قوانين الطبيعة البشرية 46
العقل المرن – الإستراتیجیات الذاتیة
لا بد أن مما یحبطك مقاومة الناس أفكارك الجیدة بسبب عنادهم الجائر، لكنك لا تدرك غالبًا كیف أن المشكلة ذاتها تصیبك أنت، وتحدُّ من قدراتك الإبداعیة.
لقد كنا صغارًا نتحلى بالمرونة بصورة لافتة، فكنا نستطیع التعلم بسرعة تفوق بكثیر قدراتنا على التعلم ونحن كبار، ویمكننا أن نعزو هذه الطاقة غالبًا إلى شعورنا بالضعف وسرعة التأثر، فإحساسنا بدونیتنا (آنذاك)، بالمقارنة بالآخرین الأكبر منا، جعلنا نشعر بتحفز شدید للتعلم، وكنا أیضًا فضولیین بحقٍّ، ومتعطشین لاكتساب المعلومات الجدیدة، وكنا منفتحین لتقبُّل تأثیر الوالدین، والأقران، والمعلمین.
وفي عمر المراهقة، مر كثیر منا بتجربة الوقوع تحت تأثیر كتاب عظیم، أو كاتب عظیم، ففتنتنا الأفكار البدیعة في ذلك الكتاب، وبما أننا كنا منفتحین جدا لتقبُّل التأثیر، فإن قراءاتنا الأولى لهذه الأفكار المثیرة تغوص عمیقًا في عقولنا، وتصبح جزءًا من عملیات التفكیر عندنا، فتؤثر فینا عقودًا بعد استیعابنا إیاها، وتغني هذه التأثیرات ثنایا عقولنا، والحق أن ذكاءنا یعتمد على قدرتنا على استیعاب الدروس والأفكار التي نجدها عند من هم أكبر منا سنا، وأكثر منا حكمة.
وعلى نحو ارتباط الجسم بالعمر، فإن العقل كذلك یرتبط بالعمر، ومثلما یحفز إحساسُنا بالضعف وسرعةِ التأثر الرغبةَ فینا للتعلم، فإن الإحساس بالتفوق الذي یتسلل إلینا یجعلنا شیئًا فشیئًا منغلقین في وجه الأفكار والتأثیرات الجدیدة، ولعل بعض الناس یحاجج فیقول بأننا بتنا أكثر تشككًا في عالمنا الحدیث، لكن الحق أن خطرًا أعظم من ذاك بكثیر یأتینا مما یصیبنا من ازدیاد انغلاق عقولنا ونحن نتقدم في العمر؛ ویبدو أنه یصیب ثقافتنا إجمالًا.
ولنحدد الحالة المثالیة للعقل لیحتفظ فیها بمرونة الشباب إلى جانب القدرات المنطقیة للكبار في السن؛ فهذا العقل (في هذه الحالة) یكون منفتحًا لتقبُّل تأثیر الآخرین.
وكما اعتمدت على إستراتیجیات قادَتْك إلى التخفیف من مقاومة الناس، فعلیك أن تفعل الشيء ذاته مع نفسك، فتعمل على تخفیف أنماط صرامة عقلك.
وللوصول إلى هذه الحالة المثالیة للعقل لا بد لك أولًا أن تتبنى المبدأ الأساسي في فلسفة سقراط؛ فقد كان من أوائل المعجبین بسقراط، شابٌّ اسمه (كریفون)، ونتیجة خیبة أمل كریفون من أن یُكبِر المزید من أهل أثینا سقراط على نحو إكباره إیاه، قام بزیارة عرَّافة معبد دلفي، وطرح علیها السؤال الآتي هل هناك من هو أحكم من سقراط في أثینا كلها؟ فأجابته الكاهنة : لا
وشعر كریفون بأنه محق في إعجابه بسقراط، وأسرع إلى أستاذه لیبلغه الخبر الطیب؛ إلا أن سقراط، الذي كان إنسانًا متواضعًا، لم یسرَّ مطلقًا بسماع ذلك، وقرر أن یثبت أن العرَّافة على خطأ؛ فزار أناسًا كثیرین، وكان كلٌّ منهم مرموقًا في مجاله – في السیاسة، والفنون، والتجارة – وطرح علیهم أسئلة كثیرة، وعندما كانت الأسئلة المطروحة علیهم تقع في مجال نطاق معرفتهم كانوا یبدون أذكیاء جدا، لكنهم فیما سواها كانوا یسترسلون في الكلام عن جمیع صنوف الموضوعات التي كان من الواضح أنهم لا یفقهون فیها شیئًا، وفي تلك الموضوعات الخارجة عن نطاق تخصصهم كانوا ببساطة یطلقون الأقوال السائرة (العامة بین الناس)، ولم یكونوا یمعنون التفكیر في أي فكرة من تلك الأفكار.
وفي نهایة المطاف كان على سقراط أن یعترف أن العرَّافة كانت على حق فعلًا، فقد كان أحكمَ من الآخرین جمیعًا؛ لأنه كان یدرك ما عنده من جهل، وكان سقراط مرة بعد أخرى یفحص أفكاره الخاصة، ویعید فحصها، لیرى ما استقر فیها من جوانب القصور وعواطف الأطفال. وأصبح شعاره في الحیاة حیاة بلا فحص، لا تستحق العیش فیها .
وقد تمثلت جاذبیة سقراط التي جعلته یأسر قلوب شباب أثینا إلى أبعد الحدود، تمثلت في تفتُّح عقله الكبیر، وكان سقراط في جوهره یتمثل الموقف الضعیف الهش سریع التأثر لطفل جاهل: فكان لا یبرح یطرح الأسئلة.
فشيء من التواضع في تقدیرما نعرفه، سیجعلنا أكثر حبا للاطلاع، وأكثر اهتمامًا بمجال واسع من الأفكار. وعندما تنظر في الأفكار والآراء التي تحملها علیك أن ترى فیها دمًى، أو قطع ألعاب تجمیعیة، تلهو بها. فتحتفظ ببعضها، وتستبعد بعضها، وتبقى روحك مرنة مرحة.
ویحسن بك من حین إلى آخر أن تضع جانبًا ما عندك من قواعد وقیود راسخة؛ فهذه القواعد لیست إلا خطوطًا إرشادیة، ولإثبات حریتنا لا بد لنا أن نخرقها بین حین وآخر.
وفي الختام، عندما یتعلق الأمر باعتدادك بنفسك حاول أن تفصل بینك وبینه مسافة تهكمیة لترى فیه ما لا تتوقعه منه؛ بقَدَر؛ فاجعل نفسك تدرك وجوده، وتدرك كیف یعمل داخلك. وتقبَّل حقیقة أنك لست حرا، ومستقلا، كما تحب أن تعتقد؛ فأنت تتكیف مع آراء الجماعة التي تنتمي إلیها؛ وأنت تشتري ما تشتري من منتجات بسبب تأثیرها أو تأثیر الدعایة لها في عقلك الباطن؛ ومن الممكن خداعك. وعلیك أن تدرك أیضًا أنك لست إنسانًا صالحًا بالصورة المثالیة التي یصورها لك اعتدادك بنفسك. فحالك كحال الآخرین غیرك، یمكن أن تكون شدید الانشغال بنفسك، وشدید الهوس بمخططاتك. فإذا كان عندك هذا الإدراك، فلن تشعر بالحاجة إلى أن یعترف الآخرون بقدرك. وبدلًا من ذلك، ستعمل على أن تجعل نفسك مستقلا بحق، ومهتما بسعادة الآخرین، لا أن تكون متعلقًا بأوهام غرورك واعتدادك بنفسك.