08‏/02‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 9

 قوانين الطبيعة البشرية 9


الخطوة الثالثة: أسالیب استخراج النفس العقلانیة

 

هناك عاملین ینبغي أن یمنحانا الأمل؛ أولهما: وأهمهما وجود قدر عظیم من العقلانیة عبر التاریخ وفي جمیع ثقافات الناس، فكانت هناك أنماط من أصحاب العقلانیة مكنتنا من التقدم، إنها نماذج علینا جمیعًا الاقتداء بها؛ فنذكر منهم بیریكلیس، وحاكم الهند القدیمة آشوكا، وماركوس

أوریلیوس من روما القدیمة، ومارغریت دیفالوا من فرنسا في العصور الوسطى، ولیوناردو دافنشي ، وأبراهام لینكولن، والكاتب أنطون تشیخوف، والعالمة بعلوم تطور الإنسان مارغریت مید، ورجل الأعمال وارین بافت؛ وهؤلاء غیض من فیض. وجمیع هؤلاء یشتركون في خصال معینة؛ فلدیهم تقییم واقعي لأنفسهم ولنقاط الضعف فیهم؛ ولدیهم إخلاص للحقیقة والواقع؛ ولدیهم موقف متسامح مع الناس؛ ولدیهم القدرة على الوصول إلى الأهداف التي رسموها لأنفسهم.

 

والعامل الثاني :هو أننا جمیعًا تقریبًا - وفي مرحلة ما من حیاتنا - مررنا بلحظات عقلانیة عظیمة، وهي تأتي غالبًا مع ما ندعوه: عقلیة الصانع؛ فإذا كان لدینا مشروع ینبغي إنجازه، ولعل له أجلًا محددًا، فإن العاطفة الوحیدة التي بإمكاننا الشعور بها هي الإثارة والطاقة، أما العواطف الأخرى فستصعِّب علینا ببساطة التركیز في مشروعنا، وبما أن علینا الخروج منه بنتائج فإننا نصبح أشخاصًا عملیین على نحو غیر معهود، فترانا نهتم بعملنا، والسكینة تسكن عقلنا، والأنا لا تتدخل فینا، ولو حاول الناس مقاطعتنا أو التأثیر فینا بالعواطف فسنرفض ذلك، وهذه اللحظات التي تمر بنا لأسابیع قلیلة أو ساعاتتكشف فینا عن النفس العقلانیة، التي تنتظر الخروج، وكل ما تحتاجه (لتخرج) شيء من الإدراك، وشيء من الممارسة.

 

ولقد صممت الأسالیب الآتیة لمساعدتك في إخراج بیریكلیس، من داخلك:

 

1-  اعرف نفسك حق المعرفة:

تكبُر النفس العاطفیة بالجهل، واللحظة التي تدرك فیها كیف تعمل النفس العاطفیة داخلك وتسیطر علیك، هي اللحظة التي تفقد فیها سیطرتها علیك؛ وتستطیع عندئذ ترویضها؛ لذا فإن خطوتك الأولى باتجاه العقلانیة هي الاتجاه إلى داخلك دائمًا، فعلیك أن تقبض على النفس العاطفیة وهي تفعل فعلها فیك.

 

وللوصول إلى هذه الغایة علیك أن تفكر في تصرفاتك وأنت تحت الضغط، وما هي نقاط الضعف التي تظهر في تلك اللحظات؛ الرغبة في المتعة، أو الرغبة في التنمر، أو التحكم بالآخرین، أو مستویات عمیقة من الریبة؟

 وانظر في قراراتك، وبخاصة منها ما كان بلا جدوى؛ هل تستطیع أن ترى رابطًا بینها، وهل هناك مخاوف كامنة تدفعك إلیها؟ وتفحص قواك، ما الذي یجعلك مختلفًا عن الناس الآخرین؟ فهذا الأمر سیحدد لك الأهداف المنسجمة مع مصالحك بعیدة المدى، والمنسجمة مع مهاراتك، وعندما تعرف من نفسك ما یجعلك مختلفًا، وتعرف تقییمك له ستصبح قادرًا كذلك على مقاومة جاذبیة الانحیاز للجماعة وتأثیراته.

 

2-  تفحص عواطفك حتى تصل إلى جذورها  :

 إذا كنت غاضبًا، فدعْ عواطفك تستقر داخلك، ثم فكِّر فیها، فهل حفزها شيء یبدو تافها أو حقیرًا؟ فتلك علامة أكیدة على أن وراءها شیئًا ما أو شخصًا ما، ولعل هناك عاطفة أكثر إزعاجًا موجودة في مصدر عاطفتك، من قبیل الحسد أو جنون العظمة؛ فعلیك أن تنظر إلى ذلك نظرة مباشرة، وتنقِّب تحت أي نقاط محفزة، لترى من أین انطلقت.

 

وللوصول إلى هذه الغایة ربما كان من الحكمة أن تستخدم دفتر یومیات تسجل فیه تقییماتك الذاتیة بموضوعیة قاسیة، وأكبر خطر تواجهه هنا هو الأنا عندك، التي ستجعلك تحافظ -بلا وعي منك- على الأوهام التي تتصورها في نفسك، ولعلها تكون أوهامًا مریحة لك في هذه اللحظة، إلا أنها في المدى البعید تجعلك إنسانًا دفاعیا (متوجسًا)، ولا تستطیع التعلم من أخطائك، أو التقدم في حیاتك. وعلیك أن تجد لنفسك موقعًا حیادیا یمكنك أن تراقب تصرفاتك منه، مع شيءمن التجرد، وشيء حتى من الدعابة، وسرعان ما یصبح كل ذلك طبیعة ثانیة لك، فإذا رفعت نفسك العاطفیة رأسها في ظرف ما فستراها في أثناء ظهورها، وستكون قادرًا

على التریث وإیجاد ذلك الموقع الحیادي.

 

3-  زد في زمن استجابتك أو تفاعلك:  

تأتیك هذه القوة عن طریق الممارسة والتكرار، فعندما یتطلب حدث ما، أو تفاعل ما استجابة منك، فعلیك أن تدرب نفسك على التریث، وربما یعني هذا أن تنتقل بجسمك إلى مكان یمكنك الانعزال فیه، وعدم الشعور بأي ضغط علیك لتستجیب؛ أو قد یعني أن تكتب رسالة موجهة إلى ذلك الغضب دون أن ترسلها؛ بل (تجعلها تحت وسادتك) تنام علیها لیوم أو یومین. ولا تقم بإجراء مكالمات هاتفیة أو تتواصل مع الآخرین وأنت تشعر بعاطفة مفاجئة؛ وبخاصة عاطفة الاستیاء، وإذا ألفیت نفسك تندفع إلى الوثوق بالناس في استئجارهم أو في العمل عندهم، فتریث مدة یوم كامل، وهدئ من عواطفك، وكلما زادت مدة تریثك كان ذلك أفضل لك؛ لأن الرأي الصحیح یستغرق وقتًا (للنضوج)، وانظر إلى الأمر كأنه تمرین رفع أثقال؛ فكلما زادت مقاومتك للاستجابة، زادت المساحة الذهنیة عندك للتفكر الفعلي، وزادت قوة

عقلك.

 

4-  تقبَّل الناس كأنهم حقائق:  

إن التفاعلات مع الناس هو المصدر الرئیسي للاضطراب العاطفي،إلا أنه لیس بالضرورة أن یكون كذلك؛ فالمشكلة هي أننا نحكم على الناس باستمرار، ونتمنى لو أنهم كانوا على خلاف ما هم علیه، فنرید أن نغیرهم، ونرید منهم التفكیر والتصرف بطریقة معینة، وغالبًا ما تكون تلك الطریقة نفسها التي نفكر ونتصرف بها.

 

وبما أن هذا الأمر مستحیل؛ لأن كل إنسان یختلف عن غیره، ترانا دائمًا محبطین ومنزعجین، لكن بدلًا من ذلك انظر إلى الآخرین كأنهم ظواهر، ظواهر حیادیة، كالمذنبات والنباتات؛ إنهم موجودون ببساطة، وهم من كل صنف ونوع، یزیدون الحیاة غنًى وإمتاعًا، فاعمل بما یقدمونه إلیك، بدلًا من أن تقاومهم وتحاول تغییرهم، واجعل فهمك للناس لعبة ممتعة لك، كألعاب حل الألغاز؛ فذلك كله جزء من الملهاة الإنسانیة.

 

وصحیح أن الناس لاعقلانیون، لكنك أنت أیضًا لاعقلاني؛ فاجعل تقبلك للطبیعة البشریة

بأقصى ما تستطیعه، فهذا سیبث فیك السكینة، وسیساعدك على مراقبة الناس بموضوعیة، وفهمهم بمستویات عمیقة، وستتوقف عن إسقاط عواطفك الخاصة علیهم، وكل ذلك سیزیدك توازنًا وسكینة، وسیزید في المساحة الذهنیة للتفكیر عندك.

 

ولا شك أن من الصعب علیك القیام بذلك، بینما أنماط من الناس كأنها الكوابیس تعترض سبیلك؛ من النرجسیین الهائجین، إلى العدوانیین السلبيين (المستترین)، إلى غیرهم من المستفزین، فهم جاثمون في اختبار مستمر لعقلانیتنا، ولیكن نموذجنا في ذلك الكاتب الروسي أنطون تشیخوف، وهو واحد من أكثر العقلانیین صلابة في التاریخ، لقد كانت أسرته أسرة فقیرة كبیرة العدد، وكان أبوه سكِّیرًا یضرب أطفاله جمیعًا بلا رحمة؛ ومنهم أنطون الصغیر، (وكبر أنطون) وأصبح طبیبًا، واتخذ من الكتابة مهنة ردیفة له، وطبق دراسته في الطب على الكائن البشري، فكان هدفه أن یفهم ما یجعلنا لاعقلانیین إلى حدٍّ كبیر، وتعساء إلى حدٍّ كبیر، وخطرین إلى حدٍّ كبیر. وفي قصصه ومسرحیاته وجد أن من العلاج الناجع للغایة الدخول في شخصیاته، وفهم أنماط الناس؛ حتى أسوأها، وبهذه الطریقة استطاع أن یسامح الجمیع، حتى والده، وكان نهجه في هذه الحالات أن یتصور أن الأشخاص المنحرفین -مهما كانوا منحرفین- لدیهم أسباب یبررون بها ما أصبحوا علیه، مبررات یرونها منطقیة، وبطریقتهم الخاصة، یسعون لتحقیق إنجازاتهم، لكن بطریقة لاعقلانیة. وبالتریث، وتخیل قصصهم بأعماقها، كان أنطون تشیخوف ینزع الصبغة الأسطوریة عن الهمج والبغاة؛ فیقلصهم إلى الحجم البشري، فلم یعودوا یثیرون الكراهیة، بل أصبحوا مثیرین للشفقة، فعلیك أن تفكر بطریقة أقرب ما تكون إلى طریقة الكاتب للدنو من الناس الذین تتعامل معهم؛ حتى بأسوأ أصنافهم.

 

5-  اعثر على التوازن المثالي بین التفكیر والعاطفة:

لا نستطیع الفصل بین عواطفنا وتفكیرنا؛ فهما متشابكان بصورة كاملة، لكن لا مناص من أن یكون ثمة عامل مهیمن، فمن الواضح أن بعض الناس تحكمهم العواطف أكثر من غیرهم، وما نحن بصدد البحث عنه هو النسبة الملائمة والتوازن المناسب، ذلك التوازن الذي یؤدي إلى أكثر التصرفات فعالیة، وقد كان لدى الیونان القدامى تعبیر مجازي یمثلون به ذلك فیقولون: الفارس والحصان؛ فالحصان هو طبیعتنا العاطفیة التي تدفعنا باستمرار إلى التحرك، ولهذا الحصان طاقة وقوة هائلتان، إلا أنه إذا كان بلا فارس فسیضل طریقه؛ فهو حصان بري، وعرضة لخطر المفترسات، ویتوجه باستمرار نحو المتاعب، والفارس هو نفسُنا المفكِّرة.

وبالتدریب والممارسة، یأخذ بعنان الحصان ویوجهه، فیحول طاقة هذا الحیوان القوي إلى شيء مثمر، ولا نفع في أحدهما دون الآخر، فلولا الفارس، لما كانت هناك حركة موجهة أو هدف، ولولا الحصان لما كانت هناك طاقة أو قوة، ونرى الحصان مهیمنًا عند معظم الناس، والفارس عندهم ضعیف، وبعض الناس یكون الفارس عندهم قوی جدا، ویمسك بعنان الحصان بشدة بالغة، خائفًا من أن یترك الحصان یعدو بین الفینة والأخرى، فلا بد للحصان والفارس من أن یعملا معًا، وهذا یعني أن نحسب أفعالنا مسبقًا؛ فنقوم بقدر ما یمكننا من تفكیر في الحالة (التي نحن فیها) قبل أن نخلص إلى قرار ما، لكننا حالما نصل إلى القرار، نرخي العنان، ونقوم بما علینا فعله، بروح الجرأة والمغامرة، فبدلًا من أن نكون عبیدًا لهذه الطاقة، نقوم بتوجیهها، وذلك هو جوهر العقلانیة.



0 التعليقات: