قوانين الطبيعة البشرية 42
الاستنتاج: إن التأثیر في الناس والسلطة التي تتأتى من خلاله یمكن اكتسابهما بطریقةٍ تناقض ما قد یدور في تصوراتك، فنحن بطبیعتنا نحاول أن نجتذب الناس بأفكارنا الخاصة، ونظهر أنفسنا بأفضل صورة، ونصخب بإنجازاتنا في الماضي، ونعِدُ أو حتى نحلفُ
بأن نفوسنا نفوس عظیمة، ونطلب الخدمات من الآخرین، معتقدین أن الصدق أفضل سیاسة نتبعها للوصول إلى ما نرید، إلا أن ما لا ندركه هو أننا نجعل كل اهتمامنا ینصب في أنفسنا نحن، وفي عالمنا الذي یزداد الناس فیه انشغالًا بأنفسهم فإن ذلك لن یكون له تأثیر إلا في جعل الآخرین یزدادون استغراقًا في أنفسهم بالمقابل، ویفكرون في مصالحهم هم، لا في مصالحنا نحن.
فقصة جونسون تبین لنا أن الطریق السریع المیمون للوصول إلى التأثیر والسلطة إنما یكون بالسیر في الاتجاه المعاكس: فاجعل اهتمامك ینصب على الآخرین، ودع الحدیث لألسنتهم، ودع النجومیة في مشهد الأحداث تعانقهم، ولتكن آراؤهم وقیمهم تستحق منك المحاكاة، ولتكن القضایا التي یؤیدونها هي القضایا النبیلة، وهذا النوع من الاهتمام نادر جدا في عالمنا الیوم، والناس متعطشون جدا له، فاعترافك بقدرهم سیخفف من دفاعاتهم ویفتح عقولهم لتقبُّل أي فكرة ترید تمریرها.
وهكذا تكون أولى خطواتك هي في التریث، والتظاهر بأنك في موقع أدنى من الآخرین، ولیكن ذلك منك حاذقًا دقیقًا رقیقًا، واطلب النصیحة من الآخرین؛ فالناس یتوقون لنقل حكمتهم وخبرتهم إلى الآخرین؛ فإذا شعرت بأنهم قد أدمنوا على اهتمامك بهم، فبإمكانك أن تستهلَّ دورة من الخدمات المتبادلة
عن طریق قیامك بشيء صغیر یصب في مصلحتهم، شيء یحفظ لهم الوقت والجهد، وسیرغبون فورًا برد الجمیل، فیردون معروفك دون أن یشعروا بأنهم قد خُدِعوا أو أُجبِروا على ذلك. وإذا أخذ الناس یُسدُون لك الخدمات، فإنهم سیستمرون بالعمل لمصلحتك، فبقیامهم بشيء من أجلك یكونون قد حكموا علیك بأنك إنسان تستحق ذلك مِن بذْلِهم خدماتهم لك، وتوقفُهم عن مساعدتك یعني إثارة الشكوك حول حكمهم الأول علیك، وحول ذكائهم وفطنتهم؛ وهو أمر یحجم عنه الناس ویحاذرونه، وعملك بهذه الطریقة في مجموعة تحیط بك سیوسع
دائرة تأثیرك دون أن یبدو ذلك عدوانیا أو متعمدًا؛ وذلك أفضل ما تخفي به طموحاتك.
إن أكثر ما یؤلف الروح الحقیقیة في حدیثك مع الآخرین هو إخراجك ما عندهم هم من ذكاء، لا إظهار قدر كبیر من ذكائك أنت؛ فیسعَد محادثك وقد مضى في حدیثه بنفسه، ویزداد سرورًا بما أبداه لك من ظرف وذكاء. ومعظم الرجال یریدون التقلیل من التوجیهات التي تلقى علیهم؛ فهم یریدون من یسلیهم، لا من یمدحهم ویشید بهم.
مفاتیح الطبیعة البشریة
منذ أوائل سنین حیاتنا، نطور نحن البشر جانبًا دفاعیا وحمایة ذاتیة في شخصیتنا، ویبدأ معنا ذلك في سنوات الطفولة المبكرة ونحن ننمِّي إحساسنا بالحیز الفیزیائي
الشخصي لنا، الذي على الآخرین ألا یخترقوه. ویتوسع ذلك فیما بعد إلى شعورٍ بالكرامة الشخصیة؛ فینبغي على الناس ألا یجبرونا أو یخدعونا للقیام بأشیاء لا نریدها؛ فینبغي أن نكون أحرارًا في اختیار ما نرید.
وتعدُّ هذه تطورات ضروریة في نموِّنا بشرًا اجتماعیین.
لكننا مع تقدمنا في العمر تتصلب فینا هذه السمات الدفاعیة لتصبح أكثر تزمتًا، وذلك لسبب وجیه؛ فالناس لا یفتؤون یحكمون علینا ویقیِّموننا؛ فهل لدى أحدنا كفاءة جیدة، وهل هو إنسان صالح، وهل یجید العمل في فریق؟! ولا نشعر نحن مطلقًا بهذا التمحیص، فإذا أخفقنا ذات مرة في حیاتنا یتحول تمحیص الآخرین إلى أحكام سلبیة علینا، یمكنها أن تصیبنا بالشلل لزمن طویل؛ وعلاوة على ذلك فإن لدینا شعورًا بأن الآخرین یحاولون دائمًا أن یأخذوا منا؛ فهم یریدون منا وقتنا، ویریدون مالنا، وأفكارنا،
وجهدنا، وفي مواجهتنا لكل ذلك نصبح بطبیعتنا أكثر انشغالًا بأنفسنا وأكثر دفاعیةً، فعلینا السعي في مصالحنا الخاصة، فما من أحد سیسعى لنا فیها، ونقیم جدرانًا من حولنا لنمنع اقتراب المتطفلین ومن یریدون شیئًا منا.
فإذا وصلنا إلى سنوات العشرینیات من عمرنا تكون قد تطورت لدینا منظومات دفاعیة؛ لكن في ظروف معینة یمكن أن تتهاوى جدراننا الداخلیة؛ فعلى سبیل المثال في لیلة مرحة مع الأصدقاء، وبعد شيء من معاقرة كؤوس المُدام، یشعر الواحد منهم بأن الآخرین یرتبطون به، ولا یحكمون علیه، ویسترخي عقله، وتفاجئه أفكار جدیدة ومثیرة، ویتقبل القیام بأشیاء ما كان لیقوم بها في حالته الطبیعیة. وإلیك مثالًا آخر، فلربما یحضر أحدنا تجمعًا عاما، ویسمع خطیبًا مفوَّها یدعو إلى قضیة ما، ونتیجة شعوره بأنه یتفق مع مئات من الناس الآخرین من حوله تأخذه روح الجماعة، ویشعر فجأة بأنه مدعوٌّ إلى التصرف والعمل في سبیل تلك القضیة، وهو شيء ربما یرفضه في الأحوال الطبیعیة.
إلا أن أقوى مثال معبِّر، هو ما یحدث عندما نقع في الحب، ونشعر بأن الشخص الآخر یبادلنا حبنا؛ فالشخص الآخر یقدِّرنا ونرى فیه مرآة لأفضل خصالنا الإیجابیة،
ونشعر بأننا نستحق أن نكون محبوبین. وتحت تأثیر هذا السحر، نتخلى عن الأنا فینا، ونترك عنادنا المعتاد؛ فنعطي الشخص الآخر سطوة غیر معهودة على قوة إرادتنا.
والأمر المشترك في الأمثلة السابقة هو شعورنا بالأمان الداخلي؛ فالأصدقاء أو الحشد أو المحب لا یحكمون علینا؛ بل هم یقبلون بنا، إننا نرى مرآة أنفسنا في الآخرین؛ فیكون بوسعنا
الاسترخاء، ونشعر في قرارة أنفسنا بالمصداقیة أو بأن الآخرین یعترفون بقدرنا ویقرون بفضلنا، ولا نحتاج إلى التحول إلى الاستغراق في أنفسنا، واتخاذ موقف دفاعي؛ بل نستطیع توجیه عقولنا إلى خارج أنفسنا، متجاوزین الأنا فینا تطلعًا إلى فكرة جدیدة، أو قضیة ما، أو سعادة الآخر (المحب).
0 التعليقات:
إرسال تعليق