ليس من الضروري أن يكون ضعف الحضارات نتيجة لفساد الناس ، أو لهبوط هممهم نتيجة لاستنامتهم لمهاد الدعة وكرههم للحرب ، وميلهم إلي العيش السهل وقبولهم للهوان وما إلي ذلك
أي أنه ليس من الضروري أن يكون الضعف والتدهور راجعين إلي تغير في أخلاق الناس ، إنما يحدث ذلك لأن القوة الدافعة للأمة تتراخي وتضعف
الصفوة هي التي تطمح وتتخيل وتتحرك وتقود فإذا تحققت للأمة غايتها من طلب العلم أو الفتح العسكري أصبح هم الصفوة القائدة فيها المحافظة علي ما وصلت إليه ،
وتغيرت طبيعتها من صفوة سائرة متجددة إلي جماعة راكدة محافظة علي الوضع القائم ، ومع المحافظة علي الموجود يتجه الطموح إلي المزيد من التوسع والتقدم إلي مزيد من السلطان في نفس الحدود وهنا يبدأ التنافس بين القادة علي المساحة المفتوحة
وخلال هذه الفترة يتجه كل من الطامحين إلي السلطان إلي القضاء علي الآخرين ، وينتهي الأمر بانتصار واحد أو جماعة منهم يتزعمها رئيس منهم
وفي العصور الماضية يتحول الزعيم إلي ملك أو سلطان أو قيصر ، ويشاركه أنصاره في السلطان أول الأمر ثم لا يلبث أن يقضي علي من في نفسه نزوع إلي المنافسة منهم ،
ولا يبقي إلا الذين يرضون بالانقياد والطاعة والقنوع من الغنيمة بما يعطيهم إياه صاحب السلطان
وما دام تطور الاحوال قد وصل إلي هذه المرحلة ، فإن جهد الأسرة ومؤسستها ينصرف إلي القضاء علي من بقي من الصفوة متمسكاً بطموحه وعزة نفسه
ثم يصبح القضاء علي كل الصفوة جزءاً من سياسة الحكم ، ولا ينعم برضي صاحب السلطان إلا كل خانع وقانع وراض بأن يكون ذليلاً
وما دامت قد قامت في الجماعة أسرة حاكمة فإن الاحساس العام بين أفراد الأمة جميعاً يتغير وتنخفض همتهم ، وتتدني حالتهم النفسية التي كانت دافعاً فيما مضي للتقدم
وفي تلك الظروف تحيط بالجماعة في تلك المرحلة من تدهورها ، نلاحظ أن القوة الابداعية في الأمة تضعف وربما تلاشت ، فبينما نجد الأمة في طور نهوضها تملك القوة علي ابتكار الحلول للمشاكل التي تواجهها ،
نجدها في تلك المرحلة مستسلمة للمصير عاجزة أمام المشاكل والتحديات ، ويبدو كأن قوتها الذهنية قد توقفت ، وليس معني ذلك أن الأمة تخلو من المفكرين ، ولكن معناه أن السلطة الحاكمة احتكرت التفكير وحرمته علي الآخرين
ولا نجد أمة في هذا الطور إلا كان حكامها من أعداء الفكر والمفكرين ، لأن الفكر في ذاته قوة ، وهم يخافون من كل قوة
...
والسلطة الحاكمة في عصر التمزق تحتكر الفكر لنفسها وهي عاجزة عن الفكر ، لأنها في الغالب تتكون من طغمة من أهل الظلم والاستبداد لا يتسع ذهن أفرادها لأكثر من الدفاع عن وجودهم
وخلال فترة التصدع هذه تفسد الطبقة الحاكمة وتتدهور الأمور في أيديها تدهوراً مستمراً ، لأنها قضت علي الصفوة القائدة او اضطرتها إلي السير في ركابها محافظة علي حياتها ، ودون صفوة قائدة لا تقدم علي الاطلاق
....
بعدما ذكر المؤلف ( حسين مؤنس ) أفكار الفلاسفة والمفكرين في عصر التنوير الذي قاد الغرب إلي نهضته الحالية يقول :
وجدير بالذكر أن جانباً كبيراً من هذه الآراء والنظريات كان موجوداً عند المسلمين من فجر الاسلام وآيات القرآن الكريم والاحاديث النبوية وأقوال الصحابة والمفكرين المسلمين الأول تؤكد هذا الذي قلناه ،
ولكن العبرة في التاريخ بالتنفيذ ، وهو ما يحتاج في حالتنا هذه إلي جرأة وبسالة وإيمان واستعداد للتضحية، وفي الغرب وُجد المفكر الجرئ الباسل المؤمن الذي قبل التضحية وعندنا لم يُوجد
الشعور بأن الانسانية في طريق مسدود ، وبأنه لابد من إيجاد طرق أخري لمواصلة التقدم هو الذي يعطي أولئك المفكرين هذه الأهمية في تاريخ الحضارة
...
وهذا موقف أليم عرفناه نحن بعد القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي ، عرفناه دون أن نفكر في الخروج منه كما فعل هؤلاء ، لأن نفراً من أعاظم مفكري الاسلام نجحوا في إقناع الناس بأن السعادة في هذه الدنيا لا وجود لها ومن ثم فمن العبث البحث عنها ، وأن السعادة لا توجد إلا في الحياة الآخرة ومن ثم فلابد من تركيز جهد الانسان كله في ضمان وصوله إلي سعادة الآخرة ، عن طريق العبادات والزهد في كل ما تقدمه هذه الحياة من خيرات
الفكر هو الذي يحرك الحضارة والمفكرون بآرائهم وأقوالهم هم الذين يصنعون حركة التاريخ أما رجال الحرب والسياسة فلا يصنعون حضارة ، ودورهم هنا هو إما حماية مسيرتها والاسراع بحركة سيرها أو تعويق هذا المسير بل القضاء عليه
فالدول لا تصنع الحضارة بل تصنع نفسها ، والباقي تصنعه الأمم إذا لم تحل الحكومات بينها وبين ذلك
أولئك الرجال صانعوا الحضارة كانوا معنيين بالمستقبل ، والسؤال الذي كان يتردد في أذهانهم هو : ماذا نعمل لكي يكون مستقبل الحضارة الانسانية خيراً من حاضرها ، وأمسها ؟
وهذا شيئ جديد جداً في التفكير الفلسفي والتاريخي والحضاري
فإلي ذلك الحين كان الناس يرون أن المستقبل هو الحياة الآخري بعد الموت ، ولم يذكروا قط أن للحياة مستقبلاً علي هذه الأرض قبل الموت ، وأن هذا المستقبل ينبغي أن يكون أفضل من الحاضر والماضي معاً ، وهنا لايسع الانسان إلا أن يذكر الحديث النبوي الشريف الذي يقول " إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً "
ويقف خاشعاً أمام هذه الحكمة النبوية البالغة التي كانت وحدها كفيلة بأن تصل بنا إلي السعادة المنشودة في هذه الدنيا والآخرة