28‏/02‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 32

 قوانين الطبيعة البشرية 32


مفاتیح للطبیعة البشریة

 

نحن البشر بطبیعتنا لا نرضى بسهولة بظروفنا، وبسبب قوة فاسدة داخلنا ترانا في اللحظة التي نتملك بها شیئًا ما، أو نحصل على ما نریده، تبدأ أدمغتنا بالانجراف نحو شيء آخر جدید ومختلف، لنتصور أنه بإمكاننا الحصول على ما هو أفضل مما حصلنا علیه، وكلما كانت هذه الرَّغیبة الجدیدة أكثر بعدًا عنا وأصعب منالًا، كانت رغبتنا في الحصول علیها أعظم وأشد، ولنا أن ندعو ذلك باسم: متلازمة العشب دائمًا أكثر  خضرة وهي المقابل النفسي للوهم البصري؛ فلو أننا اقتربنا جدا من العشب، أي اقتربنا من تلك الرغیبة الجدیدة، لرأینا أنه لیس بالغ الخضرة في واقع الأمر.

ولهذه المتلازمة جذور عمیقة جدا ضاربة في طبیعتنا، ففي محیطك القریب، یمكنك أن ترى هذه المتلازمة تعمل في حیاتك الیومیة، فنحن لا نفتأ نتطلع إلى الآخرین الذین یبدو أنهم یحظون بحیاة أفضل من حیاتنا؛ فقد ترى أن أحدهم یحظى بمحبة أبویه أكثر منك، أو ترى آخر یعمل في مهنة أكثر إثارة من مهنتك، أو آخر یعیش حیاة أسهل من حیاتك. وقد تكون راضیًا كل الرضا عن علاقتك العاطفیة، إلا أن عقلك لا یبرح یزیغ إلى شخص آخر، شخص لیست فیه العیوب نفسها الموجودة فیمن ارتبطت به؛ أو هذا ما تصوِّره لك نفسك. وتراك تحلم بأنك خرجت من

حیاتك المملة، فسافرت إلى ثقافة جدیدة بعیدة، یعیش الناس فیها بسعادة أكبر منها في المدینة المكدَّرة التي تعیش فیها، وفي اللحظة التي تحظى فیها بوظیفة، تبدأ في تصوُّر ما هو أفضل منها، وعلى الصعید السیاسي نرى أن حكومتنا فاسدة، ولا بد لنا من تغییر حقیقي، ولعلنا نشعل ثورة، وفي هذه الثورة، نتصور أننا في مدینة فاضلة حقیقیة، تحل في أذهاننا محل العالم غیر المثالي الذي نعیش فیه، ولا نفكر بالغالبیة العظمى من الثورات التي حدثت في التاریخ، التي لم تتمخض نتائجها إلا عن حیاة مشابهة لما كان قبلها في معظم جوانبها، أو أسوأ مما كانت علیه.

وفي جمیع هذه الحالات لو أننا اقتربنا أكثر من الناس الذین نحسدهم من الذین نفترض أنهم عائلة سعیدة، أو من الشخص الذي نشتهیه، أو من الشعوب البعیدة في الثقافة التي نتمنى أن نعرفها، أو من الوظیفة الأفضل، أو من المدینة الفاضلة، لرأینا ما تخفیه من أوهام؛ وإذا قمنا بما تملیه علیه رغباتنا، فإننا ندرك في أغلب الأحیان خیبة أملنا فیها، إلا أن ذلك لا یغیر في سلوكیاتنا شیئًا، فإذا لاحت لنا رغیبة أخرى من بعید، فسیغوینا بلا شك ما فیها من عبادة غریبة، أو مشروع جدید للإثراء السریع.

 

ومن أكثر الأمثلة لفتًا للنظر في هذه المتلازمة نظرتنا التي ننظر بها إلى طفولتنا؛ والتي تعیدنا إلى الماضي. فمعظمنا یذكر العصر الذهبي اللامع الذي عشناه في لعب وإثارة، وكلما تقدم بنا العمر، رأینا ذلك العصر یزداد بریقًا ولمعانًا في ذاكرتنا، ونحن طبعًا ننسى ما كنا نعیشه من قلق، وعدم استقرار، وألم، أصابنا في طفولتنا؛ والأرجح أنه شغل حیزًا ذهنیا لدینا أكبر من المتع العابرة التي نتذكرها، لكن بما أن شبابنا هو رغیبة لنا، تزداد بعدًا عنا مع تقدمنا في العمر، فإننا نستطیع أن نجعله مثالیا ، ونراه أكثر خضرة من اللون الأخضر.

 

ویمكننا تفسیر هذه المتلازمة بثلاث خصائص للعقل البشري:

 

تعرف أُولاها باسم: التخلیق؛ وبهذا التخلیق، یمكن لأمر إیجابي أن یولِّد صورة سلبیة مغایرة له في عقولنا، ونرى ذلك بصورة واضحة في نظامنا البصري، فعندما نرى لونًا ما الأحمر أو الأسود مثلًا فإن ذلك اللون یمیل إلى تكثیف إدراكنا اللَّونَ المناقض له من حولنا، أي الأخضر أو الأبیض في مثالنا على الترتیب، فعندما ننظر إلى شيء أحمربإمعان شدید، فإننا نرى غالبًا هالة خضراء تتشكل من حوله، والعقل یعمل بصورة عامة بالأضداد؛ فیمكننا أن نصوغ أفكارًا في موضوع ما عن طریق إدراكنا لما هو ضده، ولا تنفك عقولنا تلتقط هذه الأضداد، وهذا یعني أننا متى رأینا أو تصورنا شیئًا ما فإن عقولنا لا یسعها إلا أن ترى أو تتصور ما هو ضده؛ فإذا حرِّم علینا في ثقافتنا التفكیر بفكرة معینة، أو تجربة رغبة معینة، فإن ذلك التحریم یجلب إلى عقولنا توا الشيء الذي حرِّم علینا. فكلُّ (لا)تقدح فینا (نعم) تقابلها، وكان حظر تصویر الدعارة في العصر الفیكتوري ( 1837-1901 )في بریطانیا، هو الذي أدى إلى

ظهور صناعة الأفلام الإباحیة. ولا یمكننا التحكم بهذا التأرجح في العقل بین الأضداد، وهذا ما یهیئنا للتفكیر بالضبط بما لیس لدینا، ویولِّد فینا الرغبة إلیه.

 

ثانیًا: یعدُّ الرضا سمة تطوریة خطیرة عند الكائنات الواعیة كالبشر؛ فلو أن أسلاف الإنسان الأوائل كانوا میالین إلى الرضا بظروفهم الراهنة لما كانت لدینا حساسیة كافیة للأخطار المحتملة التي تتربص بهم في أكثر الأوساط أمانًا في ظاهرها، فلقد بقي البشر وازدهروا نتیجة یقظتهم الواعیة المستمرة؛ التي هیأتهم للتفكیر في الأمور السلبیة المحتملة في أي ظرف كان، وتصوُّرها، ولم یعد البشر یعیشون في سهول السافانا أو الغابات التي تعج بالمفترسات الخطرة وغیرها من الأخطار الطبیعیة؛ إلا أن عقولهم مركَّبة وكأنهم یعیشون هناك؛ لذلك نرى البشر نزَّاعین إلى الانحیاز السلبي باستمرار، وهو ما نعبر عنه في وعینا بالتشكي والتذمر.

 

وأخیرًا: فإن الحقیقة والتصور أمران یعالجهما العقل بصورة متشابهة. ویتبین لنا ذلك من تجارب مختلفة؛ كان فیها الأشخاص الموضوعون تحت التجربة، یظهر في أدمغتهم نشاط كهربائي وكیمیائي عندما یتصورون شیئًا ما، یشبه على نحو ملفت النشاط الذي یظهر فیها عندما یعیشون فعلًا ما كانوا یتصورونه؛ وكان ذلك یظهر بجهاز التصویر الوظیفي بالرنین المغناطیسي ویمكن للواقع أن یكون بغایة القسوة، یموج بالقیود . والمشكلات؛ فجمیعنا سیأتي علینا یوم نموت فیه، وفي كل یوم یزداد عمرنا وتضعف قوتنا ولنصل إلى مراتب النجاح لا بد لنا من التضحیة والعمل الجاد، لكننا في تصوراتنا یمكن أن نبحر إلى ما وراء هذه الحدود، ونجرب كل أصناف الاحتمالات، فتصوراتنا لا حدود لها في جوهرها، وما نتصوره له تقریبًا قوة ما نواجهه فعلیا، وهكذا أصبحنا  كائنات میالة على الدوام إلى تصور شيء أفضل من الظروف القائمة، لنشعر في تصوراتنا بمتعة التحرر من الواقع.

 

وكل ذلك یجعل متلازمة العشب دائمًا أكثر خضرة متلازمةً لا فرار منها في تركیبنا النفسي، وعلینا ألا ننثر العظات أو نشتكي من هذا العیب المحتمل في الطبیعة البشریة، فهو جزء من الحیاة الذهنیة لكل فرد منا؛ وله منافع جمة، فهو مصدر قدرتنا على التفكیر بالاحتمالات الجدیدة، والابتكار، وهو ما یجعل تصوراتنا أدواتٍ لها قوتها، وفي الجانب الآخر نراه یشكل المادةَ التي بها نتحرك، وبها نتحمس، وبها نغوي الآخرین.

والعلم بكیفیة التعامل مع التشهي الذي في طبیعة الناس هو فنٌّ سرمدي، نعتمد علیه في جمیع صور الإقناع، والمشكلة التي نواجهها الیوم لیست في توقف الناس فجأة عن التشهي؛ بل هي نقیض ذلك تمامًا: فترانا نخسر علاقتنا بهذا الفن، ونخسر القوة التي تصاحبه.

ویتجلى برهان ذلك في ثقافتنا. فنحن نعیش في عصر القصف بوابلٍ من الشهوات، والإشباع بالشهوات. فنرى أصحاب الإعلانات یغمروننا بالرسائل الإعلانیة وعلاماتهم التجاریة، فیوجهوننا هنا وهناك لنقصد منتجاتهم ونشتریها، ونرى الأفلام السینمائیة تضرب رؤوسنا لتهاجم أحاسیسنا. أما السیاسیون فهم متمرسون في إثارة استیائنا من الظروف الحالیة، واستغلال هذا الاستیاء، لكن لا شأن لهم بقدح تصوراتنا عن المستقبل، وفي جمیع هذه الحالات نرى الكیاسة غائبة، وكل ذلك یؤثر في تصوراتنا؛ فیجعلها متصلبة؛ مما یؤدي خفیةً إلى تشهي شيء آخر.

ونرى برهان ذلك أیضًا في علاقاتنا الشخصیة، حیث یزداد اعتقاد الناس أكثر فأكثر، بأن على غیرهم ببساطة أن یرغب بهم بسبب ما هم علیه، وهذا یعني أن علیهم أن یكشفوا خبیئة أنفسهم قدر ما یستطیعون، ویظهروا كل ما یحبونه ویكرهونه، ویتألفوا الناس ما أمكنهم ذلك. ولن یتركوا لعقولهم مساحة للتصور أو التخیل، وإذا ما صرَف شخص یریدونه اهتمامه عنهم، تراهم یهرعون إلى الإنترنت ویضجون بسطحیة الرجال، أو استهتار النساء؛ وبازدیاد انشغالنا بأنفسنا(راجع الفصل الثاني)، تزداد صعوبة وصولنا إلى الطبیعة النفسیة للآخرین، حیث نرید تصور ما یریدونه منا بدلًا مما نریده نحن منهم.

0 التعليقات: