قوانين الطبيعة البشرية 19
مهارات المراقبة:
عندما كنا أطفالًا صغارًا كنا جمیعنا تقریبًا نراقب الناس أفضل ما تكون المراقبة، فبما أننا كنا صغار الحجم وضعاف البنیة فقد كان نجاحنا في حیاتنا یعتمد على كشف ابتسامات الناس ونبرات أصواتهم، وكثیرًا ما كانت تفاجئنا ضروب المشي الغریبة عند البالغین، وابتساماتهم المبالغ فیها، وتأنقهم المتكلَّف، وكنا نقلدهم لمجرد المتعة. وكنا نستطیع أن نحس بأن أحدهم خائف من شيء ما، من لغة جسده، وهذا هو السبب الذي یجعل الأطفال مصدر إزعاج لكل أفَّاك كذاب، أو مخادع محتال، أو ساحر دجال، أو لكل من یدَّعي لنفسه شیئًا لیس له حقیقةً، فسرعان ما یكشف الأطفال ما وراء مظاهر أولئك المدَّعین، ثم شیئًا فشیئًا -وبدءًا من سن الخامسة من العمر -
یأخذ هذا الإحساس بالضیاع، مع تحولنا إلى داخلنا، لنصبح أكثر اهتمامًا بالطریقة التي یرانا بها الآخرون.
ولا بد لك أن تدرك أن المسألة هنا لیست في اكتسابك مهارات جدیدة لا تملكها، بل هي بالأحرى إعادة اكتشاف مهاراتك التي كانت لدیك في السنوات الأولى من حیاتك، وهذا یعني أنك ستقوم شیئًا فشیئًا بقلب عملیة الانشغال بالنفس، واستعادة نظرتك الموجهة إلى خارجك، مع الفضول الذي كان عندك وأنت طفل.
وتتطلب منك هذه المهارة التحلي بالصبر، حالها في ذلك كحال أي مهارة أخرى؛ فما تقوم به یعمل على إعادة تركیب دماغك عن طریقة الممارسة، فتنشأ روابط عصبونیة جدیدة فیه. ولا تثقل نفسك بالكثیر من المعلومات بادئ الأمر، فأنت بحاجة للتقدم بخطوات صغیرة، فتلاحظ تقدمًا طفیفًا، لكنه تقدم یوميٌّ، فإذا صادف أن كان لك حدیث مع شخص ما فلیكن هدفك مراقبة تعبیر في وجهه، أو تعبیرین یبدوان یخالفان ما یقوله ذلك الشخص، أو یدلانك على معلومات أخرى، وانتبه إلى تعابیر الوجه الصغرى، والخطفات التي تعرِض للوجه بسبب التوتر، والابتسامات المصطنعة
وبینما تقوم بممارسة هذه التمرینات لا بد لك أن تكون مسترخیًا، ومنفتحًا على ما
تراه، ولا تغوینَّك فكرة تفسیر مشاهداتك بالكلمات، وعلیك أن تشترك بالحدیث بأقل
الكلام، وتحاول أن تجعل محاوریك یكثرون في كلامهم، وحاول أن تعكس أفكارهم
أو مشاعرهم، فتبدي ملاحظات تتصل بشيء مما قالوه، أو تبیِّن أنك تستمع إلیهم، فلهذا
الأمر تأثیره في جعلهم یسترخون، ویرغبون في إطالة الحدیث، فیفضي ذلك إلى زیادة
تسرب الإشارات غیر الكلامیة منهم، إلا أن مراقبتك للناس ینبغي ألا تكون جلیَّة مطلقًا.
فعندما یشعر الناس بأن هناك من یدقق فیهم وفي حركاتهم، فإنهم یتَّشحون بالجمود،
ویحاولون السیطرة على تعابیرهم،
وعندما تراقب شخصًا ما على مر الأیام، فعلیك أن تقرر تعابیره الأساسیة ومزاجه
المعياري
والمعتاد، فبعض الناس هادئون بطبیعتهم ومتحفظون، وتكشف عن ذلك تعابیرُ وجوههم، وبعضهم مفعم بالحیویة والنشاط، وآخرون لا یفتؤون یرتدون مسحة القلق، فإذا كنت
عارفًا بتصرفات أحدهم المعتادة، فإن بوسعك أن تلتفت باهتمام أكبر إلى أي تغیرات تطرأ علیها؛ فعلى سبیل المثال، الحیویة المفاجئة عند شخص سَمْته التحفظ، أو نظرة الاسترخاء عند من شیمته الانفعال. فعلمك بخط الأساس الذي ینطلق منه أحدهم، یسهل علیك رؤیة علامات تهتك ما یخفیه، أو تكشف ما یزعجه.
وبالعودة إلي التعابیر الأساسیة، حاول أن تراقب الشخص الواحد في أوساط مختلفة،
ولاحظ تغیر الإشارات غیر الكلامیة التي یبدیها عندما یتحدث مع زوجته، أو مدیره في
العمل، أو موظف عنده.
كذلك فإن علیك أن تولي اهتمامًا كبیرًا بأي إشارات مختلطة تكتشفها: كادعاء أحدهم أنه یحب فكرتك، أما وجهه فالتوتر بادٍ علیه، وتسمع له نبرة صوت كلِیلة؛ أو ترى بعضهم یهنئك بالترقیة التي أحرزتها، إلا أن ابتساماته مصطنعة وتعابیر وجهه تبدو حزینة، وهذا النوع من الإشارات المختلطة شائع جدا، ویمكن لأجزاء مختلفة في الجسم
لا بد لك أن تعلم أن جزءًا كبیرًا من التواصل بلا كلام یرشَح بالعواطف السلبیة؛ فعلیك أن تعطي ثقلًا أكبر للعلامة السلبیة؛ التي تدل على المشاعر الحقیقیة لمن تحادثه. وبوسعك في مرحلة تالیة، أن تسأل نفسك عن السبب الذي یجعل الآخرین یشعرون بالحزن أو الجفاء.
ولتزید في ممارستك لهذه المهارة جرب أن تقوم بتمرین مختلف. فاجلس في مقهى أو أي مكان عام، ودونَ أن تتحمل عبء الدخول في حدیث مع الآخرین، قم بمراقبة الناس من حولك، وألق سمعك إلى أحادیثهم؛ بحثًا عن العلامات الصوتیة، ولاحظ ضروب مشیهم، ولغة أجسادهم بالمجمل. ودوِّنْ ملاحظاتك إذا تیسر لك ذلك، فإذا أجدت هذا التمرین فبإمكانك أن تخمِّن مهن الناس من العلامات التي تلتقطها، أو تخمن شیئًا من شخصیاتهم مما تخبرك به لغة أجسادهم. وستكون تلك لعبة ممتعة لك.
ولا تنس أن الناس الآتین من ثقافات ومشارب شتى یختلفون في قبولهم بالسلوكیات
المختلفة، وهذا ما یعرف باسم قواعد السَّمْت؛ ففي بعض الثقافات تكیف الناس مع الابتسام القلیل، وفي بعضها تكیفوا مع التلامس الكثیر، وبعضها تشدد لغاتها على نبرة الصوت في فهم معنى الكلام. فلیكن في حسبانك دائمًا الأساس الثقافي للناس، لتفسر ما یظهر منهم من إشارات وفقًا له.
وحاول في ممارستك تمارینك أن تراقب نفسك أیضًا. فلاحظ كم مرة تمیل فیها إلى رسم ابتسامة زائفة على وجهك، ومتى یكون ذلك، وكیف یقوم جسمك بتسجیل الانفعال؛ فهل یظهر انفعالك في نبرة صوتك، أم في القرع بأصابعك، أم في تحسسك لشعرك، أم في ارتعاش شفتیك، أم في غیر ذلك؛ فعندما تدرك بدقة، تصرفاتك غیر الكلامیة، تصبح أكثر حساسیة وتنبُّها لإشارات الآخرین، وستتحسن قدرتك على تصور العواطف التي تجیش مع الإشارات الصادرة، كذلك سیزداد تحكمك بتصرفاتك غیر الكلامیة، وهو أمر بالغ القیمة لتقوم بتقمص الدور المناسب
0 التعليقات:
إرسال تعليق