31‏/03‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 41

 قوانين الطبيعة البشرية 41


التفسیر: كان لدى جونسون طموح وحید منذ بدایة حیاته المهنیة السیاسیة؛ هو أن یصبح یومًا ما رئیسًا للولایات المتحدة الأمریكیة، ولیصل إلى غایته كان بحاجة إلى صعود سریع نسبیا إلى مراكز الصدارة؛ فكلما زادت حداثة سنه إذ یصل إلى المناصب القیادیة، سنح له وقت أطول لنشر صیته ومد نفوذه داخل الحزب الدیمقراطي. وبعد انتخابه لدخول مجلس النواب وهو في الثامنة والعشرین من عمره بدا أنه یسیر في المسار الصحیح للوصول إلى ما أراد؛ إلا أن حیاته المهنیة في مجلس النواب تعثرت، وعجز عن التقدم فیها؛ فقد كان المكان فسیحًا جدا وشدید التعقید، ولم یكن یُحسِن التعامل مع المجموعات الكبیرة في مجلس النواب؛ فلم یكن خطیبًا یثیر العامة؛ بل كانت جاذبیته تظهر في حالة (علاقة رجل برجل)، فأصابه الإحباط والاضطراب. ثم وصل أخیرًا إلى مجلس الشیوخ في سن الأربعین؛ وكان یحمل معه نفاد الصبر، كما اتضح من لقائه بكونالي، لكنه قبیل تنصیبه رسمیا عضوًا في مجلس الشیوخ تجول في الطابق الأرضي لمجلس الشیوخ وجاءه الإلهام؛ فالمكان أصغر بكثیر من ذلك الذي في مجلس النواب؛ وكان أشبه بنادٍ صغیر لصفوة القوم، وهنا یمكنه العمل بعلاقة رجل برجل، لیكسب السلطة شیئًا فشیئًا، بمراكمة تأثیره في الآخرین.

لكن لإنجاز ذلك كان علیه أن یغیر في نفسه، فقد كان بطبیعته عدوانیا، فكان علیه أن  یكبح جماح نفسه، ویهدئ من اضطراب روحه، ویتریث في أقواله وأفعاله، وكان علیه التوقف عن الكلام الكثیر، وتجنب الدخول في جدالات حامیة؛ فلیَخرج الكلامُ من أفواه الآخرین؛ ولیشعروا بأنهم نجوم المشهد، وكان علیه التوقف عن التفكیر في نفسه؛ فأصبح یولي كل اهتمامه لزملائه في مجلس الشیوخ وهم یتحدثون مرة بعد أخرى، وكان بتظاهره بمظهر العضو المستجد المسالم في مجلس الشیوخ، یتعلم قواعد العمل؛ كان ذلك الطالب المجتهد الذي لا یفقه من الإجراءات المتبعة وعملیات سن القوانین إلا النزر الیسیر، وخلف هذا المظهر استطاع أن یراقب الناس دون أن یبدو طموحًا ولا عدوانیا، وشیئًا فشیئًا تمكن بهذه الطریقة من اكتساب المعرفة بالأعمال الداخلیة في  مجلس الشیوخ؛ من قبیل إحصاء الأصوات، وكیفیة إقرار القوانین فعلیا، واكتسب

النظرة المتبصرة في شؤون كثیر من أعضاء مجلس الشیوخ، فبات علیمًا بأكبر مخاوفهم ونقاط ضعفهم، وفي مرحلة معینة، تحول فهمه العمیق لهذه المؤسسة، إلى سلعة یستطیع مقایضتها؛ بالتأثیر في الآخرین والفوز بخدماتهم.

 

وبعد بضعة أشهر من هذه الحملة، كان قادرًا على تغییر السمعة التي كان قد اكتسبها في مجلس النواب؛ فلم یعد یبدو خطرًا على أحد، وبما أن دفاعات أعضاء مجلس الشیوخ زالت من طریقه، فقد استطاع أن یزید في قوة حملته.

 

لقد حول انتباهه إلى الفوز بالحلفاء أصحاب الأهمیة الحاسمة، فقد كان یؤمن دائمًا بأنه إذا كان للمرء حلیف واحد من هؤلاء یقف عند قمة هرم السلطة أو قربها؛ فإن بوسعه أن یحرك الجبال الراسخة؛ ففي المرحلة الأولى رأى في عضو مجلس الشیوخ (راسل) هدفه الأسمى؛ فهو رجل وحید، یؤمن بقضیة معینة دون أن یكون له تابع حقیقي فیها، وهو عضو نافذ جدا؛ وقد أحب جونسون (راسل) بصدق، فقد كان دائم البحث عن  شخصیات الأب؛ إلا أنه كان یصب اهتمامه وینسج نسجه فیما هو إستراتیجي إلى أبعد الحدود، فعمل على أن یجري تعیینه في لجنة القوات المسلحة؛ لیكون أقرب ما یكون إلى (راسل). وكانت لقاءاتهما المستمرة في الرواق أو غرفة المعاطف، نادرًا ما تكون محض صدفة. ولم یحب جونسون كرة القاعدة یومًا، وربما كان قلیل الاهتمام بالحرب الأهلیة، إلا أنه تعلم بسرعة أن علیه تنمیة اهتمامه بهما، وأظهر أمام (راسل) اهتمامه بقیم المحافظین وأخلاقیات العمل، وجعل هذا العضو الذي یشعر بالوحدة، جعله یشعر

تجاهه بأنه لیس مجرد صدیق، بل هو ابنٌ طائع وتابع مرید.

 

وكان جونسون حریصًا على ألا یستجدي الخدمات، وبدلًا من ذلك كان یقوم هو بأداء خدمات بصمت لصدیقه (راسل)؛ فساعده في تحدیث فریق عمله، وعندما أراد جونسون في النهایة شیئًا ما -وكان ذلك رئاسة اللجنة الفرعیة- قام بالتلمیح الخفي إلى رغبته؛ لا التصریح الواضح عنها، وأمسى (راسل) یرى فیه امتدادًا لطموحاته السیاسیة؛ وفي هذه المرحلة كان مستعدا للقیام بأي شيء تقریبًا لمساعده المخلص.

وفي غضون بضع سنین، ذاع صیت براعة جونسون في إحصاء أصوات الاقتراع، ومعرفته ببواطن الأمور المتصلة بجمعٍ من أعضاء مجلس الشیوخ؛ ویمكن لتلك المعلومات أن تكون عظیمة النفع عند محاولة إقرار قانون ما، فغدا أعضاء مجلس الشیوخ یقصدون بابه طلبًا لهذه المعلومات، وكان یشاطرها معهم؛ وغالب ظنه أنه سیحصل على خدمات منهم مقابلها یومًا ما، وأخذ نفوذه یتمدد شیئًا فشیئًا، إلا أنه أدرك أن رغبته في الحصول على منصب یهیمن به على حزبه وعلى مجلس الشیوخ تعترضه عقبة كبیرة واحدة، وهي تتمثل في الأعضاء اللیبرالیین من الولایات الشمالیة.

 

ومرة أخرى اختار جونسون هدفه الأسمى وهذه المرة كان هدفه عضو مجلس الشیوخ هامفري؛ فقد رأى فیه رجلًا وحیدًا، بحاجة إلى من یقر بفضله وكفاءته، لكنه أیضًا رجل یحمل طموحات ضخمة، وكانت السبیل للوصول إلى قلب هامفري، متشعبة إلى ثلاث شعب: اجعله یشعر بأنه محبوب، ورسِّخ له اعتقاده بأنه یصلح أن یكون رئیسًا للبلاد، وقدم له الأدوات العملیة لتحقیق طموحاته.

 

وعلى نحو ما فعل جونسون مع (راسل) فقد أعطى هامفري انطباعًا بأنه یقف في صفه

 سرا، وكان مرآةً لأعظم القیم عند هامفري بمشاطرته إیاه تمجید روزفلت.

وبعد  بضعة أشهر من هذه الحملة بات هامفري مستعدا للقیام بأي شيء تقریبًا لجونسون. والآن، وبعد أن بنى جونسون جسرًا یصله باللیبرالیین من الشمال توسع نفوذه لیصل إلى جمیع أركان مجلس الشیوخ.

وجاء زمن أصبح منصب الزعامة الحزبیة فیه متاحًا لجونسون، فقد أقام لنفسه مصداقیة هائلة بأنه شخص یردُّ المعروف بالمعروف، ویُحسِن إنجاز الأمور، ولدیه حلفاء أقویاء جدا في النظام

القائم في المجلس، وكانت رغبته في التحكم بتعیینات اللجان تمثل تغیرًا جذریا  إلا أنه صاغها بحرص بوصفها بأنها طریقة لتعزیز قوة الحزب الدیمقراطي، ومساعدة الأعضاء في مجلس الشیوخ في معاركهم الفردیة المختلفة مع الجمهوریین، فكان من مصلحتهم تسلیم السلطة إلى لیندون جونسون، لقد اكتسب جونسون ذلك النفوذ خطوةً بعد خطوة، دون أن یظهر أبدًا أنه عدواني مع أحد، أو یشكل خطرًا على أحد، وبعد مرور شيء من الزمن أدرك من كانوا في الحزب ما حصل، ولكن بعد فوات الأوان؛ فقد أمسى جونسون یتمتع بالسیطرة على رقعة اللعب، لقد بات سید مجلس الشیوخ.


0 التعليقات: