قوانين الطبيعة البشرية 25
التفسیر : لقد تحدد نمط حیاة هوارد هیوز منذ البدایات المبكرة لحیاته وما بعدها، فكانت أمه ذات طبیعة قلقة، وبعد أن علمت بأنها لن تنجب أطفالًا غیره، وجهت قسمًا كبیرًا من قلقها تجاه ابنها الوحید، فحفَّته باهتمامها ورعایتها في كل وقت وحین، وأصبحت أقرب أصحابه إلیه؛ فكانت تكاد لا تتركه یغیب عن ناظریها، وعلق أبوه علیه الآمال العظام لیحمل اسم العائلة من بعده، وحدد له أبواه كل ما یفعله؛ فحددا له ما یلبس، وما یأكل، ومن یصاحب مع أن أصحابه كانوا قلة، ونقلاه من مدرسة إلى أخرى باحثین عن البیئة الملائمة لابنهما؛ الذي بدا أنه مفرط الحساسیة وصعب المراس، وكان یتكل علیهما كل الاتكال في كل شيء، ونظرًا لخوفه الشدید من أن یخیِّب آمالهما، أصبح بالغ التهذیب والطاعة لهما.
إلا أن الحقیقة هي أنه كان مستاءً من اتكاله الكامل علیهما، فحالما مات والداه تمكن طبعه الحقیقي من الظهور أخیرًا؛ من خلف ابتسامات التهذیب والطاعة، ولم یشعر بأي حبٍّ تجاه أقاربه، وكان یفضل أن یواجه المستقبل بمفرده على أن تكون هناك سلطة ولو ضئیلة على تصرفاته، فكان علیه الأخذ بزمام الأمور كلها في التحكم بمصیره؛ مع أنه كان ما یزال في التاسعة عشرة من عمره؛ وأي شيء أقل من ذلك كان سیثیر فیه دواعي القلق التي حملها في طفولته، وكانت له -بما ورثه من أموال-
القدرة على تحقیق حلمه بالاستقلال التام.
أما حبه للطیران فكان تجلیًا لطبعه، ففي الأجواء وحدها ووحیدًا وراء دفة القیادة كان بإمكانه أن یجرب فعلًا بهجة السیطرة، ویتحرر من قلقه، فقد كان بوسعه أن یحلق عالیًا فوق الناس، الذین كان یحتقرهم في قرارة نفسه، وكان بإمكانه أن یواجه الموت، وهو ما فعله مرات متعددة، لأنه سیكون موتًا تحت سلطته.
واتضح طبعه بصورة أكبر في أسلوبه في قیادة شركاته الذي نما في صناعة الأفلام السینمائیة ومشروعاته التجاریة الأخرى، فإذا جاءه الكتَّاب أو المخرجون أو مدیرو الأقسام بأفكارهم الخاصة، فإنه لا یرى في ذلك إلا تحدیًا شخصیا لسلطته؛ فذلك یثیر قلقه القدیم من أن یكون عاجزًا ومتكلًا على الآخرین، ولیناجز هذا القلق احتفظ بسیطرته على جمیع جوانب أعماله، حتى إنه كان یراقب الأخطاء الإملائیة والنحویة في أصغر عبارات الدعایة لشركته، وكان علیه أن ینشئ بنیة إداریة متراخیة جدا في شركاته، فیجعل مدیري الأقسام یتصارعون فیما بینهم على لفت انتباهه؛ فالأفضل في نظره أن یكون هناك شيء من الفوضى الداخلیة ما دام كل شيء یسیر بتوجیهه.
والمفارقة هنا أنه بمحاولته كسب ذلك التحكم الكامل كان یمیل إلى تضییعه؛ فربما لا یسع أحدًا من الناس أن یبقى في القمة في كل شيء، فإن هو حاول ذلك فستظهر له المشكلات غیر المتوقعة بكل ألوانها، وعندما تتداعى مشروعاته، ویشتد الهیاج من جراء ذلك، تراه یختفي عن الأنظار، أو یخر صریع المرض لا أكثر. إنه بحاجة إلى التحكم في كل ما حوله؛ حتى النساء اللاتي كان یواعدهن كان یدقق في كل تصرف من تصرفاتهن، وكان یرسل مفتشین خاصین یتعقبونهن.
وتكمن المشكلة في أن هوارد هیوز كان یقدم لكل من یختار العمل معه بطریقة ما أنه قد بنى لنفسه صورة عامة یواري خلفها مواطن الضعف الواضحة في طبعه، فبدلًا من الظهور بمظهر المدیر الذي یلاحق كل كبیرة وصغیرة، كان یقدم نفسه بأنه من أصحاب النزعة الفردیة الأشداء، والمتفردین الأمریكیین البارعین، وكان الأمر الأكثر ضررًا في كل ما یدعیه هو قدرته على رسم صورة لنفسه بأنه رجل أعمال ناجح، یقود إمبراطوریة تقدر بملیار دولار، والحق أنه قد ورث تجارة مربحة جدا في الأدوات والمعدات النفطیة من أبیه، وعلى مر السنین كان الجزء الوحید من إمبراطوریته الذي یدر علیه أرباحًا كبیرة هو شركة المعدات والنسخة الأولى من شركة هیوز لصناعة الطائرات؛ التي تفرعت من شركة المعدات؛ ولأسباب كثیرة، كانت هاتان الشركتان تداران باستقلال كامل عن هیوز؛ فلم یكن له أي تدخل في عملیاتهما، أما الشركات الأخرى الكثیرة التي أدارها بنفسه – الفرع اللاحق من شركة صناعة الطائرات،
وشركاته السینمائیة، وفنادقه، وعقاراته في مدینة لاس فیغاس – جمیعها خسرت مبالغ ضخمة؛ عوضتها لحسن حظه الشركتان الرابحتان.
ویشهد الواقع بأن هیوز كان رجل أعمال ردیئًا للغایة، وكان نمط أخطائه الذي كشف رداءته واضحًا یمكن أن یراه أي إنسان، إلا أن هذه هي البقعة العمیاء في الطبیعة البشریة؛ فلسنا مجهزین بصورة جیدة لقیاس طباع الناس الذین نتعامل معهم، وما أسهل أن تأسرنا صورتهم العامة، أو سمعتهم التي تسبقهم إلینا، فنحن نؤخذ بالمظاهر، وإذا أحاطوا أنفسهم بشيء من الأساطیر الفتَّانة، على نحو ما فعل هیوز، فإننا سنرغب في تصدیقها، وبدلًا من تحدیدنا طباع الناس –من قدرتهم على العمل مع الآخرین، ووفائهم بوعودهم، وجلَدهم في تحمل الظروف الصعبة– ترانا نختار العمل مع أشخاص، أو نوظفهم، بالاعتماد على سیرتهم المهنیة اللامعة، وذكائهم، وجاذبیتهم؛ إلا أن السمات الإیجابیة، من قبیل الذكاء، تغدو بلا قیمة إذا كان حاملها ذا طبع سقیم أو ملتبس.
وهكذا، وبسبب البقعة العمیاء، فإننا نعاني تحت حكم القائد المتردد،والمدیر الذي یلاحق كل صغیرة وكبیرة، والشریك المتآمر. وهذا هو مصدر مآسٍ لا حصر لها في التاریخ، إنه نمط حیاتنا نحن البشر.
ومهما كلفك الأمر، علیك أن تغیر وجهة نظرك؛ فدرِّب نفسك على تجاهل المظهر الذي یُظهره الناس، وتجاهل الأسطورة التي تحیط بهم، واسبر أغوارهم بحثًا عن علامات على طباعهم، ویمكنك أن تجد ذلك في المشكلات التي یبوحون بها من ماضیهم، وفي سمت قراراتهم، وفي كیفیة اختیارهم الحلول لمشكلاتهم، وفي كیفیة تفویضهم لسلطاتهم وعملهم مع الآخرین؛ وعلامات أخرى لا تعد ولا تحصى.
والمرء ذو الطبع السلیم كأنه الذهب؛ فهو نادر لكنه نفیس؛ فبإمكانه التكیف، والتعلم، والارتقاء
بنفسه. وبما أن نجاحك یعتمد على الناس الذین تعمل معهم، أو تعمل عندهم، فلتجعل طبعهم غرضك الأساسي في ملاحظتك لهم، وبذلك تجنِّبُ نفسك الشقاء الذي ستعیشه إذا اكتشفتَ طبعهم بعد فوات الأوان.
الطبع قدَر. ( هرقلیتوس )
0 التعليقات:
إرسال تعليق