بعیدة المدى، وهذا ما یجعل الناس لا ینقطعون عن تدخین السجائر، ومعاقرة الخمور، وتعاطي المخدرات، والمشاركة في سلوكیات هدَّامة
للنفس؛ لا تدمر النفس على نحو فوري ومثیر.
ففي عالمٍ یموج بالتعقیدات وتكتنفه أخطار جمَّة تلوح في المستقبل، نجد میولنا قصیرة الأمد تخلق خطرًا مستمرا یهدد رخاءنا، ومع تضاؤل مدى انتباهنا للأخطار التي تحیق بنا؛ بسبب الأدوات التكنولوجیة التي تطوِّقنا من كل جانب؛ یصبح ذلك الخطر أشد وأدهى، فترانا من جوانب شتى نتحدد في شخصیاتنا وحیاتنا بعلاقتنا بالزمن؛ فعندما نتفاعل ببساطة مع ما نراه أو نسمعه؛ وعندما نتأرجح بین الانفعال والحیویة، وبین الخوف والجزع، مع كل خبر مثیر یصلنا؛ وعندما نكیِّف تصرفاتنا للحصول على أكبر قدر ممكن من المتعة في اللحظة الآنیة بلا تفكیر في العواقب المستقبلیة؛ عندما نفعل ذلك یمكننا أن نقول بأننا نستسلم لطبیعة حیوانیة داخلنا، نستسلم لطبیعة بدائیة تحمل دمارنا، مجبولةٍ في تكویننا العصبي.
وعندما نكافح لمواجهة هذه البذرة فننظرُ بإمعان في عواقب ما نفعله، ونتفكر في جوهر أولویاتنا بعیدة الأمد، فنحن نجاهد لإدراك قدراتنا البشریة الحقیقیة في التفكیر والمنطق، وعلى نحو ما نراه من أن التفكیر قصیر الأمد ضیق الأفق یمكن أن ینتقل بالعدوى، فإن فردًا واحدًا یجسد الحكمة في نظرته الثاقبة یمكن أن یكون له تأثیر إیجابي عظیم فیمن یحیطون به، فهؤلاء الأفراد یجعلوننا ندرك الصورة الكبیرة للأحداث، ویكشفون لنا عن توجهات عقلیة نرى فیها طریقة تفكیر سامیة فنرغب في تقلیدهم.
وقد كان هناك على مر التاریخ نماذج مختلفة لهذه الحكمة تلهمنا وترشدنا إلى السداد
وإذا أمكنك فلتتجنب الارتباط بصلات وثیقة مع أصحاب الأفق الزمني الضیق الغارقین في مزاج تفاعلي قائم على ردود الأفعال باستمرار، واسْعَ جاهدًا إلى مصاحبة من كان إدراكهم للزمن رحبًا واسعًا.
أربع علامات على قصر النظر وأسالیب التغلب علیها:
یتصور معظمنا بأننا نقوم بصورة من صور التفكیر بعید الأفق؛ فنحن عندنا أهداف وخطط على كل حال، لكن الحق أننا بذلك نخدع أنفسنا، ویتضح هذا الأمر لنا أكثر ما یتضح عندما نتحدث إلى آخرین بما یخص مخططاتهم للمستقبل القریب والبعید؛ فترانا غالبًا نفاجأ بأنها خطط مبهمة، وتفتقد إلى التفكیر العمیق في عامتها، وهي أشبه بآمال وتمنیات، وفي زحمة الأحداث الآنیة، ومع شعور المرء بالتوتر والحاجة إلى الاستجابة
للأحداث، نرى هذه الأهداف والخطط الواهیة تسقط بسهولة، وترانا في أكثر الأحیان نرتجل أفعالنا، وردود أفعالنا على الأحداث الجاریة، وتنقصنا المعلومات الكافیة بشأنها.
وننكر هذا الأمر ببساطة لأنه یصعب علینا أن نراجع عملیة صنع القرار عندنا.
وأفضل طریقة للتغلب على ذلك هي بإدراكنا العلامات الواضحة للتفكیر قصیر النظر في حیاتنا. فكما هو الحال مع معظم عناصر الطبیعة البشریة، نجد أن إدراكنا لها هو مفتاحنا للتحكم فیها، فلا نستطیع مواجهة تلك العلامات إلا إذا رأیناها، ونذكر فیما یأتي
المظاهر الأكثر شیوعًا للتفكیر قصیر النظر:
1- العواقب غیر المقصودة: یزخر التاریخ بأمثلة لا تعد ولا تحصى لهذه الظاهرة؛ ففي روما القدیمة كان هناك مجموعة من الرجال المخلصین للنظام الجمهوري، یخشون من بقاء یولیوس قیصر على حكمه الاستبدادي الدیكتاتوري وإقامته نظام حكم ملكي؛ فقرروا في سنة 44 قبل المیلاد اغتیاله لیستعیدوا بذلك النظام الجمهوري؛ وفیما أعقب الاغتیال من فوضى وفراغ في السلطة صعد أوكتافیوس ابن أخت القیصر إلى القمة، واستحوذ على السلطة، وألغى العمل بالنظام الجمهوري بصورة نهائیة بإنشائه نظامًا ملكیا بحكم الأمر الواقع، وبعد موت قیصر ظهر بأنه لم یكن یرید أبدًا إنشاء نظام حكم ملكي؛ فتسبب المتآمرون على قیصر بما كانوا یحاولون منعه بالضبط.
وفي الهند في القرن التاسع عشر -وتحت حكم الاحتلال البریطاني- رأت السلطات آنذاك أن هناك الكثیر من أفاعي الكوبرا السامة تنتشر في طرقات دلهي، وكانت تزعج حیاة المستوطنین البریطانیین وعائلاتهم، ولحل المشكلة عرضت السلطات مكافأة مقابل كل أفعى میتة یأتي بها الأهالي، فما كان من أصحاب الجرأة منهم إلا أن أخذوا یربُّون الأفاعي ویزیدون في تكاثرها، لیكسبوا رزقهم من المكافأة، واكتشفت الحكومة ذلك، فألغت برنامج المكافآت، ونتیجة استیاء مربي الأفاعي من الحكام وحنقهم من تصرفاتهم قرروا إطلاق أفاعیهم إلى الطرقات مرة أخرى، وتضاعفت بذلك أعداد الأفاعي في الطرقات ثلاث مرات عنها قبل شروع الحكومة ببرنامجها ذاك.
ومن الأمثلة المشتهرة الأخرى: قانون التعدیل الثامن عشر (على الدستور الأمریكي)،
الذي أسس لتحریم المسكرات في الولایات المتحدة الأمریكیة سنة 1920 ، وكان یهدف إلى
وقف انتشار الإدمان على الخمور، إلا أنه لم یفضِ إلا إلى زیادة استهلاكها بكمیات كبیرة.
ومن الأمثلة أیضًا الهجوم الیاباني المفاجئ على قاعدة بیرل هاربر العسكریة البحریة الأمریكیة سنة 1941 ، الذي كان الهدف منه القضاء على القوة البحریة الأمریكیة
بضربة قاصمة واحدة، وإخضاع الولایات المتحدة الأمریكیة، لكنه بدلًا من ذلك هز الشعب الأمریكي، وأخرجه من حبه للعزلة، وأدى إلى حشد القوى العاملة الكبیرة في البلاد، وحشد مواردها الضخمة؛ لا لتهزم الیابانیین وحسب، بل لتبید قوتهم العسكریة عن بكرة أبیها، فنجاح الهجوم هو بالضبط ما كفل تحقیق نقیض النتیجة المقصودة.
ویمكن أن نجد أمثلة أخرى أقل إثارة في هذا المجال في حیاتنا الیومیة؛ فترانا نحاول السیطرة على مراهق متمرد بوضعنا قیودًا على تصرفاته، فلا یزیده ذلك إلا تمردًا وجموحًا، ونرى أحدنا یحاول إبهاج امرأة مكتئبة بجعلها تدرك بأن حیاتها لیست بذلك السوء الذي یجعلها مكتئبة، وبأن الشمس ما زالت تشرق؛ فلا نراها إلا ازدادت اكتئابًا على اكتئاب، فقد أصبحت تشعر بالذنب بسبب مشاعرها، وبأنها لا قیمة لها، وبأنها وحیدة في تعاستها، ونرى الزوجة تحاول أن تجعل زوجها أكثر انفتاحًا معها، ویحدوها الأمل بزیادة الألفة بینهما، فتسأله عما یفكر به، وما حدث معه في مسیرة یومه، وما شاكل ذلك، لكنه یفسر ذلك بأنه تدخُّلٌ منها في شؤون لا تمسُّها، فیزداد انغلاقًا تجاهها، ویؤول ذلك إلى ازدیاد شكوك الزوجة، وازدیاد تطفُّلها، ویزداد هو بذلك انغلاقًا على انغلاقه.
والسبب في هذه المتلازمة القدیمة بسیط إلى حدٍّ ما: فنتیجة قلقنا من شيء ما في الزمن الحاضر ننتهز حلا لقلقنا دون أن نمعن التفكیر في سیاق المشكلة، وجذورها، والعواقب المحتملة غیر المقصودة التي یمكن أن تتمخض عن ذلك الحل؛ وبما أن الغالب علینا هو رد الفعل -لا إعمال الفكر- فإن تصرفاتنا ترتكز على معلومات غیر كافیة؛ فلم یكن قیصر یخطط لإنشاء حكمٍ ملكي؛ وفقراء دلهي كانوا یحتقرون حكامهم المحتلین، ولن یرضوا أن یخسروا عن طیب خاطر نقودًا فجأة؛ والأمریكیون كانوا مستعدین للمضي إلى الحرب إذا تعرضوا للهجوم، فعندما نعمَل بناءً على نظرة مشوهة من ذلك القبیل فلن نحصد إلا كل أنواع التأثیرات المناقضة لمرامنا. وفي جمیع الأمثلة السابقة، كان تحركٌ بسیط لصعود الجبل قلیلًا سیوضح العواقب السلبیة المحتملة بكل جلاء؛ بالتأمل فیما جرى: فعلى سبیل المثال، كان تقدیم المكافآت مقابل الأفاعي المیتة سیجعل بصورة طبیعیة الأهالي المعدَمین یربُّونها ویزیدون في تكاثرها.
ونرى في الحالات السابقة جمیعًا، أن تفكیر الناس كان تفكیرًا بسیطًا وبلیدًا: اقتلوا قیصر لیعود لكم النظام الجمهوري، افعلوا الأمر (أ) لتحصلوا على النتیجة(ب)، ومن صور هذا المنهج صورة شائعة جدا في عالمنا الحدیث؛ وهي الاعتقاد بأنه إذا كانت نوایا الناس طیبة فلا بد أن ینتج منها أمور طیبة، وإذا كان أحد الساسة صادقًا حسن النیة فسیأتینا بالنتائج المرجوَّة. والحق أن النوایا الطیبة غالبًا ما تقودنا إلى ما یعرف باسم:
(تأثیر أفعى الكوبرا)؛ لأن الناس بمقاصدهم النبیلة غالبًا ما تعمیهم مشاعر باستقامة النفس، ولا یأخذون في حسبانهم الدوافع المعقدة عند الآخرین التي كثیرًا ما تحمل الحقد والضغینة.
إن عدم التفكیر في عواقب الأمور أو التفكیر غیر السببي، هو وباء حقیقي في عالمنا الیوم، وهو یزداد سوءًا نتیجة سرعة الوصول إلى المعلومات وسهولة الحصول علیها؛ فیصور ذلك للناس أوهامًا عرفوها وتخیلوها في أعماقهم. ولننظرْ في حروب التدمیر الذاتي، من قبیل غزو العراق سنة 2003 ، ومحاولات إغلاق مكاتب الحكومة الأمریكیة للحصول على مكاسب سیاسیة قصیرة الأمد، وازدیاد عدد الفقاعات المالیة (المضاربات المهلكة)؛ من أسهم شركات التقنیة إلى العقارات، ویتصل بذلك انفصال تدریجي للناس عن التاریخ؛ حیث یمیل الناس إلى رؤیة الأحداث الراهنة وكأنها معزولة بزمانها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق