30‏/03‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 40

 قوانين الطبيعة البشرية 40

7

خفف مقاومة الناس بتعزیز اعتدادهم بأنفسهم

(قانون السلوك الدفاعي )

الحیاة قاسیة، والناس في تنافس، ویجب علینا بصورة طبیعیة أن ننظر فیما هو أبعد من اهتماماتنا . كذلك فإن علینا أن نشعر بالاستقلالیة، فنقوم بالأعمال التي نریدها، وهذا هو السبب الذي یجعلنا نصبح في موقف دفاعي إذا حاول بعض الناس إقناعنا أو تغییرنا على نحو یخالف قناعاتنا وأفكارنا واستسلامنا له یناقض حاجتنا إلى الشعور بالاستقلالیة، وهذا هو السبب في أنك لتجعل الناس یتخلون عن مواقفهم الدفاعیة، علیك دائمًا أن تجعل الأمر یبدو وكأنهم یفعلون ما یفعلونه بإرادتهم الحرة، وسیساعدك إیجاد شعور بالمودة المشتركة في تخفیف مقاومة الناس، وجعلِهم یرغبونفي المساعدة، فإیاك أن تهاجم الناس بسبب معتقداتهم، أو تجعلهم یشعرون بعدم الثقة بذكائهم أو صلاحهم، فلن یؤدي ذلك إلا إلى تصلبهم في موقفهم الدفاعي، ویجعل مهمتك في تخفیفه مستحیلة، واجعلهم یشعرون بالنبل والإیثار إذا هم فعلوا ما تریده منهم؛ وذلك أعظم الإغواء. وتعلَّم أن تلیِّن أنت طبیعتك العنیدة، وتحرر عقلك من مواقفه الدفاعیة والمنغلقة؛فتنطلق بذلك قدراتك الإبداعیة.

 

 

 

لعبة التأثیر

 

في شهر كانون الأول/دیسمبر سنة 1948 ، استقبل عضو مجلس الشیوخ الأمریكي عن مقاطعة تكساس، توم كونالي، استقبل زائره عضو مجلس الشیوخ المنتخب حدیثًا عن الولایة نفسها: لیندون جونسون وكان جونسون قد عمل -قبل انتخابه في مجلس الشیوخ- عضوًا في مجلس النواب، نائبًا عن الحزب الدیمقراطي مدة 12 سنة، واكتسب صِیتًا واسعًا بأنه سیاسي صاحب طموحات كبیرة یتوق بشدة لتحقیقها؛ وربما  كان متهورًا، ومتعنتًا، وانتهازیا بعض الشيء أیضًا.  وكان كونالي یعلم كل ذلك، إلا أنه كان یرید أن یحكم على جونسون بنفسه؛ فقام

بدراسة عن كثب لهذا الشاب الناشئ كان كونالي یكبُر جونسون ب 31 سنة، وكان قد قابله من قبل، ورأى فیه شیئًا من الفطنة، وبعد أن تبادل الرجلان بعض المجاملات كشف جونسون عن دوافعه الحقیقة: فقد كان یأمل في أن یشغَل مقعدًا في إحدى اللجان الثلاث المرموقة في مجلس الشیوخ؛ لجنة المخصصات، ولجنة الشؤون المالیة، ولجنة العلاقات الخارجیة. وسبق لكونالي أن كان كبیر الأعضاء في اثنتین منهما، وبدا أن جونسون یظن أنه بسبب أنهما زمیلان من تكساس فإن كونالي سیساعده في الحصول على ما یریده، وشعر كونالي بأنه من الواضح أن جونسون لم یفهم كیف كان یسیر نظام الأقدمیة في مجلس الشیوخ، وقرر أن یعلمه درسًا منذ ذلك الحین.

 

فتصرف كونالي وكأنه یؤدي لجونسون خدمة عظیمة، وعرض مساعدته في الحصول على مقعد في لجنة الزراعة، مع علمه یقینًا بأن جونسون سیجد في ذلك أمرًا مهینًا؛ فقد كانت من أقل اللجان المرغوبة بین لجان مجلس الشیوخ، ولیزید في عمق طعنته قال كونالي إنه كان یتابع حملة جونسون الانتخابیة للدخول في مجلس الشیوخ، وبأنه سمعه یهتف مرات ومرات بأنه صدیق الفلاحین، وقد حانت فرصته لإثبات ذلك؛ فلجنة الزراعة ستناسبه تمامًا، ولم یستطع جونسون أن یخفي استیاءه، فتلوَّى منزعجًا في كرسیه، وواصل كونالي حدیثه فقال ثم بعد ذلك یا لیندون، وبعد أن تمضي علیك برهة من الزمن في مجلس الشیوخ، تتقدم لتشغل مقعدًا في لجنة العلاقات الخارجیة أو لجنة الشؤون المالیة، لتدخل مجال الوظیفة العامة الحقیقیة وكان كونالي یعني بقوله: برهة من الزمن ما یتراوح بین 12 سنة و 20 سنة، وهي المدة المعتادة التي یستغرقها أي عضو في مجلس الشیوخ لیجمع لنفسه ما یكفي من النفوذ؛ فهذا ما یدعى

بالأقدمیة، وهكذا یسیر النظام في هذا المجلس، وقد استغرق الأمر من كونالي نفسه نحوًا من عشرین سنة لیصل إلى مناصبه في تلك اللجان.

 

وفي الأسابیع القلیلة اللاحقة سرت شائعات بین أعضاء مجلس الشیوخ بأن جونسون شخص لا بد من مراقبته، فمن المحتمل أن یكون صاحب طبع أهوج؛ فسعِد كثیر منهم برؤیته ولقائه لأول مرة بعد تسلمه منصبه رسمیا، لكنه لم یكن كما توقعوه بالضبط، فقد كان مثالًا للأدب، وشدة الاحترام للآخرین، وأصبح یكثر من زیاراته لهم في مكاتبهم، فتراه یبلِغ السكرتیرة في المكتب الخارجي بحضوره، ثم ینتظر بكل صبر إلى أن یؤذن له بالدخول، وربما وصلت مدة انتظاره إلى ساعة كاملة، ولم یكن یبدو علیه الانزعاج من ذلك؛ بل كان یشغل نفسه بالقراءة أو بكتابة ملاحظات له، فإذا دخل فإنه یسأل العضو في مجلس الشیوخ عن زوجته وأسرته، أو یسأله عن فریقه الریاضي المفضل، ومن الواضح أنه كان قد أجرى مسبقًا شیئًا من البحث في أحوال عضو مجلس الشیوخ الذي یسأله، وكان یمكنه أن یكون متواضعًا للغایة، فیغض من قدر نفسه، وكان كثیرًا ما یقدم نفسه للآخرین باسم المتغلب لیندون فالجمیع كانوا یعلمون بأنه نال مقعده

في مجلس الشیوخ بفارق ضئیل جدا من أصوات المقترعین.

لكنه في معظم الأحیان، كان یزورهم للحدیث في شؤون العمل وطلب النصیحة؛ فیسأل سؤالًا أو سؤالین عن قانون ما، أو عن إجراءات معمول بها في مجلس الشیوخ، ویستمع بكل إنصات؛ بما یدهش محدثه ویأسره؛ وكأنه طفل رزین. وكانت عیناه البنِّیَّتان الواسعتان، تَبقیان ثابتتین في نظرهما إلى عضو مجلس الشیوخ الذي یسأله؛ وكان بین الفینة والأخرى یومئ برأسه بالموافقة وذقنُه مستندة على یده؛ ویسأل سؤالًا آخر من وقت لآخر، فكان بوسع أعضاء مجلس الشیوخ أن یجزموا بأنه كان یولیهم اهتمامه الشدید؛ لأنه كان دائمًا یتصرف وفق نصائحهم، أو یكرر نصائحهم للآخرین، مع عزوها إلى عضو مجلس الشیوخ الذي كان نصحه بها. وكان یغادر مكاتبهم ولسانه یلهج بالشكر الجزیل على ما منحوه له من وقت، وما قدموه من توجیهات ثمینة، ولم یكن ذلك بالشخص العجول الأهوج الذي سمعوا الكثیر عنه، بل تحول صیتُه إلى نقیض

ذلك. وكان أعضاء مجلس الشیوخ یرونه في أغلب الأحیان في الطابق الأرضي في مبنى مجلس الشیوخ، وبخلاف الآخرین في المجلس كان یحضر جمیع الجلسات، ویجلس طوال الوقت تقریبًا  في المقعد المخصص له، وكان یدوِّن ملاحظات وافرة. فقد كان یرید أن یتعلم كل شيء عن إجراءات الأقدمیة المتبعة في مجلس الشیوخ؛ وهي ثقیلة بلیدة، لكنها بدت آسرة له. وكان بعیدًا كل البعد عن أن یكون بلیدًا مغفلًا، وإذا صادفه أعضاء مجلس الشیوخ في الرواق أو في غرفة المعاطف، أطرفهم بطرفة خفیفة، أو أتحفهم بنادرة مسلیة، فقد أمضى السنوات الأولى من حیاته في بیئة ریفیة فقیرة، وعلى الرغم من نیله حظا وافرًا من التعلیم، إلا أنه كان یحتفظ في كلماته بشيء من الدعابة اللطیفة والحادة؛ مما یحمله فلاحٌ من تكساس وعامل مهاجر، فألفاه أعضاء مجلس الشیوخمسلیًا. حتى إن توم كونالي اعترف بأنه قد أخطأ في فهمه بطریقة أو بأخرى.

 

وأصبح أعضاء مجلس الشیوخ -المتقدمون في السن على وجه الخصوص؛ وكانوا یلقبون في تلك الأیام ب (الثیران الهرمة)- أصبحوا ینظرون إلى لیندون جونسون بعین التقدیر الاستحسان ،  فمع أنهم كانوا یتولون مناصب تخولهم سلطات كبیرة بسبب أقدمیتهم في المجلس، إلا أن القلق كان یراودهم من تقدم أعمارهم فقد كان بعضهم في الثمانینیات من عمره، ومن تراجع قدراتهم الجسمانیة والذهنیة، لكن لذلك بسبب تقدمهم في العمر كان جونسون یزورهم في مكاتبهم منكبا على النهل من حكمتهم.

وكان ریتشارد راسل من جورجیا أحد كبار مجلس الشیوخ من الحزب الدیمقراطي، وقد تعلق بجونسون واستأثر بقلبه. وكان یكبر جونسون بأحد عشر عامًا فقط، لكنه دخل في مجلس  الشیوخ  منذ سنة 1933 ، وأصبح من أعظم أعضائه نفوذًا، وقد تعرف أحدهما بالآخر بعد أن طلب جونسون أن یكون له مقعد في لجنة القوات المسلحة، وحصل علیه؛ وكان راسل ثاني أكبر أعضائها. وكان راسل یصادف جونسون في غرفة المعاطف، والأروقة، والطابق الأرضي في مبنى مجلس الشیوخ؛ لقد بدا أنه یصادفه في كل مكان، وبما أن جونسون كان یزور راسل في مكتبه یومیا تقریبًا، فقد أصبح راسل یستمتع بحضوره، وكان أكثر اهتمام جونسون بالعمل على غرار راسل، وكانت لدیه أسئلة كثیرة عن الإجراءات الخفیة في مجلس الشیوخ، وأخذ یدعو راسل بلقب: المعلم الكبیر، وكثیرًا ما كان یقول حسنًا، كان ذلك درسًا من المعلم الكبیر. وسأذكره دائمًا وكان راسل أحد أعضاء مجلس الشیوخ القلائل الذین اختاروا حیاة العزوبیة، ولم

یكن یعترف أبدًا بالوحدة، لكنه كان یمضي جل وقته في مكتبه في مجلس الشیوخ، حتى في أیام العطلة الأسبوعیة، وبما أن جونسون كان یتردد كثیرًا على مكتب راسل لیناقش معه بعض المسائل حتى المساء فقد كان بعد انتهائهما من المناقشة یدعو راسل أحیانًا إلى تناول طعام العشاء معه في منزله، قائلًا له بأن زوجته، واسمها: لیدي بیرد طاهیة بارعة، وبخاصة في إعداد أطباق الطعام المعروفة في الولایات الجنوبیة. وفي المرات الأولى كان راسل یرفض الدعوة بكل لطف وأدب، إلا أنه في آخر الأمر لان لصاحبه، وما لبث أن أصبح ضیفًا منتظمًا في منزل جونسون؛ مرة في كل أسبوع.

 

وكانت (لیدي بیرد) صاحبة جاذبیة وعذوبة، فما لبث راسل أن أُخِذ بها. وتعمقت العلاقة بین راسل وجونسون شیئًا فشیئًا. وكان راسل من محبي ریاضة كرة القاعدة البیسبول، وكان مما أبهجه أن جونسون اعترف له بعشقه للریاضة أیضًا، وهكذا بات بإمكانهما المضي معًا لحضور مباریات فریق واشنطن سیناتورز لیلًا، ولم یكن یمر یوم دون أن یرى أحدهما الآخر، وكان الاثنان العضوین الوحیدین في مجلس الشیوخ اللذین یعملان في مكتبیهما أیام العطلة الأسبوعیة، وبدا أن لدیهما اهتمامات كثیرة جدا مشتركة بینهما؛ وكانت الحرب الأهلیة الأمریكیة إحداها؛ وكانت أفكارهما متشابهة حیال قضایا كثیرة جدا أثیرة في قلوب أعضاء الحزب الدیمقراطي من الولایات الجنوبیة؛ من قبیل معارضتهما لإصدار قانون للحقوق المدنیة.

 

وسرعان ما غدا راسل یُسمَع مثنیًا على جونسون عضو مجلس الشیوخ المستجد؛ بأنه الشاب المُجِدُّالذي لدیه قدرة تساوي قدرته هو في إنجاز الأعمال الصعبة، وكان جونسون عضوَ مجلس الشیوخ المستجد الوحید -في حیاته المهنیة الطویلة- الذي یشیر إلیه بوصف التلمیذ، وازدادت صداقتهما قربًا على قرب، فبعد أن حضر راسل حفلة صید أقامها جونسون في تكساس، بعث إلى جونسون برسالة قال له فیها منذ أنلاوصلت إلى منزلي، وأنا أتساءل: هل سأستیقظ لأجد نفسي أنني إنما كنت أحلم بذهابي في رحلة إلى تكساس؛ فكل شيء كان ممتازًا للغایة، لدرجة أنه من الصعب أن یتوقع المرء أن ذلك یمكن أن یحدث في الحیاة الحقیقیة.

وفي سنة 1950 ، اندلعت الحرب الكوریة، واشتدت الضغوط على لجنة القوات المسلحة في مجلس الشیوخ الأمریكي لتقوم بتشكیل لجنة فرعیة تقوم بالتحقیق في الاستعدادات العسكریة للحرب، وكانت لجنة فرعیة من هذا القبیل قد تشكلت في سنوات الحرب العالمیة الثانیة برئاسة هاري ترومان؛ وبسبب منصب ترومان في رئاسة تلك اللجنة أصبح مشهورًا، وصعد إلى سدة الحكم، وكان الرئیس آنذاك للجنة القوات المسلحة هو عضو مجلس الشیوخ میلارد تایدینغس من ولایة میریلاند، وكان تایدینغس سیتولى رئاسة اللجنة الفرعیة طبعًا، فهي منصة عظیمة یبني علیها شهرته.

 

إلا أن جونسون قدم اقتراحًا إلى تایدینغس: فبما أن تایدینغس كان بصدد إقامة حملة لإعادة انتخابه في تلك السنة، فقد اقترح علیه جونسون أن یترأس أي جونسون اللجنة الفرعیة إلى أن تحین الانتخابات وحسب، لیتسنى لتایدینغس التركیز على الفوز في حملته، وبعد ذلك یتنحى جونسون لیتولى تایدینغس ذلك المنصب، لكن تایدینغس كان محصنًا بما تجمع عنده من نفوذ وسلطة، فرفض عرض جونسون، إلا أن راسل التقى به، وقال شیئًا أقنع تایدینغس بتغییر رأیه، فجرت تسمیة جونسون رئیسًا للَّجنة الفرعیة، وكان ذلك انقلابًا مبهرًا بالنسبة لعضو في مجلس الشیوخ لم یمض علیه إلا سنة ونصف فقط في المجلس، واستمر جونسون في رئاسة تلك اللجنة الفرعیة برهة من الزمن؛ بعد أن خسر تایدینغس جولة إعادة انتخابه.

وبعد أن أصبح جونسون رئیسًا للجنة الفرعیة أخذت تسلَّط علیه أضواء الإعلام والشهرة على مستوى البلاد، واكتشف الصحفیون الذین یتابعون أخبار مجلس الشیوخ بأنه كان خبیرًا في التعامل مع الصحافة، وكان متحفظًا حذرًا في ذكر نتائج اللجنة الفرعیة، مانعًا إنماء أي معلومات إلى الصحفیین؛ فكان یحیط عمله بغموض كبیر وإثارة عظیمة، معطیًا الانطباع بأن اللجنة الفرعیة بصدد كشف أعمال قذرة كبیرة في القوات المسلحة، وكان یكشف المعلومات والتقاریر لمجموعة مختارة من الصحفیین النافذین، الذین یكتبون مقالاتهم بموافقته، أما الصحفیون الآخرون فكان علیهم أن یجاهدوا للحصول على فُتَات الأخبار التي یتكرم فیقدمها إلیهم.

 

وأخذ عضو مجلس الشیوخ المستجد یفتن رجال الهیئات الصحفیة؛ فكان قاسیًا معهم لكنه متعاطف مع مهنتهم، والأهم من ذلك، أنه كان یعرف كیف یعطیهم قصة جیدة من الأخبار. وما لبث بعضهم أن أصبح یكتب عنه واصفًا إیاه بأنه وطني غیور، وأنه قوة سیاسیة مستقبلیة لا یستهان بها، وبات بمقدور راسل أن یدافع عن ترقیته لجونسون؛ إنه عضو مجلس الشیوخ الذي جاء من تكساس وقام بعمل عظیم، وجاء أخیرًا بشيء من الشهرة الطیبة للمجلس.

وفي شهري أیار/مایو وحزیران/یونیو من سنة 1951 ، عمل جونسون وراسل معًا بصورة وثیقة على استدعاء اللواء ماك آرثر من كوریا، وأصبح راسل مطلعًا عن كثب على مجموعة العمل التي تعمل مع جونسون، وأذهلته كفاءتها العالیة، وكانت أكبر وأفضل تنظیمًا من مجموعته هو، فأشعره ذلك بأنه ما عاد یجاري الزمن؛ إلا أن جونسون -وكأنه كان یحس بأفكار صدیقه- أخذ یساعد راسل على بناء مجموعة عمل حدیثة له، فمكَّنه من الوصول إلى جمیع مجموعات العمل القانونیة، ومجموعات العلاقات العامة التي كان أسسها؛ مظهرًا لصدیقه راسل قدر فائدتها. ومع عمل جونسون مع صدیقه في هذا المجال، ازدادت الرابطة بینهما قوة على قوة. وفي أحد الأیام، قال (راسل لأحد الصحفیین هذا اللیندون جونسون یمكن أن یصبح رئیسًا

للبلاد، وسیكون رئیسًا جیدًا ودهش الصحفي لهذا القول، فقد كان راسل أبعد ما یكون عن قول إطراء من هذا القبیل.

وفي یوم ربیعي من سنة 1951 ، كان عضو مجلس الشیوخ (هیوبرت هامفري) من ولایة مینیسوتا ینتظر وصول قطار المترو للذهاب إلى مبنى الكونغرس الأمریكي

(الكابیتول)، وإذ بلیندون جونسون یقترب منه فجأة، ویقترح علیه أن یذهبا معًا، ویتجاذبا

أطراف الحدیث، وكانت تلك الكلمات أشبه بأنغام الموسیقى بالنسبة لهامفري؛ وكان یكاد لا یصدق أن جونسون صادق في عرضه ذاك، فقد دخل هامفري مجلس الشیوخ في الوقت نفسه الذي دخله فیه جونسون، وكان یعد النجم الأكثر سطوعًا، فقد كان لیبرالیا (متحررًا) صاحب شخصیة جاذبة، ویمكن أن یكون رئیسًا (للولایات المتحدة الأمریكیة) یومًا ما، إلا أن هامفري كانت لدیه مشكلة كبیرة تعیق صعوده إلى القمة: فقد كان یؤمن إیمانًا متزمتًا بقضایا اللیبرالیة بصورة نفرت منه أكثر الناس؛ ففي أول خطاب لهامفري في مجلس الشیوخ انتقد المجلس بسبب بطء المجلس في تغییر نفسه، والتراخي السائد فیه. وسرعان ما تلقى الرد على كلمته فنُبِذ في أسوأ لجان المجلس، وكانت القوانین التي یقترحها تولد میتة، وإذا مشى إلى غرفة المعاطف في المجلس تجنبه الجمیع تقریبًا، ومع ازدیاد هذا الاستبعاد له أخذ هامفري یشعر شیئًا فشیئًا بالكآبة والقنوط، وكان یقود سیارته عائدًا من عمله إلى المنزل (في أكثر أیامه)، فربما ركن سیارته جانبًا ونشج بالبكاء، لقد كانت حیاته المهنیة تمر بمنعطف سیئ للغایة.

 

وفي عربة قطار المترو أشاد به جونسون إشادة مستفیضة، وقال له یا هیوبرت إنك لا تدري كم هو رائع بالنسبة لي أن أركب معك للذهاب إلى قاعة مجلس الشیوخ.  إنني أحسدك من وجوه كثیرة، فأنت إنسان واضح، وتتمتع بمجال واسع من المعرفة لكن بعد شعور هامفري بالارتیاح لسماعه هذه الكلمات، صعقته الانتقادات القاسیة التي ساقها إلیه جونسون بعد ذلك؛ حیث قال له

لكن یا للأسف، فأنت یا هیوبرت تنفق الساعات الطویلة في صنع خطاباتك، فلا یتبقى عندك وقت لإنجاز أي شيء آخر

فكان على هامفري (في نظر جونسون) أن یكون إنسانًا واقعیا، وینسجم مع محیطه.

وعندما تفرقا في آخر المطاف، دعاه جونسون إلى زیارة مكتبه یومًا ما لتناول بعض الشراب، وسرعان ما أصبح هامفري زائرًا منتظمًا (لمكتب جونسون)، وسرعان ما أصبح جونسون العضوُ في مجلس الشیوخ من الولایات الجنوبیة یأسره؛ جونسون الذي یبغضه اللیبرالیون من الولایات الشمالیة أشد البغض لأنه الصدیق العزیز لقطب  المحافظین (راسل).

 

وهكذا نرى أن جونسون كان أولًا :مسلیًا للغایة، فكل ما یقوله كان یرفقه بطرفة لطیفة، وكانت عنده دعابات كثیرة بذیئة یخرج منها بعِبرة فاسدة، وعندما كان یجلس في مكتبه، كان یصب الشراب (لضیوفه) بسخاء، وكان یثیر نوبات من الضحك یدوي صداها في أروقة المجلس، فكان من الصعب مقاومة رجل یمكنه أن یجعلك في مزاج طیب للغایة؛ لقد كان حضوره مذهلًا؛ وكتب عنه هامفري بعد ذلك یقول لقد جاءنا وكأنه أمواج المد التي تغمر المكان كله، لقد كان یخترق الجدران، لقد كان یدخل من الباب ویستحوذ  على الغرفة كلها.

 

وكان ثانیًا: صاحب معلومات قیمة یشاطرها مع الآخرین؛ فعمل على تعلیم هامفري جمیع تعقیدات إجراءات مجلس الشیوخ، وما جمعه من معلومات عن نقاط الضعف النفسیة لأعضاء مختلفین في مجلس الشیوخ عن طریق مراقبتهم عن كثب، وأصبح جونسون أعظم من أحصى أصوات الاقتراع في تاریخ مجلس الشیوخ؛ فقد كان قادرًا على التنبؤ بنتائج معظم عملیات الاقتراع في المجلس بدقة مذهلة. وشاطر هامفري طریقته في إحصاء أصوات المقترعین.

 

وأخیرًا: علَّم هامفري أن بإمكانه اكتساب القوة والنفوذ في المجلس عن طریق الحلول الوسط، وأن یتحلى بكثیر من الواقعیة وقلیل من المثالیة، وكان یشاطره أخبارًا عن فرانكلین روزفلت (الرئیس الأمریكي)؛ البطل الهمام في نظر هامفري؛ فعندما كان جونسون في مجلس النواب (قبل مجیئه إلى مجلس الشیوخ)، كان قد بات صدیقًا مقربًا من الرئیس روزفلت، وكان جونسون یرى في روزفلت السیاسي البارع الذي یعرف كیف ینجز أموره بالانسحاب التكتیكي، أو حتى بالحلول الوسط، والمعنى الضمني في ذلك أن جونسون كان في الحقیقة لیبرالیا في داخله، مغرمًا بروزفلت، ویرید إقرار قانون للحقوق المدنیة؛ حاله في ذلك حال هامفري.

فقد كان الاثنان یقفان في جبهة واحدة، یكافحان في سبیل القضایا النبیلة نفسها.

 

ونتیجة عمل هامفري مع جونسون، لم تكن هناك حدود لمدى صعود هامفري في المجلس، وصعوده إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد كان جونسون مصیبًا في ظنه بأن هامفري یحمل في صدره طموحات للوصول إلى الرئاسة، وجونسون نفسه لم یكن لیصبح رئیسًا -أو هذا ما قاله لهامفري- لأن البلاد غیر مستعدة بعدُ لتقبُّل رئیس قادم من الولایات الجنوبیة؛ إلا أن بوسعه أن یساعد هامفري في الوصول إلى الرئاسة، واجتماعهما معًا یشكل فریقًا لا یقهر وكان ما ثبَّت الصفقة في نظر هامفري، أن جونسون شرع في تلطیف الأجواء داخل المجلس لمصلحة هامفري، فتحدث جونسون إلى زملائه من الحزب الدیمقراطي من الولایات الجنوبیة عن ذكاء هامفري وظرفه، وبأنهم أخطؤوا في فهمه من الناحیة الإنسانیة، وبعد أن ألانهم جونسون بهذه الطریقة، عاد وقدمه إلیهم للتعارف، فوجدوا فیه شخصًا جذابًا، والأهم من كل ذلك أنه جعل (راسل) یغیر رأیه في هامفري؛ و(راسل) قطب بمقدوره أن یحرك الجبال الراسخة. والآن، بعدما أصبح هامفري یرتوي بكؤوس الشراب مع أعظم أعضاء مجلس الشیوخ نفوذًا تلاشت الوحدة التي كان یعیش فیها، وشعر بأنه ملزَم برد الجمیل، فانكب على جعل كثیرین من اللیبرالیین من الولایات الشمالیة یغیرون رأیهم في جونسون؛ الذي بدأ تأثیره الآن ینتشر انتشارًا حثیثًا خفیا.

 

وفي سنة 1952 صعد الجمهوریون إلى سدة الحكم بعد انتخاب الرئیس الأمریكي (دوایت أیزنهاور)، وتولوا السیطرة على مجریات الأمور في مجلسي الشیوخ والنواب، وكان من الخاسرین في تلك الانتخابات (إرنست ماكفارلاند) من ولایة أریزونا، وكان زعیمَ الدیمقراطیین السابق في مجلس الشیوخ، والآن بعد أن أصبح منصب زعامة الدیمقراطیین في المجلس شاغرًا بدأ التزاحم للحصول علیه.

 

واقترح جونسون أن یتولى (راسل) زعامة الدیمقراطیین، لكن(راسل) رفض؛ فبوسعه أن یستحوذ على نفوذ أكبر بالعمل من وراء الكوالیس، وبدلًا من ذلك اقترح على جونسون أنه هو من یجب أن یكون الزعیم الجدید، وأن بإمكان (راسل)العمل على تحقیق ذلك؛ أما جونسون -الذي تصنَّع المفاجأة- فقال إنه سینظر في الأمر، لكن بشرط أن یبقى (راسل: (المعلمَ الكبیر، وینصحَ جونسون في كل خطوة یخطوها، ولم یزد في كلامه على ذلك، وفي غضون أسابیع، ساعده (راسل) بصورة جوهریة في الحصول على الزعامة، وكان ذلك انقلابًا لافتًا؛ ففي سن الرابعة والأربعین أضحى جونسون أصغر زعیم حزبي في مجلس الشیوخ في تاریخ الحزبین الرئیسین حتى ذلك الحین.

 

وبعد بضعة أسابیع مرت على جونسون في منصبه الجدید ذهب إلى (راسل) لیطلب منه أغرب طلب طلبه؛ فالمناصب في اللجان الرئیسة كانت تعتمد منذ عقود على الأقدمیة في المجلس، لكن ذلك كان یعني أن رؤساء اللجان غالبًا لا یكونون مؤهلین لمناصبهم؛ فالرجال الذین وصلوا إلى أعمار السبعینیات والثمانینیات لدیهم أفكار راسخة في الماضي، ولیست عندهم طاقة على تحمل المعارك الكبیرة، والآن وقد بات الجمهوریون یحكِمون قبضتهم على المجلس، فإنهم یخططون للتراجع عن بعض أعظم إنجازات روزفلت في قوانین (العقد الجدید) والسیاسة الخارجیة، وستكون هاتان السنتان عصیبتین؛ إلى أن یحین موعد الانتخابات النصفیة.

 

لقد أراد جونسون من منصب زعامة الدیمقراطیین في مجلس الشیوخ أن یحوز السلطة اللازمة لتغییر معالم لجان المجلس، ولم یكن یدعو لأي شيء فیه تطرف؛ بل كان یرید إجراء تغییر في بعض اللجان وقیاداتها، فیأتیها بأفراد جدد من قبیل عضو مجلس الشیوخ المنتخب حدیثًا (جون كینیدي)، ومن قبیل (هیوبرت هامفري) الذي أراد له أن یدخل في لجنة العلاقات الخارجیة؛ فالشباب من أمثال هذین سیظهرون لعامة الجماهیر وجها جدیدًا للحزب، وسیزیدون في مقدرته على مقارعة الجمهوریین، واستطاع (راسل) أن یرى الحكمة في ذلك، فأعطى جونسون موافقته الضمنیة، إلا أنه حذره أیضًا بقوله إنك تتعامل مع أكثر الأشیاء حساسیة في المجلس... إنك تلعب  بالنار.

 

وتواصل جونسون مع أعضاء مسنِّین آخرین في المجلس، وكان بعضهم سهل الإقناع، مثل (روبرت بیرد)، الذي كان معجبًا جدا بالزعیم الجدید جونسون.وانضم اللیبرالیون إلى هذه التغییرات، وذلك بفضل عمل هامفري الذي غدا آنذاك صاحب نفوذ هائل بصفته نقطة الاتصال بین جونسون والأعضاء من الولایات الشمالیة، وكان هناك آخرون متعنتون، إلا أن جونسون لم یكن لیستسلم؛ فمضى مع المثابرین على عنادهم شوطًا أبعد؛ فكان قاسیًا معهم، وكان ینفق الساعات الطوال في مكتبه وقد أوصد علیه بابه، یحدث نفسه، ویعید الاستماع إلى أقواله ویرد علیها بحجج هؤلاء الأعضاء المعاندین؛ إلى أن تیقن من أنه قد اهتدى إلى السبیل الأنجع، فاتبع مع بعضهم أسلوب النزعة الواقعیة المحضة في الحاجة إلى هزیمة الجمهوریین مهما كان الثمن. وذكَّر آخرین بأیام المجد التي عاشوها في حكم روزفلت، وأوضح للأعضاء القادمین من

الولایات الجنوبیة أن تقویة الحزب وتوحیده سیسهلان مهمة جونسون، وبما أنه زمیلهم من الجنوب فإنه سیكون حلیفهم الأول في المعارك القادمة.

 

وقدم لهم كؤوسًا لا تعد من ألوان الشراب في مكتبه، وأخرج لهم كل ما في جعبته من لطف وجاذبیة، وكان یتصل بهم بالهاتف في جمیع الأوقات، وإذا استمر العضو في مقاومته للتغییر، كان یتصل به مجددًا في المساء، ولم یكن یجادلهم بحدة مطلقًا، ولم یحاول أن یفرض علیهم الأمر؛ بل كان یقف وكأنه في صفِّهم؛ فیعرض الكثیر من الحلول البدیلة، وفي نهایة المطاف ومع استجابة أعضاء المجلس له واحدًا بعد آخر، استسلم له آخر معاقلهم، وبطریقة ما، أصبح جونسون الآن شخصًا یخشى منه؛ فإن لم یستجیبوا له وبقوا في معاقلهم القلیلة الباقیة فمن الواضح أن بإمكانه أن یجعل حیاتهم تعیسة في السنوات القلیلة القادمة.

وعندما أصبح الأمر علنیا في نهایة المطاف دهش الجمهوریون والصحافة بما حققه لیندون جونسون؛ ففي غضون أسابیع من تسلم جونسون زعامة الدیمقراطیین حاز قدرات غیر مسبوقة؛ فهو من كان یتحكم بتعیین اللجان، لا نظام الأقدمیة، وأصبح الآن سید مجلس الشیوخ بلا منازع، وكان القول المأثور الرائج بین زملائه هو دع لیندون یقوم بالعمل، واجتذب إلى نطاق تأثیره شخصیات كان احتمال تأثیره فیها بعیدًا جدا من (راسل) إلى هیوبرت هامفري. إلا أن أكثر الأشخاص اندهاشًا لما حصل لا بد أنه كان عضو مجلس الشیوخ توم كونالي؛ ففي فترة قصیرة دامت أربع سنوات، لم یصعد جونسون إلى القمة وحسب؛ بل أمسك بزمام السیطرة على الدیمقراطیین في مجلس الشیوخ عن طریق حملة وئیدة، مطردة، راكم بها تأثیره ونفوذه؛ متجاوزًا بكثیر النفوذ الذي جمعه كونالي فیما یربو على 20 سنة من العمل في المجلس.


0 التعليقات: