03‏/03‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 39

 قوانين الطبيعة البشرية 39


 

1-  الضیاع في التفاهة: لعلك تشعر بأنك مغلوب على أمرك، بسبب تعقید عملك. وتشعر بالحاجة إلى أن تكون عارفًا بجمیع التفاصیل والتوجهات العالمیة، لیتسنى لك التحكم في الأشیاء التي تواجهها؛ لكنك تغرق في بحر من المعلومات، فمن الصعب علیك أن ترى الغابة بسبب ما یحیط بك من الشجر، وهذه علامة أكیدة على أنك أضعت الإحساس بأولویاتك، فلم تعد تعرف الحقائق الأكثر أهمیة من غیرها، ولا المشكلات أو التفاصیل التي یجب أن تولیها اهتمامك أكثر من غیرها.

ویعدُّ ملك إسبانیا فیلیب الثاني (1527-1598)  نموذجًا لهذه المتلازمة، فقد كانت عنده نزعة عجیبة في مراجعة الأوراق الرسمیة، والاطلاع على جمیع تفاصیل الحكومة الإسبانیة، فكان ذلك یمنحه شعورًا بأنه المسیطر ذو الید الطولى، لكن الحق أن ذلك أوصله في نهایة المطاف إلى أن یخسر كل سیطرة له، فقد اهتاج وماج بسبب تبدیل موضع الكنیف (المرحاض) في قصره الجدید في الإسكو﷼، والمسافة الدقیقة التي تفصله عن المطبخ؛ وأمضى أیامًا في دراسة كیف یمكنه مخاطبة أعضاء محددین من رجال الدین ومكافأتهم، إلا أنه كان أحیانًا یخفق في إیلاء الاهتمام المناسب لتقاریر مهمة عن انتشار الجواسیس في مملكته، وقضایا أخرى في الأمن الوطني. وبسبب عكوفه على تقاریر لا تحصى عن حالة الجیش التركي اعتقد أن علامات ضعف شدید بادیة على ذلك الجیش، وقرر شن حرب على الأتراك. لقد أخطأ التقدیر بطریقة ما، فاستمرت الحرب ثمانیة عشر عامًا، بلا نتیجة حاسمة؛ خلا استنزاف أموال إسبانیا.

 

وحدثت عملیة مشابهة في مواجهة إنكلترا، فكان الملك یواظب على قراءة كل تقریر یأتیه عن حالة سلاح البحریة الإنكلیزي، ودرجة تأیید عامة الناس لملكتهم إلیزابیث، وأي جزئیة دقیقة تأتیه عن أموال البلاد، ودفاعاتها الساحلیة، وبناءً على سنوات من الدراسة، قرر في سنة 1588 أن یشن أسطوله الحربي حربًا على إنكلترا؛ وهو یشعر یقینًا بأن إسبانیا سوف تنتصر، بعد أن زاد كثیرًا في ضخامة أسطوله، إلا أنه أخفق في الانتباه الجید لتقاریر الأحوال الجویة؛ وهي العامل الأكثر حسمًا من بین كل العوامل الأخرى للانتصار في المعركة البحریة خصوصًا؛ فالعواصف البحریة یمكنها أن تدمر أسطوله العظیم بأكمله. كذلك فقد فاته أن یدرك أنه بمرور الزمن كان قد جمع معلومات كثیرة عن الأتراك أو الإنكلیز، واستوعبها، لكن حالة البلدین قد تغیرت في واقع الحال بمرور السنین؛ لذلك فإنه في الوقت الذي كان یبدو فیه مهتما بالتفاصیل إلى حد الإفراط، إلا أنه لم یكن مطلعًا على كل شيء؛ فعلى مر السنین، أرهق فیلیب ذهنه

بالكثیر من القراءة؛ لدرجة أنه أصیب بالصداع في مرات كثیرة، ناهیك عن نوبات الدُّوار. أما تفكیره فكان معطلًا ولا شك، فاتخذ قرارات كانت نتیجتها المباشرة انحطاطًا لا رجعة عنه للإمبراطوریة الإسبانیة.

 

ولعلك بطریقة أو بأخرى أقرب للملك فیلیب الثاني مما یمكنك أن تتصور؛ فالراجح الغالب في حیاتك أنك تولي اهتمامك إلى بعض التفاصیل التي تبدو من فورها مهمة لك، في الوقت الذي تتجاهل فیه تقاریر الأحوال الجویة التي ستقضي على مشروعك؛ فحالك كحال فیلیب، یستهویك جمع المعلومات دون التفكیر في أولویاتك، ودون أن تفكر فیما یهمك فعلًا في آخر المطاف؛ إلا أن للعقل حدوده؛ فاستیعاب قدر ضخم من المعلومات یؤدي إلى إجهاد العقل، والارتباك، ومشاعر العجز، فكل شيء یبدو في البدایة مهما بالدرجة نفسها من مكان الكنیف، إلى الحرب المحتملة مع الأتراك، لكنك بحاجة إلى نظام للتصفیة الذهنیة على مقیاس الأولویات والأهداف البعیدة. ومعرفتُك لما ترید إنجازه في النهایة، سیساعدك في غربلة ما هو أساسي؛ لإخراجه مما هو غیر أساسي.

 

ولا یتحتم علیك معرفة التفاصیل؛ ففي بعض الأحیان سیلزمك تفویض الآخرین؛ فتترك لمساعدیك مهمة جمع المعلومات، وتذكَّر أن إحكام سیطرتك على الأحداث إنما یأتي من التقییمات الواقعیة للحالة، وهو أمر بالغ الصعوبة تمامًا بالنسبة لعقل غارق في التفاهات.

 

الإنسان ثاقب النظر

یعیش معظمنا داخل إطار زمني ضیق نسبیا، وعادة ما نربط مرور الزمن بشيء سلبي؛ كالتقدم في العمر، واقتراب المنیَّة، فترانا على نحو غریزي ننفر من التفكیر بعمق شدید في المستقبل والماضي؛ لأن ذلك یذكرنا بمرور الزمن؛ ففیما یتصل بالمستقبل، ربما نحاول التفكیر في خططنا بعد سنة أو سنتین من الآن، إلا أن تفكیرنا أشبه بأحلام الیقظة، أو الأماني، منه بالتحلیل العمیق، وفیما یتصل بالماضي ربما نحتفظ ببضعة ذكریات أثیرة أو مؤلمة، من طفولتنا والسنوات التي تلتها، لكن الماضي بصورة عامة یصیبنا بالحیرة، فنحن نتغیر تغیرًا كبیرًا في كل سنة تمر علینا، بحیث أن ما كنا علیه قبل خمس سنوات، أو عشر سنوات، أو عشرین سنة، ربما یبدو لنا شخصًا غریبًا، فلیس لدینا فعلیا إحساس متماسك بما نحن علیه، لیس لدینا شعور بالارتباط بین أحدنا وهو بعمر خمس سنوات، وبینه هو نفسه وهو في الخامسة والثلاثین من عمره.

ونحجم عن المضي بعیدًا في أي من الاتجاهین، فنعیش غالبًا في الزمن الحاضر، إننا نستجیب لما نراه ونسمعه، ولما یستجیب له الآخرون، فنحن نعیش لمتعنا العاجلة، لإلهاء أنفسنا عن مرور الزمن، ولنجعل أنفسنا تشعر بالحیاة، لكننا ندفع ثمنًا لكل ذلك. فكبتُنا لفكرة الموت والتقدم في العمر، ینشئ فینا قلقًا ضمنیا. فلا نتصالح مع الواقع، واستجابتنا المستمرة للأحداث في الزمن الحاضر، تجعلنا كأننا نركب الأفعوانیة، فنصعد ونهبط مع كل تغیر في حظنا، ولن یفضي ذلك إلا إلى زیادة قلقنا؛ لأننا نرى الحیاة تمضي بسرعة كبیرة جدا في الأحداث العاجلة المتسارعة.

ومهمتك في دراستك للطبیعة البشریة، وفي طموحك للوصول إلى القدرات الكامنة الكبیرة للإنسان، هي توسیع علاقتك بالزمن قدر ما أمكنك، والإبطاء من سرعته، وهذا یعني أنك لا ترى في مرور الزمن عدوا لك؛ بل تراه حلیفًا عظیمًا لك؛ فلكل مرحلة في الحیاة محاسنها؛ ومحاسن الشباب هي أكثرها وضوحًا؛ لكن بتقدم العمر تتسع نظرتك إلى الحیاة؛ فالتقدم في العمر لا یخیفك، كذلك هو الموت صدیقك ، إنه یدفعك إلى أن تستغل كل لحظة أحسن استغلال؛ فهو یعطیك إحساسًا بالضرورة الملحة فیما تفعله. والزمن هو أعظم أستاذ وخبیرٍ یأخذ بیدك، وینبغي لذلك أن یؤثر فیك أعظم تأثیر في الزمن الحاضر، فإدراكك بأنه بعد سنة من مشكلتك الحالیة التي تواجهها، تكاد هذه المشكلة تفقد أهمیتها الكبیرة، هذا الإدراك سیساعدك في التخفیف من قلقك، وضبط أولویاتك، وبمعرفتك بأن الزمن سیكشف مواطن الضعف في خططك ستصبح أكثر حذرًا وتأنیًا في دراستها.

 

ففیما یتصل بالمستقبل علیك أن تمعن التفكیر في أهدافك البعیدة، وهي لیست أحلامًا مبهمة؛ بل هي أغراض ملموسة ترسمُ لنفسك مسارًا للوصول إلیها، وفیما یتصل بالماضي علیك أن تشعر بإحساس عمیق بالارتباط بطفولتك، ولا مراء في أنك تتغیر باستمرار، لكن هذه التغیرات تغیرات سطحیة، وتنشئ فیك وهمًا بأنك تتغیر تغیرًا حقیقیا، والحق أن طبعك قد جُبِل فیك في السنوات الأولى من حیاتك ، إلى جانب میولك تجاه أنشطة بعینها، بالإضافة إلى ما تفضله وما لا تفضله. وكلما تقدمت في العمر یصبح هذا الطبع أكثر وضوحًا فیك، وشعورك بأنك مرتبط

بصورة طبیعیة بما كنت علیه في الماضي، یمنحك إحساسًا قویا بهویَّتك؛ فتعلَمُ ما تفضله وما لا تفضله، وتعلَمُ ما أنت علیه. وهذا یساعدك في المحافظة على حبك لنفسك، وهو أمر في غایة الأهمیة لمقاومة الهبوط إلى النرجسیة العمیقة، ویساعدك في تطویر التعاطف عندك

. كذلك فإنك ستولي اهتمامًا أكبر لأخطائك، والدروسِ التي تعلمتَها من الماضي؛ وهي أشیاء یحاول كبتَها حبیسو الزمن الحاضر.

 

وحالك كحال غیرك في الاستمتاع بالزمن الحاضر، ومتعه العابرة، فأنت لست راهبًا من الرهبان؛ بل أنت تتصل بالاتجاهات السائدة في اللحظة الآنیة، وتتصل بتیار الحیاة الجاري. لكنك تحصل على متعة أكبر بتحقیقك أهدافك البعیدة، وتجاوُزِك المحن التي تعترض سبیلك، وهذه العلاقة الموسعة مع الزمن سیكون لها تأثیر واضح فیك، فتجعلك أكثر هدوءًا، وأكثر واقعیة، وأكثر تناغمًا مع الأمور التي تهمك فعلًا. وستجعلك أیضًا مخطِّطًا إستراتیجیا بارعًا في حیاتك؛ وقادرًا على مقاومة ردود الأفعال المفرطة الحتمیة للناس، على ما یحدث في الزمن الحاضر؛ وقادرًا على رؤیة مسافة أكبر في المستقبل؛ وتلك طاقة كامنة في البشر لم یستغلوها بعدُ إلا قلیلًا.

 

تعلمنا السنین الكثیر مما لم تعرفه الأیام مطلقًا   رالف إیمرسون

 

 

0 التعليقات: