28‏/02‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 31

 قوانين الطبيعة البشرية 31


التفسیر: في اللحظة التي جربت فیها شانیل ارتداء ثیاب (إتیان بَالْسان) وأثارت اهتمامًا بها من نوع جدید لمع في ذهنها أمرٌ ما، كان له أن یغیر مسار حیاتها إلى الأبد، وقبل ذلك، كانت دائمًا تتشهى شیئًا یتخطى الحدود یحفز خیالاتها، فلم یكن من المقبول اجتماعیا لفتاة یتیمة حقیرة أن تتطلع إلى الاختلاط بالطبقات الراقیة، ولم یكن دور الممثلة، ولا دور المومس، مناسبین لها لتواصل القیام بهما، وبخاصة لفتاة نشأت في الدَّیر.

لكنها بعد أن تجولت حول قصر (بالْسان) على الحصان مرتدیة البنطال وقبعة القش أصبحت فجأة محط رغبةِ تشهي الآخرین؛ فانجذبوا إلى الجانب الذي یتخطى الحدود في ملابسها التي استخفت عمدًا بالفواصل بین الذكور والإناث. وبدلًا من أن تكون حبیسة عالم الخیال المليء بأحلامها وتخیلاتها، كانت هي من یثیر مخیلات الناس الآخرین، وكلُّ ما كانت تحتاجه هو المحافظة على وجهة نظرها في التفكیر بالجمهور أولًا، والتخطیط للتلاعب بتصوراته، وكان الغالب في جمیع الرغائب التي أرادتها منذ طفولتها أنها ملتبسة، أو یصعب الحصول علیها، أو محظورة علیها؛ وهي الصفات التي كانت تجذبها إلیها، فتلك هي طبیعة رغبات البشر، وكان علیها ببساطة أن تغیر هذا الوضع، وتدمج هذه العناصر في رغائب تصنعها بنفسها.

 

وإلیك الطریقة التي أنجزت بها هذا السحر: ففي البدایة أحاطت نفسها وما تصنعه بهالة من الغموض، فلم تتحدث یومًا عن طفولتها المعدمة؛ بل لفقت قصصًا متناقضة لا تحصى عن ماضیها، فلم یكن أحد یعرف حق المعرفة أي شيء واقعي عنها، وكانت تضبط بحرص عدد المناسبات العامة التي تظهر فیها؛ فقد علمت قیمة الاختفاء عن الأعین لبرهة من الزمن، ولم تكشف أبدًا طریقة إعداد عطرها، ولا العملیات التي سارت فیها ابتكاراتها إجمالًا، وكان شعارها المقنِع على نحو غریب، مصمَّمًا لیحفز التفسیرات له، وعمل كل ذلك على منح جمهور العامة مساحة ذهنیة واسعة للتصور، والتفكر في أسطورة كوكو.

وثانیًا: كانت دائمًا ترفق تصامیمها بشيء یتخطى الحدود على نحو غامض، فكانت أزیاؤها ذات حواف ذكوریة واضحة، إلا أنها ظلت ملابس أنثویة بلا جدال. وكانت أزیاؤها تمنح المرأة الإحساس بأنها تتخطى الفواصل بین الذكور والإناث بالقیود المتراخیة في الملابس من الناحیة الجسدیة والنفسیة. كذلك كانت أزیاؤها منسجمة مع الجسم، فكانت تجمع بین حریة الحركة والأنوثة، ولیست هذه الملابس بملابس الأمهات، فارتداء أزیاء طلعة شانیل یعني التعبیر عن الشباب والحداثة. وعندما ترسَّخ ذلك، كان من الصعب على الشابات مقاومة هذه الدعوة.

وأخیرًا، كانت شانیل تحرص منذ أول أمرها على أن تُرى أزیاؤها في كل مكان؛ فمشاهدة نساء یرتدین تلك الملابس كان یحفز رغبة تنافسیة عند الأخریات، لیكون لدیهن الملابس نفسها ولا یبقین في عزلة عن الموضة. وكانت كوكو تذكر كیف كانت ترغب أشد الرغبة في رجال مرتبطین بأخریات، لقد كانوا محط رغبتها؛ لأن أحدًا آخر قد رغب بهم، فهذه الدوافع التنافسیة قویة فینا جمیعًا؛ وبخاصة بین النساء.

 

والحق أن قبعات القش التي صممتها بادئ الأمر لم تكن إلا رغائب عامة، یمكن لأي شخص شراؤها في متجر في منطقته، وكانت الأزیاء التي صممتها في البدایة، مصنوعةً من أرخص المواد، أما العطر فكان مزیجًا من أریج زهور معروفة، مثل الیاسمین، وبعض المواد الكیمیائیة، فلم یكن فیه شيء غریب أو ممیز، لقد كان سحرها سحرًا نفسیا خالصًا، حوَّل تلك الأشیاء إلى رغائب، حفزت رغبات قویة لتملُّكها.

 

الاستنتاج: كما كان الحال مع شانیل تمامًا، علیك أن تعكس اتجاه نظرتك؛ فبدلًا من تركیز اهتمامك على ما ترغب فیه وتشتهیه في هذا العالم علیك أن تدرب نفسك على تركیز اهتمامك على الآخرین؛ على رغباتهم المكتومة وخیالاتهم البعیدة، فعلیك أن تدرب نفسك لتعرف كیف ینظرون إلیك، وكیف ینظرون إلى الأشیاء التي تصنعها؛ كما لو كنت تنظر إلى نفسك وعملك من خارج نفسك؛ فهذا الأمر سیمنحك قوة لا حدود لها في تشكیل تصورات الناس لهذه الأشیاء، وتبث فیهم الإثارة بشأنها، والناس لا یریدون الحق والصدق؛ مهما سمعنا هذا الهراء یتكرر بلا انقطاع. بل هم یریدون تحفیز مخیلاتهم، لتصل إلى ما هو أبعد من ظروفهم العادیة، إنهم یریدون مخیلة، ورغائب یشتهونها، ثم یستجْدُونها. واصنع جوا من الغموض حول نفسك وحول عملك. وأرفق به شیئًا جدیدًا، وغیر معتاد، وغریبًا، وتقدمیا، ومحظورًا. ولا توضح رسالتك، بل اتركها  ملتبسة، واصنع وهمَ الانتشار لعملك ، فما تصنعه یرى في كل مكان، ویرغب فیه

الآخرون. ثم اترك للتشهي المستتر في جمیع البشر یفعل فعله؛ لتنطلق الرغبات في سلسلة من ردود الأفعال.

 

حصلت على الأقل على ما أریده. فهل أنا سعید؟ لا لست سعیدًا تمامًا. فما الذي أفتقده؟ إن روحي فقدت حمى النشاط التي كانت تشعلها فیها الرغبة... وَیْكأنَّه حريٌّ بنا ألا نضلل أنفسنا؛ فالسعادة لیست في الحصول على الرغائب، بل هي في السعي وراءها.

                                                                              بییر بومارشیه

 

0 التعليقات: