قوانين الطبيعة البشرية 17
اللغة الثانیة
صباح ذات یوم في شهر آب/أغسطس سنة 1919 ، استیقظ میلتون إریكسون ذو السبعة عشر ربیعًا لیجد أطرافًا من جسمه قد أصابها الشلل فجأة؛ وهو الشاب الذي سیكون في مقبل الأیام رائد العلاج بالتنویم المغناطیسي وأحد أكثر علماء النفس تأثیرًا في اختصاصه في القرن العشرین. وفي غضون بضعة أیام، انتشر الشلل في أطراف جسمه، وسرعان ما شخِّص له مرض شلل الأطفال؛ وكان شلل الأطفال في زمنه أقرب إلى الوباء، وبینما كان راقدًا في سریره، سمع أمه في غرفة أخرى تناقش حالته مع طبیبین اختصاصیَّین استدعتهما أسرته، وكانوا یظنونه نائمًا؛ فقال أحد الطبیبین لأمه سیموت الصبي عند الصباح ، ودخلت الأم إلى غرفته، وكان من الواضح أنها تحاول أن تخفي حزنها وأساها، غیر داریة بأن ابنها قد سمع بالصدفة الحدیث الذي جرى، وطلب إریكسون من أمه أن تحرك خزانة الأدراج التي قرب
سریره بدأب: إلى هنا؛ بل إلى هناك.
وظنته أمه واهمًا، إلا أنه كانت عنده أسباب لذلك الطلب: فقد أراد أن یصرفها عن كربتها، وأراد أن تكون المرآة التي في أعلى خزانة الأدراج مضبوطة بزاویة صحیحة، فإذا أخذ یفقد وعیه، فبإمكانه التركیز على غروب الشمس المنعكس في المرآة، والتعلق بهذه الصورة لأطول وقت یستطیعه؛ فالشمس لا تفتأ تعود إلینا؛ ولعل بوسعه أن یعود هو أیضًا إلى سابق صحته، ویثبت أن الأطباء كانوا على خطأ، وفي غضون بضع ساعات، نام في غیبوبة.
وبعد ثلاثة أیام، استعاد إریكسون وعیه، لقد احتال على الموت بطریقة ما، لكن الشلل الآن یعمُّ جسمه. حتى شفتاه أصابهما الشلل.
ولم یعد بوسعه التحرك أو الإیماء، ولا حتى التواصل مع الآخرین بأي طریقة كانت. وكانت الأجزاء الوحیدة من جسمه التي باستطاعته تحریكها هي مقلتا عینیه، فكانتا تمكنانه من تفحص المساحة الضیقة في غرفته. وعاش في حَجْر صحي في بیت مزرعة أسرته، في أریاف ولایة ویسكنسن الأمریكیة؛ حیث نشأ وترعرع.
وكان في رفقته في ذلك البیت، أخواته السبع، وأخوه، وأبواه، وممرضة خاصة. وكان السأم لا یجد طریقه إلیه، فقد كان عقله نشیطًا وذهنه متوقدًا. لكنه في أحد الأیام استمع إلى أخواته وهن یتحدثن فیما بینهن، وأدرك شیئًا لم یلاحظه من قبل. ففي أثناء حدیثهن، كانت تظهر على وجوههن حركات شتى، وكانت نبرات أصواتهن تبدو وكأن لها حیاةً بذاتها. فكان من ذلك قول إحداهن لأخرى
نعم - إلا أنها قالت ذلك بنبرة رتیبة جامدة مع ابتسامة مصطنعة بوضوح - إنها فكرة حسنة
فبطریقة ما، أصبح المعنى الواقع أنني لا أظنها فكرة حسنة مطلقًا ،وكأنها إنما تقول لا
هو المعني الحقيقي لنعم تلك.
وأضحى إریكسون یوجه اهتمامه إلى هذا الأمر، فقد كان ذلك أشبه بلعبة مثیرة، وفي ساعات الیوم التالي، قام بإحصاء ست عشرة صورة من صور لا مما سمعه، وهي تشیر إلى درجات مختلفة من الصرامة، وكانت تصاحبها جمیعًا تعبیرات مختلفة للوجه،وفي إحدى المرات، لاحظ أن إحدى أخواته تقول نعم لشيء ما، وهي تحرك رأسها مومئةً ب لا لقد كان ذلك دقیقًا جدا فإذا كان الناس یقولون فعلیا
نعم وهم يشعرون في الواقع بلا فذلك سیظهر في قسمات وجوههم وإیماءات أجسامهم. وفي مرة أخرى، راقب عن كثب، بطرَف مؤقیه، إحدى أخواته تقدم تفاحة
لأخرى، إلا أن التوتر في وجهها والشدة في ذراعیها أشارا إلى أنها إنما تقوم بذلك تأدبًا، وأنها كانت ترید بوضوح التفاحة لنفسها. ولم تكن تلكما العلامتان مكشوفتین للأخت الأخرى، إلا أنهما بدتا بغایة الوضوح بالنسبة له.
ونتیجة عدم قدرته على المشاركة في الأحادیث الدائرة من حوله، وجد عقله مستغرقًا بالكامل في إیماءات أیدي الناس، وحواجبهم المرتفعة، ونبرات أصواتهم، والانثناء
المفاجئ في أذرعهم. فقد لاحظ على سبیل المثال، كیف كانت عروق الرقبة عند أخواته تبدأ بالخفقان عندما یقفن بجواره، مما یشیر إلى التململ الذي یشعرن به لوجوده، وقد سحرته أنماط تنفسهن وهن یحادثنه، واكتشف أن هناك نغمات معینة في أصواتهن تشیر إلى السأم؛ وعادة ما كان یتبعها التثاؤب، ویبدو أن الشَّعر كان له دور كبیر عند أخواته في أحادیثهن. فالتسریح بعنایة لضفائر الشعر الخلفیة بأصابع الید یدل على نفاد الصبر بمعنى لقد سمعت الكثیر؛ أرجوك أن تصمتي الآن أما تملیسه سریعًا بما هو أقرب للَّاوعي فیمكن أن یشیر إلى الاهتمام الكبیر.
وبما أنه كان حبیس السریر، فقد أصبح سمعه مرهفًا جدا. وغدا بوسعه الاستماع إلى الأحادیث الدائرة في الغرفة المجاورة، حیث لم یكن على الآخرین أن یُظهروا السرور أمامه، وسرعان ما لاحظ نمطًا غریبًا؛ فالناس في أحادیثهم نادرًا ما یكونون صریحین.
فقد تُمضي إحدى أخواته دقائق تحوم حول ما تریده، ملمِّحةً للآخرین بما تریده منهم حقا من قبیل اقتراض قطعة من الملابس، أو الحصول على اعتذار من الأخریات. وكانت نبرة صوتها تشیر بوضوح إلى رغبتها المستترة، حیث كانت تشدد على بعض الكلمات، وكانت تأمل بأن یلتقط الآخرون مرادها، ویقدموا لها ما ترغب فیه؛ لكن تلمیحاتها كانت غالبًا ما تضیع هباءً، فترى نفسها مكرهة على الخروج عن أسلوبها ذاك والتصریح بما تریده، وكانت الأحادیث تترى على هذا النمط المتكرر، وسرعان ما أصبح الأمر بالنسبة له لعبة تخمین، في أقل عدد من الثواني، لما تلمح إلیه الأخت المتحدثة.
لقد بدا الأمر وكأن شلله الذي أقعده قد تحول فجأة إلى إدراكه لقناة تواصلٍ أو تخاطبٍ ثانیةٍ بین البشر، إنها لغة أخرى تعبر عن الناس من أعماق سرائر نفوسهم؛ ودونما إدراك منهم لذلك أحیانًا. فما الذي یمكن أن یحدث لو أنه تمرس في دقائق هذه اللغة بطریقة ما؟ وكیف لذلك أن یغیر في فهمه للناس؟ وهل بوسعه أن یوسع قدراته في قراءة هذه اللغة، لیفهم الإیماءات شبه الخفیة التي یصنعها الناس بشفاههم، وأنفاسهم، ومستوى التوتر في أیدیهم؟
وبعد بضعة شهور، وبینما كان یجلس بقرب نافذة في كرسي جلوس صنعته أسرته له، سمع أخاه وأخواته وهم یلعبون في الخارج وقد استعاد القدرة على تحریك شفتیه، وبات بوسعه
الكلام؛ لكن سائر جسمه ما زال مشلولًا، فأراد بكل جهده أن ینضم إلیهم، وكأنه نسي شلله للحظات، وبدأ في عقله یتصور أنه یقف، ولمدة ثانیة قصیرة أحس برعشة في عضلة في ساقه، وكانت تلك أول مرة یحس فیها بأي حركة في جسمه، فركَّز كل تفكیره بعمق على عضلة بعینها في ساقه، وتذكر الإحساس الذي كان یشعر به فیها قبل إصابته بالشلل، وأراد بشدة أن یحركها، وتخیل أنها تعمل من جدید، وعمدت ممرضته إلى تدلیك تلك المنطقة من ساقه، وشیئًا فشیئًا، وبنجاح متقطع، أخذ یشعر برعشة في تلك العضلة، مع قدر دقیق من الحركة یعود إلیها، وبهذه العملیة البطیئة المؤلمة، علَّم نفسه الوقوف، ثم المشي بضع خطوات، ثم المشي في غرفته، ثم مشي خارجها؛ یزید في مسافة مشیه رویدًا رویدًا.
وبطریقة ما، وبالاعتماد على قوة إرادته وتخیله، استطاع تغییر حالته الفیزیائیة
واستعادة الحركة بصورة كاملة . لقد أدرك بوضوح أن العقل والجسم یعملان معًا؛ بطرق نكاد لا ندركها، ورغبةً منه في دراسة هذا الأمر بصورة أعمق، قرر أن یسعى في مهنة الطب وعلم النفس. وفي أواخر عشرینیات القرن الماضي، أخذ بممارسة مهنة الطب النفسي في مستشفیات مختلفة، وسرعان ما طور طریقةً في العلاج من اختراعه بالكامل، وهي طریقة تتعارض تمامًا مع طرق الخبراء الآخرین في هذا المجال، فقد كان جمیع الاختصاصیین النفسیین تقریبًا یركزون أشد التركیز على الكلمات؛ فكانوا یریدون من مرضاهم التحدث معهم، وبخاصة عن طفولتهم المبكرة. فقد كانوا یأملون بهذه الطریقة أن یستطیعوا الوصول إلى منطقة اللاوعي عند مرضاهم، لكن إریكسون بدلًا من ذلك كان یعنى أشد العنایة بالمظهر الفیزیائي للناس؛ یرى فیه مدخلًا إلى حیاتهم الذهنیة ومنطقة اللاوعي أو العقل الباطن عندهم؛ فالغالب في كلمات الناس أنهم یستخدمونها للتستر؛ فهي طریقتهم لإخفاء ما یجري بالفعل . وكان إریكسون یجعل مرضاه في راحة تامة، ثم یكشف علامات التوتر المخفي عندهم، ورغباتهم غیر المشبعة التي تظهر في قسمات الوجه، ونغمات الصوت، ووضعیة الجلوس، وبذلك كان یستكشف عمقًا أكثر غورًا في عالم التواصل بلا كلام.
لقد كان شعاره راقب، ثم راقب، ثم راقب ولهذا الهدف كان یحتفظ بدفتر ملاحظات، یدون فیه جمیع مشاهداته. ومن العناصر التي أبهرته على نحو خاص كان ضروب المشي عند الناس، فلعلها تظهر الصعوبات التي یواجهها أحدهم في تعلم استخدام رجلیه؛ فكان یراقب الناس وهم یمشون في كل أنحاء مدینته، وكان یوجه انتباهه إلى ثقل الخطوة؛ حیث رأى مشي الحزم عند أصحاب المثابرة والعزیمة القویة؛ ورأى مشي الخفة عند أصحاب التردد والحیرة؛ ومشي المیوعة عند أصحاب الكسل والخمول؛ ومشي التسكع عند شاردي الذهن، كذلك فقد راقب الإفراط في تمایل الأرداف والتبختر الذي بدا له أن صاحبه یرفع به رأسه اختیالًا، مما یشیر إلى مستویات عالیة من الثقة بالنفس عنده، كذلك كان هناك المشي الذي یتظاهر به بعض الناس لیخفوا به ضعفهم أو عدم استقرارهم؛ كمشي التمطي بمدِّ الیدین والرجلین، ومشي التخبط عند المراهقین
المتمردین. وكان یدوِّن ملاحظاته عن التغیرات المفاجئة في ضروب مشي الناس إذا
نالت منهم الإثارة أو الانفعال. وقد أمده كل ذلك بمعلومات لا حصر لها عن مزاجات الناس وثقتهم بأنفسهم.
وفي مقر عمله، كان یضع مكتبه في الطرف البعید من الغرفة، لیجعل مرضاه یمشون إلیه. ویلاحظ التغیرات في مشیتهم؛ قبل الجلسة وبعدها. وكان یتمعن في طریقة جلوسهم، ومستوى التوتر في أیدیهم وهم یمسكون بمقابض الكرسي، والزاویة التي یواجهونه بها لیتحدثوا معه. وفي غضون بضع ثوانٍ، وبلا كلمات متبادلة، كانت له قراءة عمیقة في نقاط عدم استقرارهم ومكامن تصلبهم؛ على نحو ما یظهر منهم بوضوح في لغة جسدهم.
وفي مرحلة من مراحل عمل إریكسون في مهنته عمل في جناح للمختلین عقلیا في إحدى المستشفیات، وفي إحدى الحالات التي واجهته، كان الاختصاصیون النفسیون محتارین بشأن حالة أحد المرضى؛ وهو رجل أعمال سابق كان قد جمع لنفسه ثروة، ثم خسر كل شيء نتیجة الكساد الاقتصادي. وكان كل ما یستطیع فعله هو البكاء، وتحریك یدیه باستمرار إلى الأمام والوراء، خارجتین من جهة صدره. ولم یستطع أحد منهم اكتشاف مصدر هذه الحالة، ولا كیف لهم أن یساعدوه. ولم یكن جعله یتحدث بالأمر السهل، ولم یكن یفیدهم بأي شيء. أما إریكسون، ففي اللحظة التي رأى فیها الرجل فهم طبیعة مشكلته؛ فبهذه الإیماءة كان الرجل یعبر حرفیا عن الجهود العقیمة التي بذلها في حیاته للتقدم والنجاح، والیأس والقنوط الذي حصده من ذلك، وذهب إریكسون إلیه وقال له قد كان في حیاتك كثیر من النجاحات والإخفاقات وعندما قال له ذلك، غیر المریض حركة ذراعیه لتتحركا إلى الأعلى والأسفل.
وبدا المریض مستمتعًا بهذه الحركة الجدیدة وأصبحت الآن حركته.
وبتعاون إریكسون في موقع العمل مع اختصاصي بالعلاج الوظیفي، قام بوضع كتلة مصنوعة من أوراق الزجاج في كل ید من یدي المریض، ووضعا قطعة قاسیة من الخشب أمام المریض. وسرعان ما افتتن المریض بصقله الخشب والرائحة الصادرة من ذلك، وتوقف عن البكاء، وحصل على دروس في النِّجارة، تعلم فیها نحت قطع الشطرنج بدقة وإتقان وبیعها، فبإمعان النظر حصریا في إیماءات جسمه، وتغیر حركته الفیزیائیة، استطاع إریكسون أن یغیر في جمود عقله، ویداویه مما ألمَّ به.
وكان من الموضوعات التي أبهرته الاختلاف في التواصل بلا كلام؛ بین الرجال والنساء؛ وكیف یُظهر ذلك اختلاف طریقة التفكیر بینهما، فقد أحس على الخصوص بتكلُّف النساء؛ ولعل ذلك یعود إلى الشهور التي أمضاها یراقب أخواته عن كثب، فكان بإمكانه تحلیل كل شاردة دقیقة من إیماءاتهن. وجاءته ذات مرة شابة جمیلة، وقالت له بأنها راجعت عددًا من الاختصاصیین النفسیین ولم یوفق أحد منهم إلى عین الصواب في حالتها. فهل یمكن أن یكون إریكسون الموفقَ للصواب؟
ومع أنها تحدثت كثیرًا، إلا أنها لم تتطرق مطلقًا إلى طبیعة مشكلتها، لكن إریكسون كان یراقبها وهي تلتقط بعض النُّسالة من كُمِّ ثوبها، واستمع إلیها، وأومأ برأسه موافقًا على ما تقوله، ثم طرح علیها بعض الأسئلة غیر المهمة. وفجأة، وبلا مقدمات، قال لها بنبرة كلُّها ثقة بأنه قد وفق إلى الصواب بشأنها، وكان الطبیبَ النفسي الوحید في ذلك، وذهلت المرأة من إعجابه بنفسه، فسألته عن السبب الذي یحدو به إلى الشعور بذلك. فقال لها بأنه بحاجة إلى أن یسألها سؤالًا آخر لیثبت ما توصل إلیه.
وسألها قائلًا منذ متى وأنتَ ترتدین ملابس النساء ؟ فإذا بالمرأة تذهل وتقول: لقد كانت رجلًا
وسألته كیف عرفت ؟ وشرح إریكسون لمریضه أنه لاحظ الطریقة التي یلتقط بها نُسالة ثوبه، دون أن ینعطف انعطافًا كبیرًا بصدره . وقد رأى هذه الحركة مرات كثیرة جدا، بحیث یستحیل أن ینخدع عنها بأي حیلة، كذلك كانت طریقة المریض الجازمة بذكره حاجته إلى اختبار إریكسون في البدایة، وكان یعبر عنها بنغمة صوتیة كثیرة التقطع، كانت طریقةً ذكوریة دون أدنى شك، وجمیع الأطباء النفسیین الآخرین أُخِذوا بالمظهر الأنثوي للشاب المریض، وصوتِه الذي عمل على إتقانه بعنایة كبیرة لیكون صوتًا أنثویا، إلا أن لغة جسده لم تكن لتكذب.
وفي مرة أخرى، دخل إریكسون مكان عمله لیجد فیه مریضة جدیدة في انتظاره. قالت له بأنها سعت إلیه لأنها تشكو من رُهاب ركوب الطائرة، فقاطعها إریكسون، وطلب منها الخروج من مكتبه، ثم الدخول إلیه من جدید؛ دون أن یشرح لها سببًا لذلك، وبدا علیها الانزعاج من الأمر، لكنها استجابت له، ودرس هو مشیتها بعنایة، وكذلك وضعیة جلوسها وهي تستقر على الكرسي، ثم طلب منها أن تشرح له مشكلتها.
قالت له: زوجي سیأخذني في رحلة إلى الخارج في شهر أیلول/سبتمبر، وأنا أخاف أشد الخوف من ركوب الطائرة فقال إریكسون سیدتي، عندما یأتي مریض إلى طبیب نفسي فعلیه ألا یكتم عنه أي معلومات، وأنا أعلم شیئًا من أمرك، وسوف أسألك سؤالًا لن یسرَّك ... هل زوجك على
علم بعلاقتك الغرامیة
؟ فقالت مذهولة لا؛ لكن كیف عرفت أنت؟
فقال إریكسون أخبرتني لغة جسدك وشرح لها كیف وضعت ساقیها إحداهما فوق الأخرى في وضعیة متضامة جدا عند
الجلوس فكانت إحدى قدمیها تلف حول كاحل الأخرى بصورة كاملة. وتبعًا لخبرته، فإن كل امرأة متزوجة لدیها علاقة غرامیة یتضام جسمها بهذه الطریقة. كذلك فقد قالت له بوضوح وذلك بنبرة مترددة، وكأنها خجلة بنفسها. ودلت مشیتها على أنها امرأة تشعر بأنها محاطة بعلاقات معقدة خاطئة.
وبمرور السنین، توسعت قدرات المراقبة عند إریكسون إلى عناصر أخرى في التواصل بلا كلام؛ تكاد لا تُلحَظ، فكان قادرًا على تحدید الحالات الذهنیة للناس من أنماط تنفُّسهم، وعن طریق تمثُّل هذه الأنماط بنفسه استطاع تنویم مرضاه في غفوات منوِّمة بالتنویم المغناطیسي، مع إحداث شعور عند المریض بالوفاق العمیق معه.
وكان بوسعه فهم الحدیث دون الواعي، والتمتمة، عندما یحرك المریض شفتیه بكلمة أو اسم بطریقة لا تكاد ترى، وهذا ما یكسب منه رزقهم قارئو البخت، والعرَّافون،
وبعض السحرة. وكان بوسعه أن یعلم بحَیض مساعدته من ثقل ضغطها على مفاتیح الأحرف في آلة الطباعة. وبإمكانه أن یخمن سیاق مهنة الناس من صفات أیدیهم، وثقل خطواتهم، والطریقة التي یمیلون بها رؤوسهم، والتغیرات في نبرة أصواتهم. وكان یبدو في نظر أصدقائه ومرضاه كأن له قوًى في العرَافة، إلا أنهم ببساطة لم یكونوا یدركون الزمن الطویل والجهد الشاق اللذین نالا منه في دراسة هذه الموضوعات، لیصبح متمرسًا في اللغة الثانیة للإنسان.
0 التعليقات:
إرسال تعليق