تأمل يوما بعد يوم 13
يقول لنا الباحثون في مجال فسيولوجيا الأعصاب إنه أثناء مُراقبتنا للوحةٍ تقوم بعض المناطق الدماغية بخلْق أشكالٍ إضافية في الذهن غير موجودة في اللوحة.
هذا يرجِع إلى أنَّ هذه الخطوط الحلزونية المُشاكِسة، والمُتطفِّلة والاستبدادية هي انعكاس لمُجتمعنا الاستهلاكي الجبَّار والمُتلألئ.
وإنها لَجاهزة لتنويمنا، ولاستعبادنا والتهام أذهاننا، إلا إذا استطعْنا الانتباه إلى الزهرة، واستطعْنا امتلاك وعْيِنا كاملًا.
بَلبلة وحِيَل
إن الظروف الجديدة لوجودنا تُبعِد البشر عن كلِّ حالة تأمُّل، وترميهم خارج ذواتهم وهم في حالةٍ من الغضب القاتل، كما في حرائق الغابة التي تطرُد الحيوانات من عُزلتها العميقة
ويقول نيتشه: أليست كلُّ مؤسَّسات العصر تسعى إلى منع الناس من الشعور بحياتهم، بما تُسبِّبه من تشتيتٍ لأفكارهم؟.
كي يستطيع وعْيُنا أن يُوجَد ويتطوَّر، علينا أن نحميه من عالم، مُغذٍّ ومُنشِّط بالتأكيد، لكنه مُتطفِّلٌ وسامٌّ.
تلوُّث الروح
لقد صار انتباهنا سهلَ الالتقاط ويُمكِن جذبُه وحتى تجزئته وتقطيعه. وصار مُدمِنًا لكلِّ ما هو صاخب، ولامع وسهل؛ كل ما هو مُهيَّأ ولا يحتاج إلى تفكير.
وإلى أيِّ حالٍ ستئول رُوحنا بعد سرقة وعْيِنا؟.
إننا نغرق أكثر فأكثر في المُلهِيات الخارجية والمَسرَّات الاستهلاكية، وفي الأنشطة الفارغة التي تملأ أذهاننا وأفعالنا. وكما أن الصمت ضروري كي يتمَّ الاستماع إلى ما يُقال، كذلك لا بدَّ من مساحة ذهنية حرة كي يعبر وعينا ودواخلنا عن ذاتيهما، لكن مع الأسف فإن القرص الصلب لوعينا قد امتلأ بأشياء كثيرة
غير مفيدة. ولأنَّ وعْيَنا ودواخلنا هما شيء واحد، إذن، ما دُمنا نسعى نحوَ ما هو خارجي وسطحي فإن وعينا سيضمُر أكثر فأكثر.
التمهُّل، والهدوء، والاستمرارية في حالة من العَوَز
فإذا أخذْنا مثلًا أمراض الإفراط، سنجد أنها أمراض العصر. ونعني بها كلَّ ما يزيد عن حاجتنا؛ الأكل الزائد الذي يُسبِّب السمنة، الرغبة بالتملُّك الزائد الذي يقود إلى الحُزن. إنَّ الزيادة في شيءٍ ما تُؤدِّي حتمًا إلى النقص في شيءٍ آخر، والإكثار سيُؤدِّي إلى العَوَز.
وبنفس الطريقة يُصيب العَوَز صحَّتَنا النفسية لأننا بحاجة إلى الهدوء، إلى التمهل والاستمرارية
لكن كيف نُقاوِم عَوَز التمهُّل هذا؟علينا أن نُخصِّص الوقت الكافي لأنفسنا، فلا نركض من نشاطٍ إلى آخر، ولا نقوم بعدَّة أشياء في نفس الوقت، ونتصرَّف قدر الإمكان بكثير من اللطف والهدوء. وعلينا أن نقوم بجلساتٍ هدفها عدم القيام بأي شيء .
وكيف نُقاوِم عَوَز الهدوء؟
نُقاوِمه بالهرَب من العُنف، من التنبيهات المُلِحة. علينا أن نصير من جديد حسَّاسين لكلِّ ما هو زائد عن حدِّه؛ موسيقى طوال الوقت، صورٌ طوال الوقت، شاشات طوال الوقت. علينا التخلُّصمن هذه القيود
وكيف نُقاوِم نقص الاستمرارية؟
علينا أن نستطيع تحديد كل المُنبِّهات المُلِحة التي تتدخل في استمرارية يومنا، وأن نرفع مستوى انتباهنا إلى درجة أعلى من مستوى تأثيرها
الممارسة التأمُّلية: الخيار
المثالي
للتفريق
بين
ما
هو
مُهم
وما
هو
عاجل
إن لم أقُم بما هو عاجل، سأعُاقَب سريعًا بشكلٍ من الأشكال عند ظهور بعض المشكلات.
فإذا لم أقُم بما هو مهم، فلن يحدُث لي شيء، فورًا. ولكن ببطءٍ ستُصبِح حياتي سطحية وحزينة، أو أنها ستُفرَّغ بغرابة من كل معنًى.
تُوجَد معركة يومية في حياتنا بين ما هو عاجل وما هو مُهم، فكيف نستطيع ألا نُضحِّي بالمهم لصالح العاجل؟ كيف يُمكِننا ألا نخضع لدكتاتوريةِ ما هو عاجل حين يُحوَّل كل نشاطٍ ليبدو كأنه حالة عاجلة حتى لو لم يكن كذلك فعلًا، أو على الأقل ليس للدرجة التي يبدو عليها؟
سيُحاوِل العاجل أن يأخذ منِّي هذه المساحة الصغيرة التي أمنحُها لنفسي لأقوم بما هو مُهم.
وإذا لم أستطع أن أقول لا لكلِّ هذا، إذا لم أستطع القيام بهذا الجهد، فسأضيع. سأعيش ما يُمكِن أن نُسمِّيه اللاحياة، كرجلٍ آلي يتحرَّك ويفعل لكنه فارغ من الداخل.أهذا ما
أريد
الوصول
إليه؟
علينا تعلُّم قول لا بلطفٍ خلال جلسات التأمُّل، واكتشاف تجربة ال(لا) هذه وفوائدها؛ لأنها ستُوسِّع منافع هذه الجلسات لتشمل كل مجالات حياتنا. أن نتمكن من قول(لا) سيُساعِدنا على
التخفيف من كلِّ ما هو عاجل، على زيادة الوضوح في أذهاننا أمام تلك الإنذارات المُزيَّفة
مثل قُم بذلك …
هيَّا بسرعة …
فورًا
وكل نصرٍ صغير في هذا الصراع سيجعلنا أكثر وعيًا وأكثر سعادة
الدرس الحادي
عشر
علينا أن نحمي ذهننا بلا كَلَلٍ من تعدِّيات ومُتطلِّبات الحياة الحديثة. يعني ذلك، من بين ما يجب فعله، أن نطرُد باستمرارٍ كل تلك العادات التلقائية بتشغيل الراديو، أو التلفزيون، أو الكومبيوتر. وعلينا الحفاظ بإصرارٍ على فترات زمنية من الاستمرارية (بأن نمنع قطعها بالرسائل الإلكترونية أو الاتصالات الهاتفية).
ويجب أن نعتبِر أن الهدوء والصمت هما غذاءا رُوحنا، نحن هذه الكائنات المدنية النَّشِطة، وأنَّ حرماننا منها لفترةٍ طويلة سيُؤدِّي بنا إلى المرَض.
0 التعليقات:
إرسال تعليق