قوانين الطبيعة البشرية 24
القانون 4
حدد سلامة الطبع في الناس
(
قانون السلوك القهري )
عندما تختار الناس الذین ستعمل معهم أو تزاملهم، فلا تنبهر بسمعتهم، ولا تؤخذ بالصورة السطحیة التي یحاولون إبرازها لك؛ بل درِّب نفسك على النظر في أعماقهم، لترى طبعهم، ویتشكل طبع الإنسان في السنوات الأولى من عمره، وعن طریق العادات الیومیة، وهي التي تُكرِهه على تكرار تصرفات معینة في حیاته، توقعه في أنماط سلبیة، فلتتمعن في هذه الأنماط، ولتتذكر أن الناس لا یأتون بأمرٍ ما مرةً واحدة فقط؛ بل هم حتمًا یكررون سلوكیاتهم، ویمكنك أن تقیس سلامة طبعهم إذا عرفت إلى أي درجة یحسِنون مواجهة الشدائد، وعرفت قدرتهم على
التكیف والعمل مع الآخرین، وعرفت جلَدهم وقدرتهم على التعلم، فانجذب دائمًا إلى من تبدو علیهم علامات سلامة الطبع، وتجنب الأنماط السامة الكثیرة من الناس، وعلیك أن تعرف طبعك أنت بعمق؛ لتستطیع التخلص من أنماطك (الحیاتیة) القهریة، وتتحكم بمصیرك.
نمط الحیاة
كان هوارد هیوز صبیا أخرق، خجولًا بعض الشيء، في نظر أعمامه وأخواله وجده؛ الذین یراقبون نشأته في هیوستن بولایة تكساس، وكانت أمه قد شارفت على الموت عند ولادته، ولذلك لم تنجب أطفالًا آخرین؛ فأحاطته بحنانها وحبها، وكان القلق یبرِّحها إذا ألمَّ به اعتلال أو مرض، فكانت تراقب حركاته وسكناته، وتقوم بكل ما في وسعها لتحمیه وتحفظه من كل سوء، وبدا الصبي یخشى أباه هوارد الأب، الذي دشن سنة 1909 شركة شارب وهیوز للمعدات التي تعمل في مجال تصنیع المعدات المستخدمة في استخراج النفط؛ وهي الشركة التي سرعان ما جلبت الثروة للعائلة، ولم یكن والده یقیم في المنزل كثیرًا، فقد كان في سفر وترحال دائم في شؤون أعماله، فكان هوارد الصغیر یمضي جل وقته مع أمه، وبدا الصبي في نظر أقاربه
صبیا انفعالیا، مفرط الحساسیة، لكنه مع تقدم سنوات عمره، أصبح شابا رقیق الحدیث، مؤدبًا بصورة ملفتة، ینذر نفسه لأبویه بكل إخلاص.
وفي سنة 1922 ، توفیت أمه فجأة؛ وهي بعمر التاسعة والثلاثین، ولم یتعافَ والده بعد ذلك من مصیبة موتها المبكر، فلحق بها بعد سنتین من ذلك. والآن، أصبح الشاب هوارد بعمر التاسعة عشرة، وحیدًا في العالم، بعد أن خسر الاثنین اللذین كانا رفیقیه الملازمَین، واللذین وجَّهاه في كل مرحلة من مراحل حیاته، وقرر أقاربه أن یملؤوا له هذا الفراغ، ویقدموا للشاب الصغیر ما یحتاجه من توجیه وإرشاد، لكنهم في الشهور التي تلت وفاة والده، صعقهم أن یواجهوا هوارد هیوز الذي لم یعرفوه من قبل، ولا توقعوه من قبل مطلقًا؛ ففجأة أصبح الشاب رقیقُ الكلام، بذیئًا إلى حدٍّ ما، والصبي المطیع غدا الیوم یفور تمردًا، ولن یكمل تعلیمه الجامعي كما نصحوه، ولن یعمل بأي من نصائحهم وتوصیاتهم، وكلما ازداد إلحاحهم على أمر ما، ازدادت شراسته ومحاربته له.
وبعد أن ورث هوارد الشاب ثروة عائلته، أصبح بمقدوره أن یكون مستقلا تمامًا، وعزم على الاستفادة من ذلك بأقصى ما یستطیع؛ فمضى من فوره یعمل على شراء جمیع أسهم شركة شارب وهیوز للمعدات؛ التي كان لأقاربه حصص فیها؛ لتتسنى له السیطرة التامة على هذه التجارة المربحة للغایة، وبحسب القوانین الساریة في ولایة تكساس، كان بوسعه أن یقدم التماسًا إلى المحكمة، لتحكم ببلوغه سن الرشد؛ إذا استطاع تقدیم ما یثبت بأنه أصبح جدیرًا بذلك، وتودَّد هیوز إلى أحد القضاة المحلیین، وسرعان ما حصل على الحكم الذي ابتغاه. وأصبح الآن بمقدوره أن یدیر حیاته الخاصة وشركة المعدات؛ بلا أي تدخل من أحد، وصُدم أقاربه بكل ذلك، وسرعان ما انقطعت معظم صلاتهم به سائر حیاتهم، فما الذي حوَّل الصبي اللطیف الذي عرفوه، إلى هذا الشاب المتمرد مفرط العدوانیة؟ لقد كان ذلك لغزًا لم یستطیعوا حله مطلقًا.
وبعد وقت قصیر من إظهار هوارد استقلاله، انتقل للإقامة في مدینة لوس أنجلوس بولایة كالیفورنیا، حیث صمم على متابعة شغفه الجدید بأمرین؛ صناعة الأفلام والتحلیق في السماء، وكان لدیه من النقود ما یشبع رغبته في هذین المجالین، وقرر في سنة 1927 أن یجمع بینهما، فأنتج فیلمًا ملحمیا باهظ التكالیف، یروي قصة طیارین عملوا في الحرب العالمیة الأولى، وأطلق علیه اسم ملائكة الجحيم واستأجر لذلك الغرض مخرجًا وفریقًا من الكتَّاب لیخرجوا له بنص الفیلم؛ إلا أنه اختلف مع المخرج، فطرده، ثم استأجر مخرجًا آخر، وهو لوثر رید، وكان مغرمًا مثله بالطیران، ویمكن أن تكون صلته بالمشروع أفضل من سابقه، إلا أنه سرعان ما استقال بعد أن سئم من تدخل هیوز في المشروع باستمرار، وكانت كلماته الأخیرة لهیوز هي
إذا كنت تعلم الكثیر، فلماذا لا تقوم بإخراج الفیلم بنفسك؟!
وامتثل هیوز لنصیحته، فجعل من نفسه مخرجًا للفیلم. وأخذت میزانیة الفیلم تحلق عالیًا، مع سعي هیوز إلى جعل العمل واقعیا إلى أبعد الحدود، وشهرًا بعد شهر، وسنة بعد سنة، عمل هیوز مع مئات من طواقم الطائرات والطیارین البهلوانیین؛ ومات منهم ثلاثة في حوادث عنیفة، وبعد معارك لا حصر لها، انتهى به الأمر إلى طرد جمیع رؤساء أقسام العمل تقریبًا، لیقوم بإدارة كل شيء بنفسه؛ فاهتم بكل لقطة تصویر، وبكل زاویة، وبكل مشهد. وفي النهایة، عُرض فیلم (ملائكة الجحيم لأول مرة في سنة 1930 ، وحقق نجاحًا كبیرًا، وكانت قصته قصة مشوشة
مضطربة؛ إلا أن طلعات الطیران، وأجواء المعارك، أخذت بألباب الجمهور، وولد الآن هوارد هیوز الأسطورة؛ شابا مستقلا مندفعًا، قاوم النظام مِن حوله، ووصل إلى النجاح. وكان متفردًا صلبًا؛ أنجز كل شيء بنفسه.
أما تكلفة صناعة الفیلم فكانت باهظة، وبلغت 3,8 ملیون دولار (حوالي 56 ملیون دولار
بقیمته الیوم)، وخسر ما یقرب من ملیوني دولار (حوالي 30 ملیون دولار بقیمته الیوم)،
لكن لم یُلقِ أحد لذلك بالًا، وكان هیوز متواضعًا بعد إنتاجه الفیلم، وقال بأنه قد تعلَّم درسًا في إنتاج الأفلام؛ حیث قال لقد كان صنعي فیلم ملائكة الجحيم بنفسي أكبر أخطائي ... وكانت محاولتي إنجاز العمل باثني عشر فردًا حماقة مني، لقد علمتني هذه التجربة المُرَّة، أنه ما من أحد یمكنه القیام بكل شيء .
وفي سنوات الثلاثینیات من القرن الماضي بدت أسطورة هیوز آخذة في النمو، مع تحقیقه أرقامًا قیاسیة عالمیة في سرعة الطیران بالطائرات التي كان یقودها؛ وقد أشرف على الهلاك في بعض طلعاته، وأخرج هیوز من شركة والده شركة تجاریة جدیدة دعاها: هیوز لصناعة الطائرات، كان یأمل أن یتحول بها إلى أكبر مصنِّع للطائرات في العالم، وفي ذلك الوقت كان الأمر یتطلب منه الحصول على عقود عسكریة ضخمة تطلب شراء طائرات، ومع دخول الولایات المتحدة الأمریكیة في أتون الحرب العالمیة الثانیة، قام هیوز بتمثیل مسرحیة كبیرة للحصول على عقد ضخم من تلك العقود.
ففي سنة 1942 أعجب عدد من موظفي وزارة الدفاع بمآثره الفذة في الطیران، واهتمامه الدقیق بالتفاصیل؛ الذي أظهره في المقابلات التي أجریت معه؛ وجهوده الحثیثة في استمالتهم، فقرروا منح شركة هیوز للطیران مبلغ 18 ملیون دولار لیقوم بإنتاج طائرات نقل ضخمة، كان اسمها طائرات هرَقْل، وكانت ستستخدم لنقل الجنود والإمدادات إلى جبهات مختلفة في الحرب، ووصفت تلك الطائرات بأنها سفن طائرة، فكان عرض جناحي الواحدة منها أكبر من طول ملعب كرة قدم، وكان ارتفاعها الكامل یزید على ارتفاع ثلاثة طوابق، فإذا أحسنت شركته العمل في هذا العقد وقدمت الطائرات في الوقت المحدد والمیزانیة المحددة، فإن وزارة الدفاع ستشتري طائرات أخرى كثیرة من الشركة، وسیستطیع هیوز أن یحتكر سوق طائرات النقل الجوي.
وبعد أقل من سنة على ذلك جاءته أخبار طیبة أخرى، فقد أعجب ضباط القوات الجویة بالتصمیم الأنیق والجمیل لطائرته الصغیرة دیتو 2d فتعاقدوا معه على شراء 100 طائرة استطلاع مقابل 43 ملیون دولار؛ بعد تصمیمها على مثال طائرته دیتو.
لكن سرعان ما بدأت تسري شائعات عن مشكلات تعاني منها شركة هیوز لصناعة الطائرات؛ فالشركة بدأت على صورة هوایة لهیوز، فجاء بعدد من أصدقائه في صناعة السینما، ورفاقه في الطیران، وقلدهم مناصب رفیعة فیها، ونمت الشركة، ونمت أقسامها معها، إلا أن التخاطب بین أولئك كان ضعیفًا، فلا بد لكل أمر في الشركة من أن یسیر بتوجیه من هیوز نفسه، ولا بد من استشارته حتى في القرارات البسیطة؛ لذلك استقال عدد من خیرة مهندسي الشركة، لشعورهم بالإحباط من جرَّاء تدخله المستمر في أعمالهم.
وأدرك هیوز المشكلة، فقام بتوظیف مدیرٍ عام یساعده في إدارة مشروع هرقل، ویصوِّب مسار الشركة؛ إلا أن هذا المدیر العام استقال أیضًا بعد شهرین، وكان هیوز قد وعده بأن یعطیه تفویضًا مطلقًا بإعادة بناء الشركة، لكن بعد بضعة أیام وحسب من بدئه العمل أخذ هیوز ینقض قرارات المدیر العام، ویقوض سلطته، وفي أواخر صیف سنة 1943 كانت الشركة قد أنفقت 6 ملایین دولار من أصل 9 ملایین دولار مخصصة لإنتاج أول طائرة من طائرات هرقل؛ إلا أن الطائرة كانت بعیدة كل البعد عن مرحلة الاكتمال،
وبدأ الهلع یتسلل إلى موظفي وزارة الدفاع الذین أبرموا الصفقة مع هیوز، وكان عقد طائرات الاستطلاع عقدًا بالغ الأهمیة في المجهود الحربي، فهل ما یجري من فوضى داخلیة، وتأخیر، في طائرة هرقل ینذر بحدوث مشكلات في تنفیذ عقد طائرات الاستطلاع الأكثر أهمیة؟ وهل استغفلهم هیوز بجاذبیته وحملته الدعائیة؟ وفي أوائل سنة 1944 ، انقطع الأمل بأن تنجز طلبیة طائرات الاستطلاع في موعدها،
وألح القادة العسكریون على هیوز لیقوم باستئجار مدیر عام جدید لیقوم بإنجاز شيء من الصفقة، ولحسن حظه تیسر له واحد من ألمع الرجال لهذا المنصب في عصره؛ إنه
(تشارلز بیریل)، الذي كان الفتى المعجزة في إنتاج الطائرات، لكن بیریل لم یكن یرید العمل عنده؛ فقد كان یعلم بالفوضى القائمة في شركة هیوز لصناعة الطائرات؛ كعلم سائر الناس بها في عالم التجارة والصناعة، وبات هیوز نفسه یشعر بالیأس، فقام بهجوم آسِر یستهدف به بیریل. فشدد على أنه قد أدرك خطأ طریقته، وأنه بحاجة إلى خبرة بیریل، وأنه لیس الرجل الذي یظنه بیریل؛ فهو إنسان في غایة التواضع؛ وجعل أمره یبدو وكأنه ضحیة لمجموعة من المدیرین المستهترین في شركته، وكان هیوز على علم بكل التفاصیل التقنیة في عملیة إنتاج الطائرات، وهو ما أذهل بیریل، ووعد هیوز أن یعطي بیریل ما یحتاجه من سلطة، وبخلاف قرار بیریل الحكیم السابق، قَبِل بیریل بالوظیفة.
لكن بعد بضعة أسابیع فقط ندم بیریل على قراره ذاك؛ فقد كانت الطائرات قد تأخرت عن موعدها أكثر بكثیر مما قیل له؛ وكل ما رآه في الشركة كان یغصُّ بانعدام المهنیة الذي وصل إلى رداءة الرسومات الهندسیة للطائرات، ومضى بیریل في عمله؛ فقام بإلغاء الأقسام المهدرة للنفقات، والأقسام التنسیقیة؛ إلا أنه ما من أحد في الشركة احترم قراراته؛ فالجمیع كانوا یعلمون من هو المدیر الحقیقي للشركة مع استمرار هیوز بتقویض إصلاحات بیریل، ومع ازدیاد التأخیر في تسلیم الطلبیة، وارتفاع الضغط على الشركة غاب هیوز عن الأنظار، وكان أصابه فیما یبدو انهیار عصبي، وعندما انتهت الحرب، لم تكن أي طائرة استطلاع قد أنتجت بعد، وألغت القوات الجویة عقدها مع الشركة، وبیریل نفسه -الذي نالت منه التجربة- استقال في شهر كانون الأول/ دیسمبر من تلك السنة.
وفي محاولة من هیوز لاستنقاذ شيء من سنوات الحرب كان له أن یشیر إلى إتمامه إحدى سفنه الطائرة التي عرفت فیما بعد باسم سبروس غوس (بجعة التنُّوب)، وقال هیوز بأنها أعجوبة، وأنها قطعة هندسیة بمقاییس عملاقة، ولیثبت هیوز لنقَّاده خطأهم قرر اختبار الطیران بالطائرة بنفسه، لكنه عندما أخذ یطیر فوق المحیط، بدا واضحًا أن الطائرة لیس فیها ما یكفي من الطاقة لرفع وزنها الضخم، وبعد طیرانه بها میلًا واحدًا هبط بلطف على وجه الماء وقطَرها إلى مرآبها، ولم تطر الطائرة بعد ذلك مطلقًا، وبقیت راسیة جافة في عنبر استؤجر لها بتكلفة ملیون دولار كل سنة؛ بعد أن رفض هیوز تفكیكها وبیعها خردة.
وفي سنة 1948 ، كان فلوید أودلوم، صاحب شركة آركو السینمائیة
یرید بیع شركته، وكانت شركة آركو من أكثر شركات الأفلام السینمائیة جنیًا للأرباح، وكانت تمتلك استدیوهات رفیعة المستوى، وكان هیوز یتلهف للعودة إلى الأضواء عن طریق إبراز نفسه في صناعة الأفلام السینمائیة، واشترى هیوز أسهم أولدوم؛ وكانت له النسبة المسیطرة في أسهم الشركة، وساد قلق داخل شركة آركو، فقد كان مدیروها على علم بما انتشر من صیت هیوز في تدخله في كل شيء، وكانت الشركة قد دخلت لتوها في عهد جدید، برئاسة (دُور سكاري)، الذي كان سیحول الشركة إلى أكثر الاستدیوهات إثارة للمدیرین الشباب . فقرر سكاري أن یستقیل قبل أن یتلقى الإهانة، إلا أنه وافق على مقابلة هیوز أولًا؛ بدافع الفضول على الأرجح.
وكان هیوز آسرًا جدا؛ فأمسك بید سكاري، ونظر في عینه مباشرة، وقال له أنا لا أرید أن یكون لي أي ید في إدارة الشركة، وسأتركك تفعل ما بدا لك ودهش سكاري بصراحة هیوز، وموافقته على ما اقترحه سكاري من تغییرات في الشركة، فَلانَ له، ومضت الأسابیع الأولى كما وعده هیوز تمامًا، لكن بعد ذلك اتصل هیوز به بالهاتف، فقد أراد هیوز استبدال ممثلة في فیلم قید الإنتاج، وأدرك سكاري غلطته بالبقاء في الشركة، فاستقال من فوره، وأخذ معه كثیرین من فریق العمل.
وشرع هیوز في ملء المناصب برجال یذعنون لأوامره، واستأجر الممثلین والممثلات الذین أرادهم وحسب، واشترى نصا سینمائیا بعنوان (جت بایلوت ) طیار الطائرة النفاثة، وخطط أن یجعله نسخة سنة 1949 من فیلمه القدیم ملائكة الجحيم، وأراد أن یقوم بدور البطولة فیه جون واین، وأن یخرجه جوزیف شتیرنبیرغ. وبعد بضعة أسابیع، لم یعد بوسع شتیرنبیرغ تحمل مكالمة هاتفیة أخرى من هیوز، فقدم استقالته، وتولى هیوز أمر إخراج الفیلم بنفسه، وفي تكرارٍ یطابق ما حصل في إنتاج فیلم ملائكة الجحيم، استغرق منه فیلمه الجدید نحو ثلاث سنوات لیتمَّه، وكان معظم ذلك الوقت ینقضي في عملیات التصویر الجوي، وبلغت میزانیة الفیلم 4 ملایین دولار.
والتقط هیوز مشاهد كثیرة جدا، حتى لم یعد یستطیع أن یقرر كیف یختزلها، واستغرق الفیلم ست سنوات لیكون جاهزًا للعرض، لكن مشاهد الطائرة النفاثة وقتئذ كانت قد تجاوزها الزمن، وبدا واین بطل الفیلم أكبر عمرًا بكثیر، وبذلك بلغ الفیلم الغایة في خمول الذكر، وطواه النسیان، وسرعان ما خسرت الشركة السینمائیة مبالغ طائلة، وهي التي كانت تعج بالنشاط ذات یوم. وفي سنة 1955 ، ونتیجة غضب أصحاب الأسهم من سوء إدارة هیوز للشركة، قام هیوز ببیع آركو إلى شركة لصناعة إطارات السیارات( جنرال تایر ).
في الخمسینیات والستینیات من القرن المنصرم قررت القوات المسلحة الأمریكیة أن تكیِّف بعض مبادئها القتالیة مع العصر، فبغرض شن حرب على فیتنام وما یشبهها من أماكن أخرى؛ كانت بحاجة إلى حوَّامات (طائرات هلیوكبتر)، ومنها حوامات المراقبة،
الخفیفة والمساعِدة في عملیات الاستطلاع، وبحثَ الجیش الأمریكي عن مصنِّعین محتمَلین لها، واختار في سنة 1961 اثنین منهم تقدما بأفضل العروض، ورفض التصمیم الذي تقدمت به شركة ثانیة لصناعة الطائرات لهیوز، وهي شركة انبثقت عن شركة هیوز للمعدات أما الشركة الأصلیة لهیوز لصناعة الطائرات فقد باتت تدار باستقلالیة تامة عن هیوز، ورفض هیوز القبول بهذا الإخفاق، وشرع فریقه الدعائي في حملة ضغط ضخمة، فأتحفَ كبار الضباط بولائم الشراب والطعام؛ بالطریقة نفسها التي قاموا بها قبل عشرین سنة للفوز بعقد طائرات الاستطلاع، عندما جرى إنفاق المال بسخاء، ونجحت الحملة الدعائیة، وجرى إدخال عرض هیوز مع العرضین الآخرین في المنافسة، وقرر الجیش أن الشركة صاحبة العرض الأقل سعرًا ستفوز بالعقد.
وتفاجأ ضباط الجیش بالسعر الذي تقدم به هیوز؛ فقد كان سعرًا منخفضًا للغایة، وبدا أن شركته لن تحقق أي ربح من صنع تلك الحوامات، وبدا واضحًا أن أسلوبه یعتمد على أن یخسر النقود في الإنتاج الأولي لیفوز بالمناقصة، ویحظى بالصفقة، ثم یرفع السعر في الطلبیات المقبلة، وخلُص الجیش سنة 1965 إلى منح العقد لهیوز، وكانت تلك صفقة لا تصدق لشركة كان لها حظ ضئیل جدا من النجاح في صناعة الطائرات، وإذا جرى صنع الحوامات بإتقان وفي الموعد المحدد، فإن الجیش یمكن أن یطلب صنع آلاف الحوامات منها، ویمكن لهیوز أن یجعل من ذلك منطلقًا له لإنتاج حوامات تجاریة، فیكون في ذلك توسیع لأعماله.
ومع اشتداد ضراوة الحرب في فیتنام، كان الجیش متیقنًا من أنه سیزید في طلبیته، وأن هیوز سیجتني من ذلك الربح الوفیر، لكن مع ازدیاد انتظار الجیش تسلُّمَ الحوامات الأولى، بدأ القلق یساور الضباط الذین منحوا العقد لهیوز؛ فشركته باتت متأخرة عن الموعد المتفق علیه؛ ولذلك بدؤوا بالتحقیق لمعرفة ما یجري هناك، وهالهم أنه لیس في مصنع الشركة خطُّ إنتاج منظم واضح، وكان المصنع أصغر بكثیر من أن یجهز طلبیة بهذا الحجم، أما التفاصیل فكانت أبعد ما تكون عن الصواب؛ فالرسومات لیست احترافیة، والمعدات لیست ملائمة، والعمال المهرة في الموقع كان عددهم ضئیلًا جدا، وبدا الأمر وكأن الشركة لا تملك أدنى خبرة في تصمیم الطائرات، وأنها كانت تحاول تكوین الخبرة من عملها الآن، وكانت تلك هي الورطة نفسها بالضبط التي وقع فیها الجیش في عقد طائرات الاستطلاع؛ إلا أن قلیلین فیه فقط یتذكرون ذلك، وظهر واضحًا أن هیوز لم یتعلم أي درس مما سبق من إخفاقه الذریع.
وغدا بمقدور كبار الضباط أن یتوقعوا أن الحوامات لن تأتیهم إلا ببطء شدید، ولشعورهم بالیأس قرروا إجراء مناقصة أخرى لطلبیة أكبر بعدد 2200 حوامة باتوا بحاجة إلیها، آملین أن تتقدم للمناقصة شركة أكثر خبرة من تلك، وبسعر أقل، وتخرج شركة هیوز من الحلبة؛ وأصاب الجزع هیوز؛ فخسارته للمناقصة اللاحقة هي عنوان الخراب لشركته؛ فشركته كانت تعوِّل على رفع سعرها في الطلبیة الجدیدة لتعوض خسائرها الضخمة التي جلبتها على نفسها في الإنتاج الأولي، وكان هذا هو الرهان الذي رآه هیوز. فإذا حاول الدخول في المناقصة بسعر منخفض لصنع الحوامات الجدیدة، فلن یجني أي ربح، وإذا لم یكن عرضه منخفض السعر بما یكفي فإنه سیخسر المناقصة،
وهو ما حدث في نهایة المطاف. ووصلت خسارة هیوز بعد أن انتهى من صنع حواماته في الطلبیة الأولیة مبلغًا ضخمًا؛ یقدر بتسعین ملیون دولار؛ وكان لهذه الخسارة أثرها المدمر على شركته.
وفي سنة 1976 ، مات هوارد هیوز وهو یستقل طائرة تنقُله من مدینة أكابولكو في المكسیك إلى مدینة هیوسطن الأمریكیة، وعند تشریح جثته أدرك الناس ما حدث له في العقد الأخیر من عمره؛ فقد أدمن منذ سنوات على العقاقیر المسكنة للألم والمخدرات، وكان یعیش في غرف فندقیة مغلقة بإحكام، فكان یخاف أشد الخوف من أقل اتصال محتمل بالجراثیم، وكان وزنه عند وفاته 93 رطلًا فقط (حوالي 42,2كیلوغرام). لقد عاش في عزلة شبه تامة، ولم یكن یقصده إلا قلة من مساعدیه، محاولًا جهده في إخفاء كل ما حل به عن أعین العامة، إنها سخریة كبیرة للقدر أن یكون الرجل الذي كان یخشى أكثر ما یخشاه أقل تفلُّتٍ للسلطة من یده، انتهى به الأمر في سنواته الأخیرة إلى أن یكون تحت رحمة بضعة من مساعدیه، وأرباب الإدارة في شركته،
الذین كانوا یراقبون موته البطيء بالعقاقیر، وقد انتزعوا التحكم الحقیقي بشركته منه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق