10‏/02‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 13

 قوانين الطبيعة البشرية 13


 

 

1-  النرجسی المتصنُّع :  في سنة 1627 جرى الترحیب برئیسة دیر راهبات أورسولین في

لودون في فرنسا، في بیت راهبة جدیدة، اسمها جین دوبالسي وكانت جین كائنًا غریبًا، فكانت في طولها أقرب إلى القزم، ولها وجه جمیل ملائكي؛ لكن عینیها كانتا تشعان خبثًا، وكان لها أعداء كثر في دیرها السابق؛ بسبب استهزائها المستمر بالآخرین، لكنها أدهشت رئیسة الدیر، حیث بدت بانتقالها إلى هذا الدیر الجدید تمر بعملیة تحول، فأصبحت تتصرف كأنها ملاك  كامل، فتعرِض مساعدة رئیسة الدیر في جمیع واجباتها الیومیة؛ وعلاوة على ذلك وبعد أن أعطیت كتبًا لتقرأها تتحدث عن القدیسة تیریزا وأفكار في التصوف- انغمست جین في ذلك الموضوع؛ فكانت تمضي ساعات طویلة تتدارس الأسئلة الروحیة مع رئیسة الدیر، وفي غضون أشهر، أصبحت خبیرة الدیر في الشؤون الدینیة الباطنیة، وكانت الراهبات یرینها تتأمل وتصلي لساعات، أكثر من أي واحدة منهن، وفي وقت لاحق من تلك السنة، انتقلت رئیسة الدیر إلى دیر جدید، وكانت متأثرة كل التأثر بسلوك جین؛ فكانت لا تلقي بالًا إلى نصائح الأخریات اللاتي لم یعتقدن أنها كانت جیدة فعلًا، وأوصت رئیسة الدیر بأن تخلفها جین في رئاسة الدیر، وفجأة، وفي سن الخامسة والعشرین الصغیرة جدا بالنسبة لرئیسة دیر، وجدت جین نفسها رئیسة دیر راهبات أورسولین في لودون.

وبعد بضعة شهور، بدأت راهبات لودون بسماع قصص غریبة جدا من جین، فقد جاءتها سلسلة من الأحلام، یزورها فیها قس أبرشیة مجاورة، وهو یوربان غراندیه ویعتدي علیها، فیفجُر بها. وازدادت أحلامها شهوانیة وعنفًا، والغریب ، أنه قبل هذه الأحلام كانت جین قد أرسلت دعوة إلى غراندیه لیكون مدیر دیر أورسولین، إلا أنه رفض الدعوة بصورة لبقة. وفي لودون، كان الأهالي یرون في غراندیه مغویًا أنیقًا للنساء الصغیرات، فهل كانت جین تنجرف وحسب وراء تخیلاتها؟

لقد كانت إنسانة تقیة جدا لدرجة أنه من الصعب تصدیق أنها كانت تختلق كل ذلك، وبدت أحلامها حقیقیة جدا وتنبض بالحیاة بصورة غریبة، وبعد وقت قصیر من بدئها إخبار الراهبات بأحلامها، ذكرت بعض الراهبات أنهن رأین أحلامًا مشابهة. وفي أحد الأیام، استمع كاهن الاعتراف كانون منیون إلى راهبة تذكر حلمًا كتلك الأحلام، وكحال كثیرین آخرین، كان منیون یحتقر غراندیه، ورأى في هذه الأحلام فرصة سانحة للقضاء علیه أخیرًا؛ فاستدعى بعض أصحاب الرقى لیقرؤوا التعویذات على الراهبات، وسرعان ما أصبحت جمیع الراهبات تتحدثن عن زیارات لیلیة لغراندیه، وكان الأمر واضحًا في نظر أصحاب الرقى؛ فهؤلاء الراهبات إنما مستهن الشیاطین بأمر من غراندیه.

 

وبغرض تنویر الأهالي قام منیون وأعوانه بكشف عملیة طرد الأرواح الشریرة لعامة الناس، فتوافدوا من كل فج وناحیة لرؤیة ذلك المشهد المسلي، وتدحرجت الراهبات على الأرض، وهن یتلَوَّین، ویبدین سیقانهن، ویصرخن بالبذاءات، وبین الراهبات جمیعًا بدت جین أكثرهن مسا بالشیاطین؛ فقد كانت التواءاتها عنیفة، وكانت الشیاطین التي تتحدث من خلالها حادة في أقسامها تقسم بالخروج وعدم العودة. لقد كانت واحدة من أشد حالات المس التي رآها الناس، وكثر الصخب بین الناس لیشهدوا رقیتها أكثر من الأخریات، وبدا واضحًا الآن لأصحاب الرقى أن غراندیه -ومع أنه لم یخط خطوة واحدة في الدیر أبدًا، ولم یلتق مطلقًا بجین- كان بطریقة ما قد سحر راهبات لودون الطیبات، وهتك أعراضهن بسحره الأسود، وسرعان ما قُبِض علیه، واتُّهم بممارسة الشعوذة.

 

وبالاستناد إلى البیِّنة، حكم على غراندیه بالإعدام، وبعد كثیر من التعذیب، جرى إحراقه على وتد في 18 آب/أغسطس 1634 ، أمام حشد عظیم، وسرعان ما هدأت الأمور بجملتها؛ ففجأةً طُرِدت الشیاطین من الراهبات جمیعهن، عدا جین. وبعد أن تسامع القساوسة الیسوعیون بصیتِ هذا المس، قرروا تولي هذا الشأن، فأرسلوا الأب جان جوزیف سیوران لیعوِّذها تعویذة نهائیة، ورأى سیوران الأمر جدیرًا بالاهتمام، فقد كانت جین على اطلاع تام على الموضوعات المختصة بالشیاطین، وكان من الواضح أنها یائسة من مصیرها، إلا أنه لم یبدُ علیها أنها تقاوم الشیاطین التي تسكنها بشدة كافیة؛ فلعلها استسلمت لتأثیرها.

 

إلا أن شیئًا واحدًا كان متیقَّنًا:  فلقد أعجبت جین بسیوران أیما إعجاب، وأبقته في الدیر ساعات تناقش معه شؤونًا روحیة مطولة، وأصبحت تصلي وتتأمل، وقد ازدادت طاقة وإخلاصًا، وتخلصت من جمیع وسائل الترف   فنامت على الأرض القاسیة، وأضافت إلى طعامها جرعات من الشِّیح تحرِّض على الإقیاء، وذكرت لسیوران تقدمها في عبادتها، وباحت له بأنها أصبحت قریبة جدا من الرب؛ إلى درجة أنها حصلت على قبلة من فمه.

وبمساعدة سیوران، خرجت الشیاطین من جسدها واحدًا بعد آخر، ثم حدثت أولى معجزاتها: فظهر اسم یوسف بوضوح تام في راحة یدها الیسرى، وعندما تبدد الاسم من راحة یدها بعد بضعة أیام، ظهر محله اسم یسوع وبعد ذلك ظهر اسم مریم ثم ظهرت أسماء أخرى، وكانت تلك ندبات، وهي علامة على مباركة ، الرب لها ببركة عظیمة، وبعد ذلك سقطت جین صریعة المرض، وبدا أنها تشرف على الموت، وذكرت بأنه قد زارها ملاك شاب وسیم، بشعر أشقر طویل منساب، ثم زارها القدیس یوسف نفسه ولمس جنبها، حیث كانت تشعر بأشد الألم، ومسحها بزیت عطري. وتعافت جین، وترك الزیت أثرًا على قمیصها على صورة خمس قطرات واضحة. لقد ولت عنها الشیاطین الآن، بعون كبیر من سیوران وانتهت القصة،

إلا أن جین فاجأته بطلب غریب:  فقد أرادت الذهاب في رحلة في أرجاء أوروبا، تعرض فیها هذه المعجزات لكل الناس، وشعرت بأن من الواجب علیها القیام بذلك، وبدا ذلك أمرًا غریبًا

یتناقض مع شخصیتها الخجولة، كما أنه أمر دنیوي إلى حدٍّ بعید؛ إلا أن سیوران وافق على مرافقتها في تلك الرحلة.

وفي باریس، ملأت حشود ضخمة الشوارع الموصلة إلى النُّزُل الذي نزلت فیه، ترید النظر إلیها، والتقت بالكاردینال ریشلیو الذي بدا متأثرًا جدا، وقبَّل القمیص المعطر، الذي بات أثرًا مقدسًا، وأظهرت جین ندباتها لملك فرنسا والملكة، ثم تابعت رحلتها؛ فالتقت بأعظم نبلاء العصر، وألمع نجومه، وفي إحدى البلدات، كانت تدخل حشود من سبعة آلاف شخص كل یوم إلى الدیر الذي نزلت فیه، وكان الطلب على سماع قصتها شدیدًا جدا، إلى درجة أنها قررت نشر كتیِّب مطبوع تصف فیه بإسهاب المسَّ الذي أصابها، وأفكارها الحمیمیة، والمعجزة التي حصلت لها.

 ویوم وفاتها سنة 1665 ، وكانت قد أصبحت تعرف باسم(جین الملائكة)، قُطِع رأسها

بعد موتها، وجرى تحنیطه، ووضعه في صندوق فضي مذهب، ذي نوافذ بلوریة، وجرى عرضه إلى جانب القمیص الممسوح لمن یرید أن یراه، في دیر أورسولین في لودون، حتى اختفائه إبان الثورة الفرنسیة.

 

التفسیر : في السنوات الأولى من عمر جین دوبالسي، كانت تُظهر نهم شديد للفت

الانتباه؛ فأتعبت والدیها اللذین قررا في النهایة التخلص منها بإرسالها إلى دیر في

بواتیه

حیث تابعت لفتها الانتباه بدفع الراهبات إلى حد الجنون بسبب استهزائها بهن، مع إظهارها شعور التفوق إلى حدٍّ كبیر، وبعد إبعادها إلى لودون، بدا أنها قررت محاولة نهج آخر للحصول على التقدیر؛ الذي كانت بحاجة ماسة إلیه، فبعد أن أعطیت كتبًا في الروحانیات، قررت أن تبُزَّ الأخریات جمیعًا بمعارفها وسلوكیاتها الورِعة؛ فقامت بتصنُّع متقن لكلا الأمرین، وكسبت استحسان رئیسة الدیر، لكنها عندما أصبحت رئیسة الدیر، شعرت بالضجر، ولم یعد یكفیها ما باتت تناله من اهتمام، فكانت أحلامها عن غراندیه خلیطًا من التلفیق والإیحاء الذاتي، وبعید وصول الرُّقاة، حصلت على كتاب عن الشیاطین، فالتهمته التهامًا، وبمعرفتها بالطرق المختلفة لدخول الشیاطین في جسد الإنسان وخروجها منه تابعت (مسرحیتها) بإظهار العلامات الأشد إثارة، التي یعرف الرقاة أنها علامات أكیدة على مس الشیاطین، وأصبحت نجمة مسرحیةٍ للعامة، وبینما كانت ممسوسة مضت أبعد من الأخریات في انحطاطها وتصرفاتها البذیئة.

وبعد الإعدام المروع لغراندیه الذي أثر بعمق في الراهبات الأخریات، ولا شك أنهن أحسسن بالذنب بسبب الدور الذي قمن به لإعدام رجل بريء، كانت جین وحدها من شعر بنقص الاهتمام في اكتئاب لا یحتمل، لذلك قامت بزیادة الجرعة فرفضت أن تترك الشیاطین تُدبِر عنها؛ فقد أصبحت خبیرة في الإحساس بنقاط الضعف والرغبات المكتومة فیمن حولها؛ بدءًا برئیسة الدیر، ثم الرقاة، والآن الأب سیوران. وقد أراد سیوران بصدق تخلیصها مما هي فیه، لدرجة أنه انطلت علیه أبسط معجزاتها. فبالنسبة للندبات، افترض بعض الباحثین بعد ذلك بأنها خطَّت تلك الأسماء بسائل حامضي، أو بنشاء ملوَّن. وبدا غریبًا ظهورها في یدها الیسرى وحدها؛ فقد كان من السهل علیها كتابتها باستخدام الید الیمنى. ومن المعروف أنه في حالات الهستیریا المفرطة یصبح الجلد شدید الحساسیة، ویمكن صنع تلك الحیلة بالظُّفر وحده. وبسبب خبرتها الطویلة في تحضیر العقاقیر العشبیة الخاصة بها، كان من السهل علیها وضع قطرات عطریة على قمیصها. وإذا صدَّق الناس تلك الندبات، فسیصعب علیهم الشك في أثرالمسح بالزیت.

وحتى سیوران نفسه ارتاب في الحاجة إلى القیام برحلة، لكن جین في هذه المرحلة لم تعد تستطیع إخفاء رغبتها الحقیقیة في لفت الانتباه، وبعد سنوات من ذلك كتبت جین سیرة ذاتیة لنفسها، اعترفت فیها بالجانب المسرحي الفعلي في شخصیتها، لقد كانت دائمًا تمثل دورًا ما، مع أنها قالت بأن معجزتها الأخیرة كانت صادقة وحقیقیة، لكن كثیرًا من الراهبات اللاتي تعاملن معها بصورة یومیة رأین ما كانت تخفیه وراء مظهرها، ووصفنها بأنها ممثلة ماهرة أدمنت لفت الانتباه والشهرة.

 

ومن المفارقات الغریبة المتصلة بالنرجسیة العمیقة، أنها غالبًا لا تجد من یلاحظها؛ إلى أن تصبح التصرفات متطرفة جدا لا یمكن تجاهلها، والسبب في ذلك بسیط:

فأصحاب النرجسیة العمیقة یمكن أن یكونوا خبراء في التمویه؛ فلدیهم إحساس مبكر بأن

الناس ستنفر منهم إذا كشفوا عن دخیلة أنفسهم للآخرین؛ أي كشفوا عن حاجتهم للفت

الانتباه باستمرار، وشعورهم بالتفوق.

0 التعليقات: